الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما احتمال النقص في صفاتها، وقيل الكمال: اسم لاجتماع أبعاض الموصوف، والتمام: اسم للجزء الذي يتم به الموصوف"
(1)
.
*
المسألة الثانية * معنى القاعدة
دلت القاعدة على أن المؤمنين يتفاضلون تفاضلًا عظيمًا عند المولى عز وجل بحسب درجاتهم في تحقيق التوحيد؛ فمنهم من بلغ الغاية في تحقيقه كالأنبياء والرسل لا سيما أولو العزم منهم، ومنهم من حققه تحقيقًا لا يصل به رتبة الرسل، كأهل العلم والصلاح وأهل التقى والطاعة، ومنهم من قصر في تحقيقه فصار ناقصًا مذمومًا بسبب تقصيره في تحقيقه.
يقول الإمام محمد بن نصر المروزي
(2)
: "وفي ذلك دليل على تفاضل المؤمنين والصالحين من الأنبياء وغيرهم في التوكل"
(3)
.
ويقول الإمام ابن تيمية: "والقرآن كله مملوء من تحقيق هذا التوحيد، والدعوة إليه، وتعليق النجاة والفلاح، واقتضاء السعادة في الآخرة به، ومعلوم أن الناس متفاضلون في تحقيقه وحقيقته إخلاص الدين كله لله"
(4)
.
(1)
الكليات لأبي البقاء (ص 296).
(2)
هو: محمد بن نصر الإمام شيخ الإسلام، أبو عبد الله المروزي، الفقيه، ولد سنة اثنتين ومائتين، وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم في الأحكام، وكان إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة، كان جامعًا للسُّنن، ضابطًا لها، مستذكرًا لمعانيها، ومن تصانيفه: كتاب تعظيم قدر الصلاة؛ مشتمل على أحاديث كئيرة، وأحكام يسيرة، وكتاب قيام الليل، وكتاب رفع اليدين، توفي سنة 294 هـ. [ترجمته في: طبقات الحفاظ (ص 366)، وشذرات الذهب (2/ 216)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 85)].
(3)
تعظيم قدر الصلاة (2/ 562).
(4)
منهاج السُّنَة النبوية (5/ 347).
ويقول رحمه الله أيضًا: "لكن أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه هو التوحيد وإخلاص الدين كله لله هو تحقيق قول لا إله إلا الله، فإن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها فهم متفاضلون في تحقيقها تفاضلًا لا نقدر أن نضبطه"
(1)
.
ويقول أيضًا: "وإنما يتفاوت أهل العلم والإيمان بحسب تفاوتهم في تحقيق التوحيد كما قد بسط في موضعه"
(2)
.
ويقول الشيخ حمد بن ناصر وأبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: "إذا تمهَّدت هذه القاعدة، تبين لك أن الناس يتفاضلون في التوحيد تفاضلًا عظيمًا، ويكونون فيه على درجات بعضها أعلى من بعض؛ فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة، ومنهم من يدخل النار وهم العصاة، ويمكثون فيها على قدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها لأجل ما في قلوبهم من التوحيد والإيمان"
(3)
.
ويقول الشيخ حافظ الحكمي: "والمقصود بيان أن الناس متفاوتون في الدين بتفاوت الإيمان في قلوبهم، متفاضلون فيه بحسب ذلك، فأفضلهم وأعلاهم أولو العزم من الرسل، وأدناهم المخلطون من أهل التوحيد، وبَيْنَ ذلك مراتب ودرجات لا يحيط بها إلا الله عز وجل الذي خلقهم ورزقهم"
(4)
.
كما دلت القاعدة على أن تحقيق التوحيد يتضمن ثلاثة أمور:
الأول: تثبيت أصل التوحيد، بإفراده سبحانه وتعالى بجميع ما يختص به؛ في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فيعتقد بأنه لا خالق ولا نافع ولا ضار
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 264).
(2)
الصفدية (2/ 340).
(3)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 207).
(4)
معارج القبول (3/ 1015).
إلا الله، وأنه لا يستقل شيء من دونه بإحداث أمر من الأمور، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ويعلم أن لله حقًا لا يشركه فيه مخلوق؛ كاستحقاق العبادة والإلهية، وذلك يستلزم اتصاف المعبود بجميع صفات الكمال، وتنزهه عن النقص من كل وجه.
يقول شيخ الإسلام: "فالله تعالى مستحق أن يعبد لا يشرك به شيء، وهذا هو أصل التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزلت به الكتب"
(1)
.
ويقول الإمام ابن القيم: "وأما إثبات صفات الكمال: فهو أصل التوحيد"
(2)
.
والمقصود أن تحقيق أصل التوحيد لا يتم إلا بتحقيق أنواع التوحيد الثلاثة إذ لا ينفك بعضها عن بعض، والبعد عن كل ناقض يُضاد هذه الأنواع الثلاثة، ويبطل أصلها.
يقول الإمام ابن تيمية: "فتعين أن الأمر كله عائد إلى تحقيق التوحيد، وأنه لا ينفع أحد ولا يضر إلا بإذن الله، وأنه لا يجوز أن يعبد أحد غير الله، ولا يستعان به من دون الله، وأنه يوم القيامة يظهر لجميع الخلق أن الأمر كله لله، ويتبرأ كل مدع من دعواه الباطلة"
(3)
.
ويقول رحمه الله "ومن تحقيق التوحيد أن يعلم أن الله أثبت له حقًا لا يشركه فيه مخلوق؛ كالعبادة، والتوكل، والخوف، والخشية، والتقوى كما قال تعالى:{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} [الإسراء: 22]
(4)
.
ويقول الشيخ مرعي الكرمي: "وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية؛ بأن يعتقد إثبات الله،
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم (ص 446).
(2)
إغاثة اللهفان (2/ 233).
(3)
مجموع الفتاوى (1/ 119).
(4)
المصدر نفسه (3/ 106).
وصفاته، ويعبده ولا يشرك به شيئًا والعبادة تجمع غاية الحب وغاية الذل له سبحانه"
(1)
.
والله تعالى إنما أمر عباده بتحقيق التوحيد وتكميله، ولا ينفك نوع عن نوع، فلا يتم تحقيق نوع منها إلا بتحقيقها جميعًا، والابتعاد عن كل ما ينافيها أو ينقض أصلها.
فإذا قام العبد بتحقيق جميع أنواع التوحيد، وابتعد عن كل ناقض أو مفسد فقد أتى بتحقيق أصل التوحيد الذي رتب الله عليه قبول الأعمال والجزاء بالحسنى.
يقول الشيخ السعدي: "ولا يكون العمل صالحًا إلا إذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان المخرج عن الكفر والشرك الذي هو شرط لكل عمل صالح"
(2)
.
الثاني: تحقيق التمام؛ أي: تتميم ذلك الأصل أو ما يسمى بـ (الكمال الواجب) والمقصود به تخليصه مما حرَّمه الله تبارك وتعالى؛ من الشرك الأصغر، والبدع غير المكفرة، والمعاصي، والتفريط في الواجبات.
وهذا التحقيق هو الذي يحرم صاحبه على النار.
يقول الإمام ابن رجب: "إنما أراد التوحيد الكامل الذي يحرم صاحبه على النار وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله فإن الإله هو المعبود
…
"
(3)
.
ويقول رحمه الله: "فإذا تحقق القلب بالتوحيد التام لم يبق فيه محبة لغير ما يحبه الله ولا كراهة لغير ما يكرهه الله"
(4)
.
(1)
رفع الشبهة والغرر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر، للشيخ مرعي (ص 67).
(2)
تفسير السعدي (ص 350).
(3)
جامع العلوم والحكم (1/ 205).
(4)
جامع العلوم والحكم (1/ 366).
ويقول الشيخ محمد بن عثيمين: "لأن تحقيق التوحيد يستلزم اجتناب المعاصي؛ لأن المعاصي صادرة عن الهوى، وهذا نوع من الشرك، قالى تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] "
(1)
.
الثالث: تحقيق كمال التوحيد؛ أي: الكمال المستحب، وهو تخليصه وتصفيته من الأمور المكروهة، والاجتهاد في تحصيل الطاعات والقربات، وتخليص القلب من الالتفات والتوجه إلى غير الله بأن يكون متوجهًا بكليته إلى الله، فتنجذب روحه إلى الله؛ محبة وخوفًا وإنابة وتوكلًا ودعاء وإخلاصًا وإجلالًا وهيبة وتعظيمًا وعبادة، فلا يكون في قلبه أدنى شيء لغير الله، ولا أدنى إرادة لما حرم الله، ولا أدنى كراهة لما أمر الله، وعبَّر بعضهم بأنه ترك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس
(2)
.
وقد بين العلامة عبد العزيز بن باز الأعمال التي تضاد تحقيق التوحيد؛ سواء ما ينافي أصله، أو ينافي كماله بنوعيه، فقال رحمه الله: "وأما الفرق بين الأعمال التي تنافي هذه الكلمة وهي لا إله إلا الله، والتي تنافي كمالها الواجب، فهو: أن كل عمل أو قول أو اعتقاد يوقع صاحبه في الشرك الأكبر فهو ينافيها بالكلية ويضادها؛ كدعاء الأموات، والملائكة، والأصنام، والأشجار، والأحجار، والنجوم، ونحو ذلك، والذبح لهم، والنذر، والسجود لهم، وغير ذلك.
فهذا كله ينافي التوحيد بالكلية، ويُضاد هذه الكلمة ويبطلها؛ وهي: لا إله إلا الله، ومن ذلك استحلال ما حرم الله من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة والإجماع" كالزنا، وشرب المسكر، وعقوق الوالدين، والربا، ونحو ذلك، ومن ذلك أيضًا جحد ما
(1)
القول المفيد على كتاب التوحيد (ص 48).
(2)
انظر: تيسير العزيز الحميد (ص 77)، وإبطال التنديد (ص 28)، والتمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص 33)، وحاشية كتاب التوحيد (ص 37).