الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول الألولسي مبيّنًا أصل الشرك وعبادة الأصنام: "وذلك لأنهم - أي: المشركين- كما هو المشهور وضعوها على صور رجال صالحين، ذوي خطر عندهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادتها فإن أولئك الرجال يشفعون لهم، وقيل: إنهم كانوا يعتقدون أن المتولي لكل إقليم روح معين من أرواح الأفلاك، فعينوا لذلك الروح صنمًا من الأصنام، واشتغلوا بعبادتها قصدًا إلى عبادة الكواكب، وقيل غير ذلك، والحق أن من الأصنام ما وضع على الوجه الأول، ومنها ما وضع لكونها كالهياكل للروحانيات"
(1)
.
ونقل بعض أهل العلم أن عبادة فارس للنار هو من هذا الباب، إذ كانوا يعتقدون أن عبادة النار تقرب إلى البارئ عز وجل؛ لأنَّها أقوى وأعظم الأركان، وهو كقول المشركين العرب في عبادتهم الأوثان:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، وأنه لا يجوز أن يكون غير هذا حالة من يعبد شيئًا من دون الله؛ لأنَّه يعلم أن معبوده من خشب، أو حجر، أو نحاس، أو ذهب، أو شيء من الجواهر، غير خالقه، ولا صانعه ولا مدبرة أمره، ولا محولة حاله
(2)
.
*
المسألة الثانية* أدلة القاعدة
دلت على صحة القاعدة عدة أمور:
أولًا: ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (صارَتِ
= على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم، وجعلوا لها بيوتًا وسدنة وحجابًا وحجًا وقربانًا، ولم يزل هذا في الدنيا قديمًا وحديثًا). [إغاثة اللهفان (2/ 222)].
(1)
روح المعاني (11/ 88 - 89)، ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله في مناظرة إبراهيم عليه السلام للنمرود:(وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدًّا: وهي أن شرك العالم إنما هو مسند إلى عبادة الكواكب والقبور، ثم صورت الأصنام على صورها). [مفتاح دار السعادة (2/ 205)].
(2)
البدء والتاريخ، للطاهر المقدسي (1/ 62).
الأوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نوحٍ فِي العَرَبِ بَعْدُ؛ أمَّا وَدّ فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدُومَةِ الجَنْدَل، وَأمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطيْفٍ بِالجَوْفِ عِنْدَ صَبا، وأمّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وأمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرِ لآل ذِي الكَلاع، أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلمَّا هَلَكُوا أوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أنْ انْصبُوا إِلَى مَجَالِسهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أنْصابًا، وَسَموها بأسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ)
(1)
.
وروى ابن جرير في قوله تعالى: {وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} قال: "كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم"
(2)
.
فهذه الَاثار توضّح وتبيّن حقيقة الشرك وعبادة الأصنام في عهد نوح عليه السلام، وأنها وضعت في الأصل لتنوب مناب معبوداتهم من الأنبياء والصالحين، ولتقوم مقام قبورهم
(3)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قومًا صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب:{وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ} ، (4/ 1873)، برقم (4636).
(2)
تفسير الطبري (29/ 99).
(3)
ذكر الحافظ ابن حجر عن الواقدي قوله: (كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة طائر)، ثم قال معلقًا على قوله:"وهذا شاذ، والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر، وهو مقتضى ما تقدم من الآثار في سبب عبادتها والله أعلم". [انظر: فتح الباري (8/ 669)].
صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين فتنة القبور وفتنة التماثيل"
(1)
.
ويقول الحافظ ابن حجر: "وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام، ثم تبعهم من بعدهم على ذلك"
(2)
.
ثانيًا: إن عبادة الأصنام لأجل كونها أحجارًا أو أخشابًا مما يحكم العقل بفساده، فلا يعقل أن يصنع أحد صنمًا بيده، وينحته ويشكله ببنانه، من أحجار وأخشاب، ثم بعد فراغه منه مباشرة يعتقد أنه إلهه ومعبوده
(3)
.
يقول الإمام ابن القيم: "وإلا فمن المعلوم أن عاقلًا لا ينحت خشبة، أو حجرًا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده "
(4)
.
ويقول الشهرستاني موضحًا هذا الأمر: "وبالجملة وضع الأصنام حيث ما قدروه إنما هو على معبود غائب، حتى يكون الصنم المعمول على صورته وشكله وهيأته نائبًا منابه، وقائمًا مقامه، وإلا فنعلم قطعًا أن عاقلًا ما لا ينحت جسمًا بيده، ويصور صورة، ثم يعتقد أنه إلهه
(1)
إغاثة اللهفان (1/ 184)، ودلَّ كلام ابن القيم على أن أصل عبادة الأصنام هو الغلو في الأموات وقبورهم، يقول الإمام ابن كثير:"وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام".
ويقول الإمام ابن قدامة: "وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها". [انظر: البداية والنهاية (10/ 262)، والمغني لابن قدامة (2/ 193)، وانظر: بدائع الفوائد (3/ 725)].
(2)
فتح الباري (8/ 669).
(3)
يقول الرازي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} [الزمر: 3]: "والمراد بهذا الكذب: وصفهم بهذه الأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة، وهم نحتوها وتصرفوا فيها، والعلم الضروري حاصل بأن وصف هذه الأشياء بالإلهية كذب محض". [التفسير الكبير (26/ 211)].
(4)
إغاثة اللهفان (2/ 224).
وخالقه، وإله الكل، وخالق الكل؛ إذ كان وجوده مسبوقًا بوجود صانعه، وشكله يحدث بصنعة ناحته
(1)
، لكن القوم لما عكفوا على التوجه إليها كان عكوفهم ذلك عبادة، وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها، وعن هذا كانوا يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"
(2)
.
ثالثًا: ومما يدل على أن المشركين لم يقصدوا عبادة ذات الأصنام، وإنما قصدوا عبادة من صورت الأصنام على صورهم: أنهم لم يكونوا يعبدون إلا ما صوروه ونحتوه من الأصنام والأوثان، فلم يعبدوا جميع الأحجار، ولا جميع الأشجار، بل كان الصنم يكون مع أحدهم مدة من الزمن يعبده فإذا رأى أحسن منه رمى الأول واستبدله بالثاني وهكذا، وهذا يدل على أن مقصودهم ليس هو ذات الصنم المصنوع من الحجر أو الخشب.
يقول الشيخ العمراني: "إن المشركين إنما كانوا يعبدون من الأخشاب والأحجار أوثانًا وأصنامًا؛ فالأوثان ما نحتوه على مثال ما ليس له صورة، والأصنام على مثال ما له صورة، دقوم إبراهيم عليه السلام إنما عبدوا تلك الأوثان والأصنام لأجل نحتهم وتصويرهم الذي نحتوه وصوروه، تعظيمًا للنحت والتصوير لا للأعيان، بدليل أنهم كانوا لا يعبدونها قبل ذلك، ولما كسرها إبراهيم عليه السلام وأزال تصويرها ونحتها بطلت عندهم أن تكون آلهة"
(3)
.
(1)
في الأصل المطبوع: (إذ كان وجوده مسبوقًا بوجوده صانعه، وشكله يحدث بصنعته ناحته)، ولعل الصواب ما أثبته في المتن، والله أعلم.
(2)
الملل والنحل للشهرستاني (2/ 259 - 260)، ويقول الرازي:"ويمكن أن يقال: إن العاقل لا يعبد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صورًا لها". [التفسير الكبير (26/ 211)].
(3)
الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (1/ 189).