الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من إحداث المخلوق ومن صُنع المخلوق، فإنّ هذا كفرٌ أكبر يُخرِجُ من الملّة"
(1)
.
*
المسألة الخامسة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
بعض ما ظهر لي من فوائد للقاعدة:
أولًا: هذا الحكم الذي دلت عليه القاعدة عام ومطرد في جميع الكائنات؛ وليس خاصًا بالأسباب المؤثرة فحسب؛ فمن اعتقد في أي مخلوق كائنًا ما كان له يفعل بذاته ويوجد الشيء بنفسه ومشيئته استقلالًا بدون إرادة الله ومشيئته وقدرته فقد أشرك بالله شركًا أكبر مخرجًا عن ملة الإسلام؛ حتى ولو كان الفعل مقدورًا للبشر، فكيف إذا وجد في الأمة من يعتقد في أصحاب القبور من يفعل وينفع ويضر بروحه، ويعتقدون أن في أيديهم الشفاء، والعطاء، والصحة وغير ذلك من أمور تتعلق بالدنيا بل والآخرة كذلك؛ من مغفرة الذنوب وستر العيوب، وهداية القلوب، ودخول الجنة
(2)
.
ثانيًا: الواجب اعتقاد تأثير الأسباب في مسبَّباتها بمشيئة الله وإذنه وقدرته، وبما أودعه فيها من الطبيعة والعادة، كما أن الأسباب نفسها وجدت بإيجاد الرب تعالى، وهو سبحانه الجاعل فيها التأثير في المسببات، فنفي كون الأسباب مؤثرة بإذن الله تعالى قدح في العقل.
يقول الألوسي: "فالأسباب مؤثرة بقوى أودعها الله تعالى فيها، ولكن بإذنه، وإذا لم يأذن وحال بينها وبين التأثير لم تؤثر،
…
ولو لم يكن في هذه الأسباب قوى أودعها العزيز الحكيم لما قال سبحانه:
(1)
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (ص 151).
(2)
انظر: تحفة الأحوذي (5/ 197).
{يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 69]؛ إذ ما الفائدة في القول وهي ليس فيها قوة الإحراق، وإنما الإحراق منه تعالى بلا واسطة، ولو كان الأمر كما ذكروا لكان للنار أن تقول: إلهي ما أودعتني شيئًا، ولا منحتني قوة، وما أنا إلا كَيَدٍ شلاء، صحبتها يد صحيحة تعمل الأعمال، وتصول وتجول في ميدان الأفعال؛ أفيقال لليد الشلاء: لا تفعلي وفي ذلك الميدان لا تنزلي، ولا يقال ذلك لليد الفعالة وهي الحَرِية بتلك المقالة"
(1)
.
ثالثًا: تضمنت القاعدة بيان حكم من اعتقد في السبب بذاته دون مشيئة الله تعالى، وأن ذلك شرك أكبر في الربوبية والإلهية، وقد مضى بيان شيء من ذلك فيما سبق، والحاصل أن من اعتقد في الأسباب أو في غيرها من المخلوقات أنها فاعلة ومؤثرة بدون مشيئة الله وإرادته الكونية كان واقعًا في شرك الربوبية، وهو نسبة الخلق والإيجاد لغيره سبحانه وتعالى.
فإذا استقرت هذه العقيدة الشركية في القلب استلزمت أعمالًا قلبية أخرى؛ من التوكل والالتجاء والخوف والرجاء والرهبة والمحبة والطمأنينة لهذه الأسباب، وهذه من أعظم العبادات القلبية التي من صرفها لغير الله تعالى وقع في شرك العبادة.
فالالتفات إلى الأسباب شرك بالله تعالى؛ لأنه تضمن صرف العبادة لغيره سبحانه؛ من اعتماد القلب، ورجائه، والاستناد إلى غيره عز وجل؛ فإن وجد ذلك مع اعتقاد استقلالية تأثيرها في المسببات كان شركًا أكبر كما سبق بيانه.
واعلم أنه ليس في المخلوقات من يستحق هذا؛ لأنَّه لا يوجد سبب مستقل بمطلوب، بل لا بد من انضمام أسباب أخر إليه، وما ثَمَّ علة تامة إلا مشيئة الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا بد
(1)
روح المعاني (1/ 190).
أيضًا من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود، فكل سبب فله شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده لم يحصل مُسَبَّبُه، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيده إن لم تصرف المفسدات، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع، وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضي فليس في الوجود شيء واحد هو المقتضي بنفسه
(1)
.
وعليه فلا يستقيم عقلًا ولا شرعًا صرف العبادة، أو الاعتقاد في مثل هذه الأسباب الناقصة الضعيفة التي لا تفي بالمطلوب لوحدها.
يقول الإمام ابن تيمية: "وإما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها، وسبب تام يستلزم مسببه فهذا باطل"
(2)
.
هذا ومما ينبغي أن يعلم أنه بعد انتفاء المانع ووجود المقتضي فلا بد من تسخير مسبب الأسباب وخالق الأسباب، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب، والتوكل عليه، والدعاء له، فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر ولو لم يشأ الناس، وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن وإن شاءه الناس
(3)
.
رابعًا: في القاعدة رد على الفلاسفة والطبائعيين الذين يعتقدون في الأسباب، وأنه لا يمكن تجريدها عن آثارها ونتائجها، فهي ليست عندهم مربوبة مسخرة، بل هي فاعلة منتجة بذاتها.
يقول الإمام ابن القيم: "فهكذا سائر أفعاله سبحانه، مع أنه أشهد
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 167).
(2)
المصدر السابق، وانظر:(8/ 169 - 133)، وبيان تأسيس الجهمية (2/ 457).
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (7/ 166).
عباده بذلك: أنه مسبب الأسباب، وأن الأسباب خلقه، وأنه يملك تعطيلها عن مقتضياتها وآثارها، وأن كونها كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو الذي جعلها كذلك، وأودع فيها من القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها، وأنه إن شاء أن يسلبها إياها سلبها، لا كما يقول أعداؤه من الفلاسفة والطبائعيين وزنادقة الأطباء: أنه ليس في الإمكان تجريد هذه الأسباب عن آثارها وموجباتها.
ويقولون لا تعطيل في الطبيعة، وليست الطبيعة عندهم مربوبة مقهورة تحت قهر قاهر، وتسخير مسخر يصرفها كيف يشاء، بل هي المتصرفة المدبرة، ولا كما يقول من نقص علمه ومعرفته بأسرار مخلوقاته، وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز، وبالأسباب التي ربط بها خلقه وأمره، وثوابه وعقابه، فجحد ذلك كله ورد الأمر إلى مشيئة محضة، مجردة عن الحكمة والغاية، وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباط الأسباب بمسبباتها، والقوى بمحالها، ثم المحذور اللازم من إنكار الفاعل المختار، الفعال لما يريد بقدرته ومشيئته فوق كل محذور، فإن القائل بذلك يجعل هذه الشرور بأسرها لازمة له لزوم الطفل لحامله، والحرارة للنار ولا يمكنه دفعها"
(1)
.
(1)
طريق الهجرتين (ص 256).