الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في قصة عمرو بن عبسة السلمي من الفوائد عند قوله: (كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان)
(1)
: "الأولى: كون الشرك يعرف قبحه بالفطرة، لقوله: كنت أظن الناس ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان"
(2)
.
*
المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
يستطيع المتأمل لما سبق من تقرير لمعنى القاعدة، وكلام أهل العلم حولها استخلاص بعض الفوائد، وفيما يلي بعض ما ظهر لي من ذلك:
أولًا: أن من رحمة الله تعالى، وعظيم منته على عباده أن خلقهم متهيئين لمعرفته وعبادته، فخلق عقولهم مقرة بربوبيته ووحدانيته، واستحقاقه للإلهية دون غيره، وجعل نفوسهم قابلة لتوحيده وإفراده بالتأله، منصرفة لعبادته وحده لا شريك له، مستقبحة لجعل ند وشبيه له في العبادة، مستهجنة لصرف خالص حقه لغيره ممن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا.
وزادهم من نعمائه، وخصهم من سائر مخلوقاته فأنزل عليهم وحيًا أحيا به قلوبهم بالتوحيد والإخلاص، ونَبَّه به عقولهم، واستثار به ما وجد في مكامن نفوسهم من حسن توحيده، وإفراده بالتأله والخضوع والمحبة، وقبح الإشراك به، واتخاذ أنداد من دونه يشاركونه في التوجه
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه، باب: إسلام عمرو بن عبسة (1/ 569)، برقم (832). يقول الإمام النووي في وصف حديث عمرو بن عبسة:"ومن أهمها حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه الطويل المشتمل على جمل كثيرة من قواعد الإسلام وآدابه". [رياض الصالحين (ص 78)].
(2)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 10).
والتعظيم والمحبة والخوف والخشية وغيرها من صنوف التعبدات، وأنواع التقربات.
ثانيًا: أنه مع استقرار قبح الشرك وشناعته في العقول الصحيحة، ونفور النفوس منه بفطرتها وطبيعتها السليمة التي خلقت عليها فإن الحجة على الخلق لم تقم بمجرد ذلك، بل لا بد من بعثة الرسل، ونزول الوحي، كما قال عز وجل:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15].
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله مبينًا ومقررًا لذلك: "أما وجه دلالة القرآن عليه فهو أن مقتضى القول الأول: أن ما أقام الله لهم من البراهين القطعية؛ كخلق السماوات والأرض، وما فيهما من غرائب صنع الله الدالة على أنه الرب المعبود وحده، وما ركز فيهم من الفطرة التي فطرهم عليها تقوم عليهم به الحجة، ولو لم يأتهم نذير، والآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لا يعذب أحدًا حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الفطرة؛ فمن ذلك قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15] فإنه قال فيها: {حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ، ولم يقل حتى نخلق عقولًا، وننصب أدلة، ونركز فطرة.
ومن ذلك قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم هو إنذار الرسل، لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة"
(1)
.
ويقول الإمام ابن القيم بعد أن قرر أن الشرك إنما علم قبحه بالعقل والفطرة قبل الشرع: "ولكن ههنا أمر آخر وهو أن العقاب على ترك هذا الواجب يتأخر إلى حين ورود الشرع، كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا
(1)
أضواء البيان (2/ 43).
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}، وقوله:{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} [الملك: 8، 9]، وقوله:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} [القصص: 59]، وقوله:{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)} [الأنعام: 131]، فهذا يدل على أنهم ظالمون قبل إرسال الرسل، وأنه لا يهلكهم بهذا الظلم قبل إقامة الحجة عليهم، فالآية رد على الطائفتين معًا؛ من يقول: إنه لا يثبت الظلم والقبح إلا بالسمع، ومن يقول: إنهم معذبون على ظلمهم بدون السمع، فالقرآن يبطل قول هؤلاء وقول هؤلاء، كما قال تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [القصص: 47] فأخبر أن ما قدمت أيديهم قبل إرسال الرسل سبب لإصابتهم بالمصيبة، ولكن لم يفعل سبحانه ذلك قبل إرسال الرسول الذي يقيم به حجته عليهم
…
وهذا في القرآن كثير يخبر أن الحجة إنما قامت عليهم بكتابه ورسوله، كما نبههم بما في عقولهم وفطرهم من حسن التوحيد والشكر وقبح الشرك والكفر"
(1)
.
(1)
مدارج السالكين (3/ 489 - 490).