الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشأته صلى الله عليه وسلم
-:
كفله جده عبد المطلب وسماه محمدًا، فقيل لعبد المطلب: لم سميته باسم ليس لأحد من آبائك؟ قال: "لأنِّي أرجو أن يحمده أهلُ الأرض كلهم". (1) والصحيح أنه خُتن يوم سابع ولادته، وأَوْلَم لذلك عبد المطلب فنحر جزورًا، ودعا رجالًا من قريش فطعموا. (2) وقد رُوي في بعض الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد مختونًا، (3) ورجح المحققون خلافَه وأنه ولد كاملًا.
وأرضعته أمُّه، ثُم أرضعته معها ثُوَيبةُ الأسلمية جارية عمه أبى لهب. (4) وكان من عادة أهل مكة أن يسترضعوا لأبنائهم في البادية؛ لأن مكةَ كانت وخيمة، فيحبون أن ييفع أبناؤهم في البادية، ولأن ذلك أجلدُ لأجسامهم، وأفصحُ لألسنتهم، فالتمست لمحمد صلى الله عليه وسلم المراضع.
ووردت نسوةٌ من بني سعد بن بكر من هوازن، وكانت منازل هوازن قرب مكة حذوَ حنين، جئن يلتمسن الرضعاء، فأخذته حليمة بنت أبى ذؤيب. وكان معها زوجُها الحارث بن عبد العزى وابنٌ لها مُرْضَعٌ اسمه عبد الله. وما وضعت رضيعَها المبارك حتى رأت بوارقَ اليُمن في ذاتها وما حولها، فلما شعر بذلك زوجها قال لها:"تعلمي يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة". قال السهيلي: "وذكر غيرُ ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقبل (من حليمة) إلا على ثديها الواحد، وكانت
(1) البيهقي: دلائل النبوة، ج 1، ص 113؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 3، ص 389. وانظر البغدادي: خزانة الأدب، ج 1، ص 226 (ولفظ كلام عبد المطلب عند ابن كثير).
(2)
البيهقي: دلائل النبوة، ج 1، ص 113.
(3)
المصدر نفسه، ج 1، ص 114.
(4)
الزهري: كتاب الطبقات الكبير، ج 1، ص 87؛ البيهقي: دلائل النبوة، ج 1، ص 148 - 150؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 3، ص 406 - 407. وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد، كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب من الحبشة، حضنت النبي صلى الله عليه وسلم حتى كبر، فأعتقها عليه السلام وزوجها زيدَ بن حارثة. وقد توفيت رضي الله عنها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر، كما ابن شهاب الزهري.
تعرض عليه الثدي الآخر فيأباه، كأنه قد أشعر عليه السلام أن معه شريكًا في لبانها". (1)
فكان مفطورًا على العدل، مجبولًا على جميل المشاركة والفضل. وأرجعته مرضعته إلى أمه وهو ابن خمس سنين وشهر، ولما بلغ ست سنين توفيت أمه، ولما بلغ ثمان سنين وكسرًا توفي عبد المطلب فكفله عمه أبو طالب. وقد يَفَعَ عليه الصلاة والسلام على أجمل الصفات، كان لا يشبه خُلقُه خلقَ الصبيان. فمن ذلك أنه كان إذا قرب إليه مع الصبيان تصبيحهم، وهو طعام الصباح، اختلس بقية الصبيان منه، ويكف هو. (2) وعن أم أيمن حاضنته أنها قالت:"ما رأيته يشكو جوعًا ولا عطشًا، لا صغيرًا ولا كبيرًا، وكان يكثر أن ينام ليلته دون أن يتعشى". (3)
وكذلك شأنه حين يشب، وحسبنا حكاية لحاله هذه كلمتان: إحداهما ما رواه أبو الفضل في الشفاء، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما هممت
(1) السهيلي: الروض الأنف، ج 1، ص 286.
(2)
أخرج ابن قتيبة تحت ترجمة بعنوان "ألفاظ من أحاديث المولد والمبعث""أنه (أي النبي صلى الله عليه وسلم) كان بينما في حجر أبي طالب، فكان يُقرَّبُ إلى الصبيان تصبيحهم فيختلسون ويكف، ويصبح الصبيان غُمصًا، ويصبح صقِلًا دهينا". وذكره الزمخشري وابن الأثير بلفظ "يتيمًا" بدل "بينما"، والراجح أن مرجع الاختلاف سهو وقع من محقق كتاب ابن قتيبة. ولم أعثر على تخريج لهذا الأثر. ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم: غريب الحديث، تحقيق عبد الله الجبوري (بغداد: مطبعة العاني، ط 1، 1397/ 1977) ج 1، ص 381؛ الزمخشري: أساس البلاغة، ج 1، ص 533؛ ابن الأثير: النهاية، ج 3، ص 488 (نشرة الطناحي وزميله) وج 3، ص 5 (نشرة العلمية). ومعنى تصبيحهم: غداؤهم. والغَمَص والرَّمَص واحد، وهو ما يجتمع من وسخ في موق العين، فإن كان رطبًا أو سائلاً فهو غمص، وإن جمد فهو رمص.
(3)
لم أعثر على هذا الكلام المنسوب لأم أيمن فيما أمكنني مراجعته من مصادر السيرة والحديث. ولكن ذكر المقريزي قريبًا منه حيث قال: "وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان تصبيحهم أول البكرة فيجلسون وينهبون، ويكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده لا ينهب معهم. فلما رأى أبو طالب ذلك عزل له طعامه على حدة. وكان صلى الله عليه وسلم يصبح في أكثر أيامه فيأتي زمزم فيشرب منه شربة، فرُبما عُرض عليه الغداء فيقول: "لا أريده، أنا شبعان". "المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد: إمتاع الأسماع بما للنبي صلى الله عليه وسلم من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، تحقيق محمد عبد الحميد النميسي (بيرت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1420/ 1999)، ج 1، ص 14.
بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل تينك يحول الله بيني وبين ما أريد، من ذلك قلت ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أرحل إلى مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار في مكة، سمعت عزفًا بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست أنظر فضرب على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت ولم أقض شيئًا. ثم عرَانِي مرة أخرى مثلُ وذلك، ثم لَم أهم بعد ذلك بسوء". (1) الثانية قول النضر بن الحارث لقريش:"قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقَكم حديثًا، وأعظمَكم أمانة، فلما رأيتم الشيبَ في صدغيه قلتم: ساحر، وقلتم: شاعر، وقلتم: مجنون، والله ما هو بأولئكم". (2)
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة ثارت حربُ الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة وبين قيس عيلان. وكانت في شهر حرام، فلذلك سميت الفجار؛ لأن القتال
(1) ابن إسحاق، محمد بن إسحاق بن يسار: سيرة ابن إسحاق المسماة كتاب المبتدأ والمبعث والمغازي، تحقيق محمد حميد الله (فاس/ المغرب: معهد الدراسات والأبحاث والتعريب، 1396/ 1976)، ص 58 - 59؛ الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج 2، ص 279؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 3، ص 446 - 447؛ ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 1، ص 149 - 150. (واللفظ لابن إسحاق).
(2)
وتمام كلام النضر ولفظه: "يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمدٌ فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة. حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيبَ وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم". ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 1، ص 239. وقد كان النضر - كما قال ابن إسحاق - "من شياطين قريش، وممن يؤذي رسولَ الله، وينصب له العداوة. وكان قد قدم الحيرةَ وتعلم بها أحاديثَ ملوك الفرس وأحاديثَ رستم واسبنديار، فكان إذا جلس رسولُ الله مجلسًا فذكَّر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب مَنْ قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشرَ قريش أحسنُ حديثًا منه، فهلم إلي. . ." (وكذلك ص 282).
في الشهر الحرام من الفجور. فكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع أعمامه من بني هاشم ينبل عليهم، أي: يلتقط لهم النبال التي يرميهم بها أعداؤهم ليرموهم بها. وثبت أنه كان راكبًا فرسًا، وأنه رمي بسهم. ولم يزل محمد صلى الله عليه وسلم يزداد على السن خيرًا، وتتقدم به سوابقُ الهمم إلى الفضائل سيرًا، فعُرِف في فتوته بصدق الحديث وكرم الأخلاق والوفاء والأمانة، والإعراض عن السفاسف والإقبال على الجد.
فلما بلغ خمسًا وعشرين سنة من عمره بلغ خديجةَ بنت خويلد ما اشتهر به من الأمانة، وكانت امرأةً ذات مال، وكانت تقارض رجالًا من قريش يتجرون لها على شيء من الربح تجعله لهم. فرامت أن تقارضه، وأرسلتْ إليه بذلك ليخرج إلى الشام في تجارة لها، وكانت الشام متجر قريش في رحلة الصيف، فخرج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في تجارتها ومعه ميسرة غلام خديجة. وبعد قفوله من رحلته هذه تزوج خديجة رضي الله عنها، وعمره خمس وعشرون سنة، وكانت خديجة أَيْمًا توُفِّىَ زوجُها أبو هالة التميمي حليف بني عبد الدار من قريش.
وغلب عليه لقب الأمين بين قريش، وربما لقبوه بالمأمون. ولما بلغ خمسًا وثلاثين سنة تهدمت الكعبة فشرع قريش في بنائها، وكان سيدنا محمد يومئذ معهم، فكان ينقل الحجارة فقال له عمه العباس:"اجعل إزارك على عاتقك كما يفعل الناس ليخف عليك حملُ الحجارة، فلما رفع إزاره خر مغشيًّا عليه، فقال له عمه العباس: لا حرج عليك شُدَّ عليك إزارك". (1)
(1) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه واللفظ لمسلم - قال: "لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان حجارة. فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على عاتقك، من الحجارة. ففعل. فخر إلى الأرض. وطمحت عيناه إلى السماء. ثم قام فقال: "إزاري، إزاري"، فشد عليه إزاره". ثم أضاف مسلم: "قال ابن رافع في روايته: على رقبتك، ولم يقل: على عاتقك". صحيح مسلم، "كتاب الحيض"، الحديث 340، ص 139؛ صحيح البخاري، "كتاب الحج"، الحديث 1382، ص 256 - 257؛ "كتاب مناقب الأنصار"، الحديث 3829، ص 642 - 643؛ الزهري: كتاب الطبقات الكبير، ج 1، ص 121؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 3، ص 445 - 447.