الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول رحمه الله أيضًا: "فإذا فهمت هذا، ورأيت العجب، فاعرف، وحقق: المسألة الرابعة، وهي: أن الذين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشركون دائمًا، بل تارة يشركون، وتارة يوحدون، ويتركون دعاء الأنبياء، والشياطين، فإذا كانوا في السراء دعوهم، واعتقدوا فيهم، وإذا أصابهم الضر، والألم الشديد، تركوهم، وأخلصوا لله الدين، وعرفوا: أن الأنبياء، والصالحين، لا يملكون نفعًا، ولا ضرًّا"
(1)
.
ويقول الشيخ سليمان بن سحمان: "وأما كون الكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشركون دائمًا، بل تارة يشركون، وتارة يوحدون، ويتركون دعاء الأنبياء والصالحين، وذلك أنهم إذا كانوا في السراء دعوهم، واعتقدوا بهم، وإذا أصابهم الضر والشدائد تركوهم وأخلصوا لله الدين، وعرفوا أن الأنبياء والصالحين لا يملكون ضرًّا ولا نفعًا"
(2)
.
*
المسألة الرابعة * فوائد القاعدة وتطبيقاتها
للقاعدة فوائد عديدة أذكرها فيما يأتي:
أولًا: بالنظر إلى حال من وقع في الشرك من هذه الأمة يظهر الفرق الكبير، والبون الشاسع بين الشرك القديم، الذي كان على عهد المصطفى عليه السلام، وبين الشرك في هذه الأوثان، وإن كان جميعه شركًا مخلدًا في النار، لكن بعض الشر أهون من بعض، فالشرك عند العرب لا يكون إلا في الرخاء، أما في الشدة فإنَّهم يرجعون إلى الله بالإخلاص وإفراده بالعبادة، وذلك بخلاف الشرك اليوم فإن أصحابه يشركون في الرخاء والشدة، بل إنهم يزدادون شركًا وضلالًا حال الشدة، فيعظم
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 29).
(2)
الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق (ص 397 - 398).
تعلقهم بالمعبود، وتنعقد قلوبهم عليه، ولا تكاد ألسنتهم تفتر من ذكره، وسؤاله، والاستغاثة به، والرغب فيما عنده، والالتجاء إليه، أما الأوائل فإذا نزلت بهم الكربة والشدة لا يعبدون إلا الله، وينسون معبوداتهم من دون الله تعالى.
يقول الشيخ سليمان بن سحمان: "وأما مشركو أهل هذه الأزمان فإنه لا يشتد شركهم إلا إذا وقعت بهم الشدائد، فإنهم ينسون الله، ولا يدعون إلا معبودهم، فشركهم دائم في الرخاء والشدة، وهذا أمر معلوم مشاهد، لا ينكره إلا مكابر في الحسيات، مباهت في الضروريات"
(1)
.
ويقول الشيخ حافظ الحكمي: "وهؤلاء أعظم شركًا وأشد؛ لأنَهم يشركون في الرخاء وفي الشدة، بل هم في الشدة أكثر شركًا، وأشد تعلقًا بهم من حالة الرخاء، وأما مشركو الجاهلية الأولى فيشركون في الرخاء ويخلصون لله في الشدة"
(2)
.
ويقول رحمه الله أيضًا: "وهذا بخلاف مشركي زماننا اليوم من عباد القبور وغيرها، فإنَّهم يشركون في الشدة أضعاف شركهم في الرخاء، حتى إن كانوا ينذرون لهذا الولي في الرخاء ببعير، أو تبيع، أو شاة، أو دينار، أو درهم، أو نحو ذلك فأصابتهم الشدة زادوا ضعف ذلك، فجعلوا له بعيرين، أو تبيعين، أو شاتين، أو دينارين، أو درهمين، أو غير ذلك، وأيضًا فإنهم يعتقدون فيهم من صفات الربوبية، وأنهم متصرفون فيما لا يقدر عليه إلا الله، وغلا بعضهم حتى جعل منهم المتصرف في تدبير الكون على سبيل الاستقلال، ويقولون فيه: إنها لا تتحرك ذرة ولا تسكن إلا بإذن فلان، تعالى الله وتقدس، وجل وعلا عن أن يكون معه إله غيره، أو يكون له شريك في الملك، أو ولي
(1)
الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق (ص 398).
(2)
معارج القبول (2/ 539).
من الذل"
(1)
.
وبهذا يتبيَّن الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، والنصوص فرَّقت بين الشركين، وفرقت بين حالتي الشدة والغفلة؛ فالشدة يتبعها الإخلاص والتوبة والإنابة، والرخاء والسعة يتبعهما الانتكاس والغفلة، وعليه فشرك الأولين أخف، وشرك المتأخرين أعظم وأغلظ، وإن كان كلّ منهما مشرك، ولكن الشرك يتفاوت، بعضه أغلظ من بعض.
يقول -الإمام المجدد- الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد ذكره لهذه القاعدة: "فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه: وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله ويدعودن غيره في الرخاء، وأما في الضراء والشدة فلا يدعولن إلا الله وحده لا شريك له، وينسون سادتهم، تبيَّن له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهمًا راسخًا؛ والله المستعان"
(2)
.
ثانيًا: الذي قاد المشركين إلى إخلاص العبادة لله تعالى حال الشدة والكربة، ورجوعهم إلى الله تعالى إيمانهم وإقرارهم بربوبية الله تعالى، وأنه الخالق والمتصرف في هذا الكودن، وكونه يستحق أن يعبد سبحانه وتعالى، وهذا إدن دلَّ على شيء فإنما يدل على توحيدهم بربوبية الله تعالى، ورجوعهم إلى الفطرة التي فطر الله عليها الخلق، فميّزوا وعرفوا أنه لا ينجي حال حصول الشدائد والآفات، ووقوع المصائب والكربات، وتلاطم أمواج البحار، وعتو الرياح، إلا المولى سبحانه وتعالى.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: "يقرر تعالى أنه الإله الواحد الذي لا شريك له، ولا معبود سواه مما يشترك في معرفته المؤمن والكافر؛ لأن القلوب مفطورة على ذلك، فمتى جاء الاضطرار رجعت
(1)
معارج القبول (2/ 485).
(2)
كشف الشبهات ضمن مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (6/ 124).
القلوب إلى الفطرة، وزال ما ينازعها فالتجأت إليه، وأنابت إليه وحده لا شريك له، ومثل هذا كثير في القرآن؛ يبين تعالى أنه المدعو عند الشدائد، الكاشف للسوء وحده، فيكون هو المعبود وحده، ومن المعلوم أن المشركين كانوا يعلمون أنه لا يقدر على هذه الأمور إلا الله وحده، وإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا الدعاء لله كما قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: 65] "
(1)
.
وذلك بخلاف ما يعتقد كثير من الجهلة: وهو أن الولي له التصرف في الخلق؛ جلبًا، وصرفًا، فيزعمون أن الأولياء لهم التصرف في الكون كاملًا، وأن الله أعطاهم التصرف، والكشف، والخطوة إلى ما يريدون، وهذا بلا ريب أعظم من شرك السابقين.
ثالثًا: أشارت القاعدة إلى اضطراب المشركين وعدم ثبات الإيمان في قلوبهم، وأنهم لا يكادون يرجعون إلى الله بالتوحيد وإفراده بالعبادة حال الشدة والكرب، إلا وسرعان ما ينقلبون وينتكسون على رؤوسهم حال الرخاء والنعماء؛ ولذا كان توحيدهم هباء، وعبادتهم سدى، ولا يوصفون بأنهم عابدون لله تعالى وإن وقعت منهم العبادة بعض الأحيان.
يقول الإمام ابن القيم: "وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه، وإن عبدوه في بعض الأحيان؛ فإن المشرك يعبد الله ويعبد معه غيره كما قال أهل الكهف:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16]؛ أي: اعتزلتم معبودهم إلا الله فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قال المشركون عن معبودهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، فلم ينتف عنهم الفعل لوقوعه منهم، ونفي الوصف؛ لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتًا على عبادة الله، موصوفًا
(1)
انظر: تيسير العزيز الحميد (ص 192).
بها، فتأمل هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيها: أنه لا يوصف بأنه عابد الله، وعبده المستقيم على عبادته إلا من انقطع إليه بكليته، وتبتل إليه تبتيلًا، لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحدًا في عبادته، وأنه وإن عبده وأشرك به غيره فليس عابدًا لله، ولا عبدًا له"
(1)
.
(1)
بدائع الفوائد (1/ 144 - 145).