الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويستكشفوا أدلتَه ومسالكَه حتى يتخرجوا فقهاءَ على طريقته، أمثال الشافعي، والقعنبي، وابن القاسم، وعلي بن زياد، ويحيى بن يحيى.
3 -
الصنف الثالث: صنف المستفتين من عامة الناس، الذين يأتي الواحدُ منهم بجزئية من جزئيات الوقائع، ليعرف الحكمَ الشرعي فيها حتى يعملَ به. وفي هؤلاء مَنْ هم من أهل الحجاز ومَنْ هم من أقطار أخرى، يأتون المدينة قصدَ الاستفتاء في ما يشكل عليهم، أو يغتنمون فرصةَ حلولهم بها زائرين بعد الحج فيتوجهون لإمامها بالاستفتاء.
وقد كان لتعدد هذه الأصناف أثرٌ في الإكثار من صور المسائل التي تكلم فيها إمامُ دار الهجرة، وأثرٌ في العمل على البسط والتفصيل فيها، وأثرٌ في قيام الفتاوى المخالفة لفتوى الإمام مالك أمام نظره حتى يضطر لمناقشتها والاستدلال على ترجيح ما يرى هو عليها. ولم يكن تعاطي مالك الفقهَ مقتصرًا على الإفتاء بالمشافهة، ولكنه دخل به في التدوين الكتابي بتصنيفه كتاب "الموطأ" الذي كان به أولَ السابقين في التصنيف. فكان تصنيفُه ذلك أدعى إلى تخير الألفاظ، وتحقيق محاملها، وإقرار استعمالها على صورةٍ مصطلح عليها. وقد ظهر أثرُ مالك في ذلك كما ظهر أثره في الصورة الأخرى المعتادة، وهي صورة الجواب الشفهي عن المسائل.
[تنوع أسلوب مالك في التعبير اللغوي عن مسائل الفقه]:
ونستطيع أن نتبين مظاهرَ هذا العمل اللغوي في "الموطأ" على أنحاء متعددة:
1 -
منها ما يرجع إلى القصد إلى الحقائق الشرعية لتنزيلها على محالِّها بحسب ما أدى الإمامَ إليه اجتهادُه في ضبط المعنى المقصود من ذلك اللفظ الشرعي. وذلك مثل لفظ "العرية"، فقد ورد في الحديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ في بيع العرية"، (1)
(1) الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب البيوع"، الحديثان 1424 - 1425، ج 3، ص 366 - 368. ببعض اختلاف عما أورده المصنف. وتفسير مالك للعرية هو قوله: "وإنما تُباع العرايا [في رواية =
ففسرها مالك وبين وجهَ الرخصة فيها في الموطأ بما جاء مخالفًا لبعض المذاهب وموافقًا لبعض في ما هي العرية، كما بسط ذلك ابن رشيد في بداية المجتهد. (1)
ومثلُ ذلك أيضًا الحديثُ الذي جاء بأن "رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العُرْبَان"، قال مالك:"وذلك فيما نُرَى - والله أعلم - أن يشتري الرجَّل العبد أو الوليدة أو يتكارى الدابة، ثم يقول للذي اشترى منه أو تَكَارَى منه: أُعطيك دينارًا أو درهمًا، أو أكثر من ذلك أو أقل، على أني إن أخذتُ السلعةَ أو ركبت ما تكاريتُ منك، فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة، وإن تركتُ ابتياعَ السلعة أو كراء الدابة، فما أعطيتك لَكَ باطلٌ بغير شيء". (2)
ومن هذا الباب أيضًا "النهي عن الملامسة والمنابذة"، وما فسر به مالك ماهيتهما، وتحقق معنى الضرر فيهما، والفرق بين معناهما ومعنى "بيع الأعدال على البرنامج". (3) ومن ذلك أيضًا: تفسير "الركاز" بأنه دفن الجاهلية، خلافًا لمن يفسره بالمعادن. ومنه أيضًا تفسير "النَّجْش" الذي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، قال مالك:"والنَّجْش أن تعطيه بسلعته أكثر من ثمنها وليس في نفسك اشتراؤها، فيقتدي بك غيرك". (4) ومثلُ هذا النحو من تقرير الحقائق الشرعية وافرٌ جدًّا في الموطأ.
= مصعب الزبيري: العرية] بخرصها من التمر يُتحرَّى ذلك ويُخرص في رؤوس النخل. وإنما أُرخص فيه؛ لأنه أُنزِل بمنزلة التولية والإقالة والشرك، ولو كان بمنزلة غيره من البيوع ما أشرك أحدٌ أحدًا في طعامه حتى يستوفيه، ولا أقاله منه، ولا ولاه أحدًا حتى يقبضه المبتاع". - المحقق.
(1)
ابن رشد: بداية المجتهد، ص 636 - 638 (كتاب بيع العرية). - المحقق.
(2)
الموطأ شرح السيوطي 108 ج 2، ط الحلبي. - المصنف. الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب البيوع"، الحديث 1408، ج 3، ص 349 - 350. ومعنى:"فما أعطيتك لَكَ باطلٌ بغير شيء"، خالص لك ولا رجوع لي به عليك. - المحقق.
(3)
الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب البيوع"، الحديث 1487، ج 3، ص 437 - 438. - المحقق.
(4)
المصدر نفسه، الحديث 1505، ج 3، ص 461 - 462 - المحقق.
2 -
وهناك نَحْوٌ ثان يرجع إلى التعبير عن صورةٍ من الأحكام أو باب منها بعبارة لم ترد لذلك الباب بخصوصه في لسان الشرع، ولكنها استُمِدت من تعبير شرعي، فلا يختلف عن المعنى المقصود. فانتُزِعت للمعنى المقصود، وخصصت به، وأصبحت حقيقةً عرفية فيه، كتعبير الإمام في الموطأ عن ميراث الولد والدَهم أو والدتَهم باسم "ميراث الصلب"، وهو التعبير الذي شاع بعد ذلك بين الفرضيين؛ قال القاضي أبو بكر ابن العربي في شرحه على الموطأ المسمى "القبس": إن مالكًا رضي الله عنه هو أول مَنْ عبر بهذه العبارة أخذًا من قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} [الطارق: 7]. (1)
3 -
ونَحْوٌ ثالث يرجع إلى تعبير تقرر عند فقهاء المدينة من قبل اعتمده مالك وعبر به، وطبقه على محله، وفصل صوره، كما في لفظ "العُهدة" في تقسيمها إلى عهدة الثلاث، وعُهدة السنَّة، وتخصيصها بالرقيق. (2)
(1) ابن العربي: كتاب القبس، ج 2، ص 942. قال ابن العربي تعليقًا على ترجمة مالك أول باب من "كتاب الفرائض والمواريث" كلامًا نفيسًا يستحسن سوقه هنا:"وهي كلمة بديعة تلقنها مالك رحمه الله من القرآن في قوله: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)}، فذكر قرابة الأب التي هي الأصل، وبدأ بها لأنها أصل الولادة، بها تجمع وعنها تتفرع. فإذا خرجت عنها وانفصلت منها، نزلت في منازل التطوير، وتغيرت بإحكام التقدير، وتفصلت بأحكام التدبير، حتى تعود خلقًا سويًّا من السُّلالة إلى استواء الخلقة. فهاتان الحالتان هما أخصُّ الأحوال بالإنسان، فوجب أن تقع البدايةُ بهما. ولذلك لم يؤثر الله تعالى شيئًا عنهما، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}، واتفقت الأمة على أنها عامةٌ جاريةٌ على شمولها، منتظمةٌ على جملتها وتفصيلها، لا تتبين إلا في جملة مسائل". المسالك، ج 6، ص 544 - 545. وقد جاء الكلام نفسه في القبس مع اختلاف يسير.
(2)
والعُهدة على هذا استثناء من الأصل الفقهي الكلي بتضمين المشتري كل عيب يحدث في المبيع بعد قبضه؛ إذ هو في ملكه وتحت يده. وقال ابن العربي: "ومن أعظم مسائل العرف والعادة مسألة العهدة، وقد انفرد بها مالك دون سائر الفقهاء". ثم قال: "وهي أن تكون السلعة بعد قبض المشتري في ضمان البائع حتى تمضي ثلاثة أيام من وقت البيع في كل آفة تطرأ على المبيع"، وعول علماؤنا على أن هاتين العهدتين (أي عهدة السنة وعهدة الثلاثة أيام) إنما يُقضى بهما لِمَنْ شرطهما أو حيث تكون العادة جاريةً بهما". حماد: معجم المصطلحات المالية والاقتصادية، ص 335.
4 -
ونَحْوٌ رابع يرجع إلى التصرف بالاختيار بين لفظين وردَا مترادفَيْن في استعمال الحقائق الشرعية، ووقع الاقتصار على أحدهما حتى أصبح تخصيصُه بذلك مصطلحًا عرفيًّا، وذلك مثل اختيار لفظة "القراض" على لفظ "المضاربة". قال ابن رشد الجد في كتاب المقدمات الممهدات في القراض:"هذا اسمه عند أهل الحجاز. وأما أهلُ العراق فلا يقولون قراضًا ألبتة، ولا عندهم كتاب القراض. وإنما يقولون مضاربة، و (عندهم) كتاب المضاربة". (1) ومن ذلك الحبس في مقابل الوقف، وقد قال ابن رشد في المقدمات أيضًا:"فأما الحبسُ والوقف فمعناهما واحد، لا يفترقان في وجه من الوجوه". (2) وقد استعمل الفقهاء - مالكية وغير مالكية - كلًّا من اللفظين بمعنى واحد، إلا أن الإمام في الموطأ أكثرُ مَنِ استعمل لفظَ الصداق وإن استعمل لفظ المهر أحيانًا. (3)
5 -
ونَحْوٌ خامس من الأنحاء التي ورد عليها التصرفُ اللغوي في الموطأ يظهر في أسماء راجت على ألسنة الناس تبعًا لرواج مسمياتها، فعبر بها في مقام تقرير الحكم الشرعي المنطبق عليها، ومثال ذلك "بيع العينة"، وهو البيع بثمن إلى أجل، ثم اشتراء نفس المبيع بأقل من ذلك الثمن، كما فسرها في القاموس، (4) وقد عنون بها مالك صورةَ بيع الطعام قبل قبضه. (5)
ومنه أيضًا لفظ "الصكوك" جمع صك، فقد قال مالك إنه بلغه "أن صكوكًا خرجت للناس في زمان مروان بن الحكم من طعام الجار، فتبايع الناس تلك
(1) ابن رشد: المقدمات الممهدات، ج 3، ص 5. وعبارة "وعندهم" غير موجود في كتاب ابن رشد حسب النشرة التي اعتمدنا عليها. - المحقق.
(2)
المرجع نفسه، ص 99. - المحقق.
(3)
الموطأ بشرح السيوطي ص 67 ج 2 ط الحلبي.
(4)
الفيروزآبادي: القاموس المحيط، ج 4، ص 215. - المحقق.
(5)
وأورد فيها ثمانية أحاديث. الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب البيوع"، الأحاديث 1450 - 1457، ج 3، ص 400 - 404.
الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها". (1) ومن مثل هذا أيضًا "الرُّقبى"، وهي تحبيس رجلين دارًا بينهما، على مَنْ مات منهما فحظُّه حبسٌ على الآخر. وقد قال ابن القاسم: "لم يعرف مالك الرُّقْبَى، ففُسِّرت له فلم يجزها". (2) ومن مثله أيضًا استعمال "الطعام" بمعنى البر، كما هو الجاري في تعبير أهل الحجاز كما صرح به الشيخ الحسن في شرح الرسالة. (3)
6 -
ونَحْوٌ سادس من هذه الأنحاء هو معان فقهية قال بها الإمام مالك، وارتجل للتعبير عنها ألفاظًا تصلح للوفاء بمعناها، ولكنها لم تُستعمل عند غيره في خصوص ذلك المعنى، مثل "الاعتصار" للرجوع في العطية، وهو في أصل اللغة مطلق الطلب والأخذ. ومثل "البيع على البرنامج" الذي جعله عنوانًا للبيع بالصفات والمقادير الضابطة. وهذا راجعٌ لا محالةَ إلى ما عُرف به مالك من متانة السليقة، وقوة الارتجال في اللغة بتعبير فصيح. نقل السيوطي في المزهر عن كتاب ليس - ولا يوجد ذلك في النسخ التي بين أيدينا - أنه لم يُسمع جمعُ الدجال من أحد
(1) وبقية الكلام: "فدخل زيد بن ثابت ورجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على مروان بن الحكم، فقالا: أَتُحل بيع الربا يا مروان؟ فقال: أعوذ بالله، وما ذاك؟ فقالا: هذه الصكوك تبايعها الناس ثم باعوها قبل أن يستوفوها، فبعث مروان بن الحكم الحرس يتبعونها ينزعونها من أيدي الناس، ويردونها إلى أهلها". المصدر نفسه، الحديث 1454، ص 402. - المحقق.
(2)
المدونة ص 168 ج 15 مصر. - المصنف. ولفظه: "قلت [أي سحنون]: أرأيت الرقبي هل يعرفها مالك؟ قال [ابن القاسم]: سأله بعض أصحابنا - ولم أسمعه أنا منه - عن الرقبي، فقال: لا أعرفها ففسرت له، فقال: لا خير فيها. قلت: وكيف سألوه عن الوقت؟ قال: قالوا له الرجلان تكون بينهما الدار فيحبسانها على أيهما مات فنصيبه للحي حبسًا عليه. قال، فقال لهم مالك: لا خير فيه. [روى] يزيد بن محمد، عن إسماعيل ابن علية، عن ابن أبي يحيى، عن طاووس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رقبى ومن أرقب شيئًا فهو لورثة المرقب"". المدونة الكبرى، "كتاب العارية"، ج 6، ص 177. وانظر: الرصاع، أبو عبد الله محمد الأنصاري: شرح حدود ابن عرفة الموسوم الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الوافية، تحقيق محمد أبي الأجفان والطاهر المعموري (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1993)، ج 2، ص 551. والرُّقْبَى - كما عرفها ابن عرفة في حدوده هي "تحبيسُ رجلين دارًا بينهما على أن من مات منهما فحظه حُبُسٌ على الآخر". - المحقق.
(3)
كفاية الطالب الرباني ص 131 ج 2 ط الخيرية بمصر.
إلا من مالك بن أنس فقيه المدينة فإنه قال: "هؤلاء الدجاجلة". (1)
7 -
وقد يلتحق بهذه الأنحاء نَحْوٌ سابع يرجع إلى مجرد الذوق في اختيار التعبير، أو اختيار المناسبة والترتيب، مما يَخترع له الإمامُ ما انفرد به ولم يُسبق إليه، مثل اختراع "كتاب الجامع" في ختام الموطأ للمعاني المفردة التي لم يتأتَّ له جمعُها في كتاب، فجمعها أشتاتًا في "كتاب الجامع". وهو اختراعٌ له نَبَّه إليه أبو بكر ابن العربي في "القبس". ومن ذلك الجوامع التي ختم بها كتبًا من الموطأ بجمع المسائل المفردة التي تفصَّل على تراجم مثل "جامع الصيام" و"جامع الحج" و"جامع الطلاق" و"جامع بيع الثمار" و"جامع الطعام" و"جامع البيوع" و"جامع ما جاء في القرار" و"جامع القضاء" و"جامع العقول".
فمن هذه الأنحاء السبعة تكونت للموطأ قيمتُه ذات الأثر في وضع المصطلح الخاص بالفقه المالكي، المخالف في كثير من تفاصيله لمصطلح المأخوذ في المذاهب الأخرى. وكذلك اتجه المذهب المالكي، بعد تدوين الموطأ، يوسع هذا المصطلح ويقننه بما اقتضاه التوجيهُ الآتي من سير المخترعات التي وضعها الإمام مالك في تدوينه، فأخذ لغة الموطأ قبل فقهه وعلمه مأخذَ الشيء البديع النفيس. وأقبل علماءُ اللغة يتتبعون ألفاظه، ويشرحون غريبه.
(1) السيوطي: المزهر، ج 1، ص 242. و"كتاب ليس في كلام العرب" من تصنيف الحسين بن أحمد بن خالويه، المتوفَّى سنة 370. ولم أجد الكلام المنسوب إليه في النشرة التي حققها أحمد عبد الغفور عطار والصادرة في طبعتها الثانية بمكة المكرمة سنة 1399/ 1979 بدون ذكر لاسم الناشر مع قراءة الكتاب أكثر من مرة ومراجعة فهرس الأعلام الذي لا وجود فيه لاسم مالك بن أنس. وهذا يؤيد ما قاله صاحب المقال بأنه "لا يوجد في النسخ التي بين أيدينا". على أن مصحح كتاب "المزهر" ذكر في الحاشية ما يأتي: "وعبارته (يعني ابن خالويه): قال أبو عمر (كذا): الدجال: المموِّه، يقال: دجلت السيف: موهته وطليته بماء الذهب. قال: وليس أحد جمعه إلا مالك بن أنس، قال: هؤلاء الدجاجلة"، محيلًا على ص 41 من "كتاب ليس"، ولكن دون أي ذكر لاسم محقق الكتاب، ولا لاسم ناشره، ولمكان نشره وتاريخه! - المحقق.
وقد ذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك ثلاثةً من الذين ألفوا في شرح غريب الموطأ: البراقي والأخفش وأبو القاسم العثماني المصري. وفي خزانة جامع الزيتونة الأعظم بتونس نسخةٌ عتيقة من شرحٍ على غريب الموطأ اسمه "التعليق" لأبي عبد الله ابن السيد البطليوسي الأندلسي من أهل القرن الخامس والسادس، (1) زيادةً على ما اهتم به القاضي عياض في كتاب "مشارق الأنوار" من ضبط وتحقيق وشرح لمفردات الموطأ مع صحيحي البخاري ومسلم. ثم إن لمالك وراء الموطأ مجالًا أوسع في التعبير عن المعاني الفقهية بتعابير تؤثر في وضع المصطلح الفقهي لمذهبه وضبطه، وذلك هو المجالُ المعتاد للإفتاء بالجواب الشفهي عن المسائل المعروضة عليه.
وقد بين عياض في "ترتيب المدارك" أن القاصدين إلى مالك كانوا صنفين: طالبي حديث يسمعون الموطأ، وطالبي فقه يتقدمون بالمسائل. وكان مالك في أجوبة المسائل يتكلم عن روية وتحرّ وأناة، كما هو معروف في ترجمته، فكان ذلك عونًا على ضبط كلامه واتزان عبارته، كما هو معروف في تحرير عبارة الإفتاء مثلًا أو قريبًا مما يبدو منه من تحرير عبارة الموطأ. فكثرت بذلك الاصطلاحاتُ الرائجة في كلامه، واتسع مجالُ التعبير على مثال الأنحاء التي تقدم ذكرها على الموطأ.
وقد اعتنى أصحابُه المتفقهون عليه بتدوين مسائله، وضبط صور تعبيره. وذكر عياض في ترتيب المدارك أن ابن وهب ألف سماعه من مالك في ثلاثين كتابًا، وأن مالكًا لم يكن يتكلم بشيء إلا كتبه ابن وهب. وذكر أن أشهب وابن القاسم وأسد بن الفرات أيضًا دونوا أسماعَهم عن مالك. وفي ترجمة علي بن زياد أنه كتب سماعه من مالك ثلاثة كتب. فتكونت من هذه المجموعة الضخمة مادةٌ واسعة للتعبير الاصطلاحي الفقهي في المذهب المالكي، مما اتفق فيه هذا المذهب مع المذاهب الأخرى أو ما اختلف عنها فيه.
(1) ترتيب المدارك ص 131 ج 2 ط فضالة المغرب. - المصنف.