الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفرقان: 77]، وقال:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)} [هود: 101]، فغير الله لا يجوز أن يكون مستعانًا به، متوكلًا عليه؛ لأنه لا يستقل بفعل شيء أصلًا"
(1)
.
ومن أعظم أنواع دعاء العبادة التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى هو توحيده سبحانه والإيمان به عز وجل، وتعظيمه وإجلاله تبارك وتعالى.
يقول الإمام ابن رجب: "اعلم أن أصل الدعاء في اللغة: الطلب، فهو استدعاء لما يطلبه الداعي ويؤثر حصوله، فتارة يكون الدعاء بالسؤال من الله عز وجل والابتهال إليه؛ كقول الداعي: اللَّهُمَّ اغفر لي، اللَّهُمَّ ارحمني، وتارة يكون بالإتيان بالأسباب التي تقتضي حصول المطالب؛ وهو الاشتغال بطاعة الله وذكره، وما يجب من عبده أن يفعله وهذا هو حقيقة الإيمان
…
فما اسْتَجْلَبَ العبد من الله ما يحب، واسْتَدْفَعَ منه ما يكره بأعظم من اشتغاله بطاعة الله، وعبادته، وذكره، وهو حقيقة الإيمان، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا"
(2)
.
*
المسألة الثالثة * أدلة القاعدة
لا تكاد أدلة هذه القاعدة تحصى إلا بشيء من الجهد، خاصة بعد التأمل في آيات القرآن المجيد، وأحاديث المصطفى الكريم، وفيما يأتي بعض ما وقفت عليه من أدلة مما ذكره أهل العلم، أو ظهر لي استقامة الاستدلال به:
أولًا: من المعلوم أن دعاء المسألة ودعاء العبادة لا يخرجان عن مفهوم العبادة العام، كما سبق بيانه؛ فدعاء العبادة هو العبادة نفسها،
(1)
بيان تلبيس الجهمية (2/ 457).
(2)
فتح الباري، لابن رجب (1/ 20).
ودعاء المسألة دلت النصوص الشرعية على أنه عبادة، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ"، وقرأ:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، إلى قوله:{دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]
(1)
.
فإذا ثبت كون الدعاء بنوعيه عبادة صح أن يتوجه الأمر أو النهي إليهما جميعًا؛ لأن الله لا يأمر إلَّا بما هو عبادة يحبها ويرضاها، وحمل الأمر أو النهي على أحدهما دون الآخر تحكم بلا دليل، إذ كلاهما محبوب لله تعالى فتوجه إليها الأمر سواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب.
لكن قد يكون أحد المعنيين أظهر من الآخر، فهذا لا يعني أن حمله على الآخر يعد باطلًا، بل معناه حق وصواب وإن كان ظهوره ليس كالأول، وذلك إنما يصار إليه إذا كان في النص قرينة تقوي حمله على أحد المعنيين، فإذا لم يكن في الدليل النصي قرينة تحدد أحد المعنيين، تعين حمله على المعنيين جميعًا على السواء؛ لأن حمل النص على أحد المعنيين بدون دليل ولا برهان تحكُم في النص وذلك لا يجوز.
ثانيًا: الأدلة التي جاء فيها الأمر بدعاء الله وحده، والنهي عن دعاء غيره، أو فيها الثناء على الداعين فسَّرها أهل العلم بدعاء العبادة ودعاء المسألة، وفي بعضها نصوا على أن أحد المعنيين أظهر من المعنى
(1)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 267)، برقم (18378)، وأبو داود في سننه، باب: الدعاء (2/ 76)، برقم (1479)، والترمذي في جامعه (5/ 211)، برقم (2969)، وقال عقبه:"قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح"، وأخرجه البزار في مسنده (8/ 205)، برقم (3243)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/ 667)، برقم (1802)، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وصححه النووي في الأذكار (309)، وقال الحافظ ابن حجر عقب ذكره للحديث:"أخرجه أصحاب السُّنن بسند جيد". [فتح الباري (1/ 49)].
الآخر، مع اعتبار المعنى الآخر، وفيما يأتي بعض هذه النصوص وكلام أهل العلم في بيانها:
فمن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60].
يقول الإمام الطبري: "وقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}: يقول تعالى ذكره: ويقول ربكم أيها الناس ادعوني لكم استجب؛ يقول: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دون الأوثان والأصنام وغير ذلك أستجب لكم؛ يقول أجب دعاءكم، فأعفو عنكم وأرحمكم"
(1)
.
وبعض أهل العلم فسر الدعاء بدعاء العبادة، وممن ذكر هذا البغوي حيث قال:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ؛ أي: اعبدوني دون غيري أجبكم وأثبكم وأغفر لكم، فلما عبر عن العبادة بالدعاء جعل الإصابة استجابة"
(2)
.
وذكر الثعلبي معنى القولين ونسبهما إلى أكثر المفسرين حيث قال: " {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}؛ أي: وحدوني واعبدوني دون غيري أجبكم، وآجركم، وأثيبكم، وأغفر لكم. هذا قول أكثر المفسرين يدل عليه سياق الآية"
(3)
.
ويقول الإمام ابن تيمية: "ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} : فالدعاء يتضمن النوعين، وهو في دعاء العبادة
(1)
تفسير الطبري (24/ 78)، يقول الإمام الشوكاني:"وكون الدعاء من العبادة لا يستلزم أن الإجابة هي القبول للدعاء؛ أي: جعله عبادة متقبلة، فالإجابة أمر آخر غير قبول هذه العبادة، والمراد أنه سبحانه يجيب بما شاء وكيف شاء، فقد يحصل المطلوب قريبًا، وقد يحصل بعيدًا، وقد يدفع عن الداعي من البلاء ما لا يعلمه بسبب دعائه، وهذا مقيد بعدم اعتداء الداعي في دعائه". [فتح القدير (1/ 184)].
(2)
تفسير البغوي (4/ 103).
(3)
تفسير الثعلبي (8/ 279).
أظهر؛ ولهذا أعقبه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية، ويفسر الدعاء في الآية بهذا وهذا"
(1)
.
ويقول الشيخ السعدي في معنى الآية: "هذا من لطفه بعباده ونعمته العظيمة، حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأمرهم بدعائه دعاء العبادة ودعاء المسألة، ووعدهم أن يستجيب لهم، وتوعد من استكبر عنها"
(2)
.
ويقول الشيخ الأمين الشنقيطي: "قال بعض العلماء: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}: اعبدوني أثبكم من عبادتكم، ويدل لهذا قوله بعده: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}، وقال بعض العلماء: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}؛ أي: اسألوني أعطكم، ولا منافاة بين القولين لأن دعاء الله من أنواع عبادته"
(3)
.
ثالثًا: ومما يدل على صحة القاعدة مسألة التلازم الحاصل بين دعاء العبادة ودعاء المسألة؛ إذ كل دعاء عبادة يستلزم دعاء المسألة ويتضمنه من جهة، وكل دعاء مسألة يتضمن دعاء العبادة، فلا يمكن تصور صدور دعاء العبادة من العبد بدون نية الطلب ولو بدون صيغة السؤال القولية، إذ كل عابد إنما يريد ويطلب بعبادته رضا الله وجنته، والبعد عن سخطه وناره، كما أن دعاء المسألة داخل في دعاء العبادة
(4)
، إذ هو فرد من أفراده، فثبت بذلك عدم انفكاك أحد النوعين عن الآخر، وعليه يكون الأمر بأحدهما أمرًا بالآخر، والنهي عن أحدهما نهي عن الآخر.
يقول الإمام ابن تيمية: "اعلم أن لفظ الدعاء والدعوة يتناول
(1)
مجموع الفتاوى (15/ 12).
(2)
تفسير السعدي (740).
(3)
أضواء البيان (6/ 393)، وانظر: مواهب الجليل (1/ 378).
(4)
انظر: أضواء البيان للشنقيطي (6/ 84).
معنيين؛ دعاء العبادة ودعاء المسألة، وكل عابد سائل، وكل سائل عابد، فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، وإذا جمع بينهما فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر وإن لم يكن هناك صيغة سؤال ولا طلب، ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب، والخوف والطمع"
(1)
.
ويقول الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ: "لا انفكاك في الحقيقة بين دعاء المسألة ودعاء العبادة، فهذا هو ذاك، إما بالتضمن أو باللزوم، ومعلوم أن دلالات التضمن واللزوم دلالات لغوية واضحة جاءت في القرآن، وجاءت في السُّنَّة"
(2)
.
رابعًا: سبق البيان بالأدلة أن الدعاء في الشرع على نوعين؛ دعاء عبادة ودعاء مسألة، وجاء في النصوص الشرعية الأمر أو النهي عن الدعاء بإطلاق، بدون تقييد له بنوع معين فالقاعدة أنه يحمل على المعنيين لدلالة النصوص على العموم، ومن تلك الأدلة:
قوله تعالى ناهيًا عن دعاء غيره: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: 106]، فقوله:{وَلَا تَدْعُ} عام يتناول دعاء العبادة ودعاء المسألة، ولا دليل على التخصيص أو التقييد.
يقول الشيخ صالح آل الشيخ: "فقوله: {وَلَا تَدْعُ} : هذا نهي، والنهي هنا قد توجه إلى الفعل (تدع) وإذا كان كذلك فإنه يعمُّ أنواع الدعاء، وسبق القول بأن الدعاء منه: دعاء مسألة ومنه دعاء عبادة، والقاعدة: أن النكرة في سياق النهي، أو في سياق النفي، أو في سياق
(1)
مختصر الفتاوى المصرية (ص 128).
(2)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص 181).
الشرط، فإنها تعمُّ، و (تدعُ) نكرة؛ لأنه فعل مشتمل على مصدر، والمصدر حدثٌ نكرة، فهو يعمّ نوعي الدعاء"
(1)
.
خامسًا: ومما يدل على صحة توجه الأمر أو الثناء أو النهي عن دعاء غير الله، واشتمال ذلك على نوعي الدعاء أن دعاء المسألة لا يصح توجهه -وحتى دعاء العبادة- إلا لمن يملك النفع والضر، والعطاء والمنع، الغني الكريم، العالم بأحوال الخلق جميعهم فلا تخفى عليه خافية، وليس ذلك إلا الرب الخالق تبارك وتعالى، فإذا جاء النهي عن دعاء غيره تعالى، أو الأمر بإفراده وإخلاصه والثناء على أهله تضمن كلا النوعين.
يقول الإمام ابن تيمية في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 55، 56]: "هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء، دعاء العبادة ودعاء المسألة، فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان، فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره ودفعه، وكل من يملك الضر والنفع، فإنَّه هو المعبود لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر، ولهذا أنكر تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرًّا ولا نفعًا، وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس: 106]، وقال:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [يونس: 18]، فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين الضر والنفع القاصر والمتعدي، فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم، وهذا كثير في القرآن يبين تعالى أن المعبود لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر، فهو يدعو للنفع والضر دعاء المسألة،
(1)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص 181).