الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العالمين؛ لأن المتخذ للشفعاء والأنداد إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه
…
إلى أن قال: وكل هذا تنقص للربوبية، وهضم لحقها ذكر معناه ابن القيم؛ فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك شرك، ونزه نفسه عنه فقال:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18] "
(1)
.
*
المسألة الثالثة * أدلة القاعدة
قد دل على تقرير هذه القاعدة عدة أدلة منها:
أولًا: إكثاره سبحانه وتعالى من ذكر معاني ربوبيته الحقة، وقيوميته الشاملة، وملكه التام لجميع ما في الكون، وذلك في معرض إبطال حجج المشركين، العادلين به غيره في العبادة؛ يأتي هذا مع ثبوت إقرار المشركين بمعاني ربوبيته في الجملة، وهذا يشير إلى أن ثمة تقصيرًا وتفريطًا، وهضمًا وتنقيصًا من قبل المشركين في هذا الجانب العظيم، وهو ما سبق تقريره في قاعدة التلازم بين أنواع الشرك.
من ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)} [يونس: 34]، وقوله سبحانه:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} [الرعد: 16]، وقوله عز وجل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ
(1)
تيسير العزيز الحميد (ص 221).
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 31، 32].
ثانيًا: ما دلَّ من النصوص على أن المشركين بسبب إشراكهم وعبادتهم لغيره سبحانه قد هضموا حق الربوبية، وتنقصوا عظمة الإلهية، فوصفوا الله تعالى بلسان حالهم أو مقالهم بما لا يليق بربوبيته جلَّ في علاه، فمن ذلك وصفهم لله سبحانه وتعالى بعدم العلم والجهل العظيم البالغ بعظمة الربوبية وجلال الإلهية؛ ومن تلك النصوص:
قوله سبحانه وتعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18]، فاتخاذهم للشفعاء من أعظم التنقص لعظمة الربوبية، واتهام لله تعالى -بلسان حالهم- بالجهل وعدم العلم، ولذا استنكر الله عليهم ذلك.
يقول الشيخ السعدي في معنى الآية: "أي الله تعالى هو العالم الذي أحاط علمًا بجميع ما في السموات والأرض، وقد أخبركم بأنه ليس له شريك، ولا إله معه، أفأنتم يا معشر المشركين تزعمون أنه يوجد لها فيها شركاء، أفتخبرونه بأمر خفي عليه وعلمتموه، أأنتم أعلم أم الله، فهل يوجد قول أبطل من هذا القول المتضمن: أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء أعلم من رب العالمين، فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول، فإنه يجزم بفساده وبطلانه"
(1)
.
ثالثًا: ومما يدل على أن الشرك يتضمن التنقيص والهضم لحق الإلهية وجلال الربوبية اشتماله على الظلم العظيم، والمنكر الفاحش بتشبيه الرب العظيم القادر، والخالق العليم القاهر بالمخلوق الضعيف الحقير الذي لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلًا عن أن يملكه لغيره،
(1)
تفسير السعدي (ص 360).
فتوجه إليه بالعبادة، وصرف له خالص الذل والإنابة، فدعاه عند حاجته، واستنجده عند كربته.
يقول الإمام ابن القيم: "والمقصود أن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات كان أبغض الأشياء إلى الله تعالى، وأكرهها، وأشدها مقتًا لديه، ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه، وحرم ذبائحهم، ومناكحتهم، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وجعلهم أعداء له سبحانه، ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يتخذوهم عبيدًا؛ وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين
…
فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الشرك؛ فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده"
(1)
.
رابعًا: الأدلة الدالة على أن سوء الظن، أو الظن السيء يتضمن الشرك الأكبر بالله العظيم، بل هو أعظم إساءة ظن وجدت من بني البشر، فما من مشرك على ظهر البسيطة إلَّا وسوء الظن بالله تعالى هو الذي أوقعه فيما وقع فيه من التشريك في عبادة الرب تبارك وتعالى، ولو أحسن ظنه بالله، وأسمائه، وصفاته، وعظمته، وملكه وغناه عن كل أحد بذاته، وكل أحد سواه فقير إليه بذاته، وقَدَرَ الله حق قدره لما حام حول الشرك ولا شم رائحته.
قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6]، فجعل سبحانه وتعالى استحقاقهم للوصف بالشرك
(1)
إغاثة اللهفان (1/ 60 - 61).
بسبب سوء ظنهم بالله تبارك وتعالى، فاتخاذهم للشريك مع الله تعالى كان علامة على ظنهم السيء بالله تعالى.
قال ابن الجوزي: "قوله تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} : فيه خمسة أقوال:
أحدها: أنهم ظنوا أن لله شريكًا"
(1)
.
وقوله سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} [الصافات: 85 - 87]؛ أي: فما ظنكم أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره
(2)
.
قال أبو السعود في معنى الآية: "أي: بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربًّا للعالمين حتى تركتم عبادته خاصة وأشركتم به أخس مخلوقاته، أو فما ظنكم به أي شيء هو من الأشياء حتى جعلتم الأصنام له أندادًا، أو فما ظنكم به ماذا يفعل بكم، وكيف يعاقبكم بعد ما فعلتم ما فعلتم من الإشراك به"
(3)
.
ويقول الشيخ السعدي: "فما ظنكم برب العالمين، أي: وما الذي ظننتم برب العالمين من النقص حتى جعلتم له أندادًا وشركاء"
(4)
.
يقول الإمام ابن القيم: "فالشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن بالله تعالى، ولهذا قال إبراهيم إمام الحنفاء لخصمائه من المشركين:{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} ، وإن كان المعنى ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به وقد عبدتم معه غيره وجعلتم له ندًّا فأنت تجد تحت هذا التهديد ما ظننتم بربكم من السوء حتى عبدتم
(1)
زاد المسير (7/ 426)، وانظر: تفسير البحر المحيط (8/ 91).
(2)
انظر: تفسير الطبري (23/ 70)، وتفسير البغوي (4/ 30)، وتفسير ابن كثير (4/ 13).
(3)
تفسير أبي السعود (7/ 197)، وانظر:(5/ 130).
(4)
تفسير السعدي (ص 705).
معه غيره فإن المشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم من وزير أو ظهير أو عون وهذا أعظم التنقيص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك وإما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة أو لا يرحم حتى يجعله الواسطة يرحم أو لا يكفي عبده وحده أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة كما يشفع المخلوق عند المخلوق فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به وتكثره به من القلة وتعززه به من الذلة أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه كا هو حال ملوك الدنيا وهذا أصل شرك الخلق.
أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم حتى يرفع الوسائط ذلك أو يظن أن للمخلوق عليه حقًا فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه ويتوسل إليه بذلك المخلوق كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا يمكنهم مخالفته وكل هذا تنقص للربوبية وهضم لحقها ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله تعالى وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه من قلب المشرك بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به فينقص ويضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه لكفى في شفاعته.
فالشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه والتنقص لازم له ضرورة شاء المشرك أم أبى ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره وأن يخلد صاحبه في العذاب الأليم ويجعله أشقى البرية فلا تجد مشركًا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه وإن زعم أنه يعظمه بذلك كما أنك لا تجد مبتدعًا إلا وهو متنقص للرسول وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة، فإنه يزعم أنها خير من السُّنَّة وأولى بالصواب أو يزعم أنها هي السُّنَّة إن