الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وللغرض المنوَّه به آنفًا حظٌّ جزيلٌ من بيان شيء من روح الشريعة المحمديّة ومزاياها. يتقدم البحث عن أثر الدعوة المحمديّة في هاتين الخصلتين بمقامين: الأول في بيان مقدار علاقة
الحرية
والمساواة بالشريعة، الثاني في بيان انتشار الحرية والمساواة في الأمم الخارجة عن الإسلام من الأمم المعتبرة في العالم يوم البعثة المحمدية.
المقام الأول: في الحرية والمساواة في الشريعة المحمدية:
وهو مقام يستدعي شيئًا من الإطالة ليكون الحكمُ فيه على شيء مضبوط، فلا يظن أحد أن الإسلام دعا إلى الحرية والمساواة على الإطلاق أو على الإجمال؛ لأن هنالك حدودًا دقيقة بعضها محمود نافع، وبعضها ضارّ مذموم.
الحرية:
لا تجد لفظًا تهواه النفوس، وتهش لسماعه وتستزيد من الحديث فيه، مع أن معظمهم لا يضبط مقدار المراد منه، مثلَ لفظ "الحرية". وما سببُ ذلك التعلق العام إلّا أن معظم مَنْ يسمعون هذا اللفظَ أو ينطقون به يحملونه على محامل يخف محملها في نفوسهم. فالوَقِحُ يحسب الوقاحةَ حرية، فيخف عنده ما ينكره الناسُ من وقاحته. والجريء الفاتك يَنْمِي صنيعُه إليها فيجد من ذلك مبررًا لجرأته، ومحب الثورة يَعُدّ الحرية مسوِّغًا لدعوته، والمفتون في اعتقاده يدافع الناقمين عليه بأنه حرّ العقيدة، إلى غير هؤلاء. فيا لله لهذا المعنى الحسن! ماذا لقي من المحن، وماذا عدل به عن خير سنَن!
والتحقيقُ أن الحرية إنما يُعنى بها السلامةُ من الاستسلام إلى الغير بقدر ما تسمح به الشريعةُ والأخلاق الفاضلة. ولقد أصاب الذين اختاروا للتعبير عن هذا المعنى في العربية لفظَ الحرية؛ لأن الحرية في كلام العرب ضد الرِّق، وقد شاع عند العرب أن يُلصقوا مذامّ الصفات النفسانية بالرقّ، إذ قد عرى العبيد عندهم عن الاهتمام باكتساب الفضائل، وزهِدوا في خصال الكمال، قال ابن زيابة:(1)
(1) هو عمرو بن الحارث بن همام من بني تيم الله بن ثعلبة، وقيل اسمه سلمة بن ذهل، شاعر جاهلي. وقيل ابن زبابة، والزبابة فأرة من فئران الحرة. - المصنف. كذا ترجم له المرزباني.
إِنَّكَ يَا عَمْرُو وَوتْرَك النَّدَى
…
كَالعَبْدِ إِذْ قَيَّدَ أَجْمَالَه (1)
ولَمَّا استصرخ شدّادٌ العبسي ابنَه عنترة ليردّ غارات عدوهم - وكان عنترة ابنَ أمَةٍ كما هو مشهور، وكان أبوه يأبى أن يعُده في عِداد بنيه، بل جعله عبدًا له على عادة أهل الجاهلية - أجابه عنترةُ بقوله:"العبد لا يُحسن الكرّ، إنما يُحسن الحلب والصَّرّ"، فقال شدّاد:"كُرَّ وأنت حُر". (2) وبضدّ ذلك جعلوا الفضائلَ من سمات الأحرار، قال جعفر بن عُلبة الحارثي:
لَا يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إِلَّا ابْنُ حُرَّةٍ
…
يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا (3)
وقال الراجز الجاهلي:
لَنْ يُسْلِمَ ابْنُ حُرّةٍ زَمِيلَهُ
…
حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرَى سَبِيلَهُ (4)
(1) فإنه إذا قيّد جمالَ سيّدِه يرى أنه قد أتم واجبَه كله. - المصنف. والبيت من مقطوعة من أربعة أبيات رواها ابن الأعرابي. المرزباني، أبو عبيد الله حمد بن عمران: معجم الشعراء، تحقيق الدكتور ف. كرنكو (بيروت: دار الجيل، ط 1، 1411/ 1991)، ص 19.
(2)
الصّرّ: شدّ ضرع الناقة عند الحلب. - المصنف. الأصفهاني: الأغاني، ج 3/ 8، ص 383.
(3)
المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 49. والشاعر هو أبو عارم جعفر بن عُلبة الحارثي، عاش في مدينة نجران، وقُتل في مكة المكرمة. شاعر، فارس، يمني، من (نجران)، من بني الحارث بن كعب. عاصر الدولتين: الأموية والعباسية، وكان شاعرًا مجيدًا، ذا مكانة عظيمة بين قومه. أسَرته قبيلة بني عُقيل لثأر كانوا يطلبونه به، فسجنوه مدة، ثم قتلوه. ولما علم أبوه بمقتله - وكانت النساء يبكين عليه - قام إلى ولد كلِّ ناقة وشاة فنحره، وقال مخاطبًا النوقَ والشاة: ابكين معي على جعفر، فمازالت النساء يبكين، والنياق والشياه تثغو؛ حتى ضرب بذلك المثل. وقيل: إن يوم موته كان أكبر مأتَم في العرب. كانت وفاته سنة 154/ 762.
(4)
صاحب هذا الرجز هو أبو البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال يوم بدر: "من لقي أبا البختري فلا يقتله"؛ لأنه لم يبلغه عنه شيء يكرهه. فلقيه المجذر ابن ذياد البلوي فقال له: "يا أبا البختري قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلك"، وكان مع أبي البختري زميلٌ له خرج معه من مكة وهو جبارة بن مليحة من بني ليث، فقال أبو البختري: وزميلي؟ فقال المجذر: "لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك"، فقال أبو البختري: لا والله إذًا لأموتن أنا وهو جميعًا، لا تتحدث عني قريش بمكة =
وقال مخَيَس بن أرطاة التميمي:
فَقُلْتُ لَهُ: تَجَنَّبْ كُلَّ شَيْءٍ
…
يُعَابُ عَلَيْكَ، إنَّ الحُرَّ حُرُّ
قال المبرّد: "وقوله: إن الحرَّ حرُّ، إنما تأويله أن الحر على الأخلاق التي عُهدت في الأحرار، [ومثل ذلك: أنَا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي، أي: شعري كما بلغك، ] وكما كنتَ تعهد"، (1) يعني وأنت حُرٌّ فلا تخالف خلقَ الأحرار. حتى لقد احتاج بعضُ أصحاب الأخلاق الحميدة من عبيدهم إلى إعلان الاختلاف بين حال عبودية شخصه وكرم نفسه، كما قال حيَّة النوبي الملقب بسُحَيم عبدُ بني الحَسْحَاس:(2)
إِنْ كُنْتُ عَبْدًا فَنَفْسِي حُرَّةٌ كَرَمًا
…
أَوْ أسْوَدَ اللَّوْنِ إِنِّي أبيضُ الْخُلقِ (3)
= أني تركت زميلي حرصًا على الحياة. فقال له المجذر: إن لم تسلمه قاتلتك، فأبَى إلا القتال فلما نازله جعل أبو البختري يرتجز:
لَن يُسْلِمَ ابْنُ حُرَّةٍ زَمِيلَهُ
وَلَا يُفَارِقُ جَزَعًا أَكِيلَهُ
حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرَى سَبِيلَه
ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 2، ص 204. الاستيعاب، ج 4، ص 1460، الترجمة (2520) المجذر بن زياد.
(1)
المبرد: الكامل في اللغة والأدب، ج 1، ص 68. وما بين الحاصرتين لم يورده المصنف.
هذا هو المشطور العاشر من رجز لأبي النجم، وفيه معه وبعده:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي
…
لله دَرِّي مَا أَجَنَّ صَدْرِي
مِنْ كَلِمَاتٍ بَاقِيَاتِ الْحَرِّ
…
تَنَامُ عَيْنِي وَفُؤَادِي يَسْرِي
مَعَ الْعَفَارِيتِ بِأرْضِ قَفْرِ
ديوان أبي النجم العجلي الفضل بن قدامة، تحقيق محمد أديب عبد الواحد جمران (دمشق: مجمع اللغة العربية، 1427/ 2006)، ص 198 - 199.
(2)
بنو الحسحاس حيٌّ من بني أسد. - المصنف.
(3)
البيت هو ثاني بيتين أنشدهما مصعب بن عبد الله الزبيري، أولهما قول الشاعر:
أَشْعَارُ عَبْدِ بَنِي الْحَسْحَاسِ قُمْنَ لَهُ
…
عِنْدَ الفَخَارِ مَقَامَ الأَصْلِ وَالْوَرِقِ
الأصفهاني: الأغاني، ج 8/ 22، ص 192.