المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثبوت شهر رمضان بالهاتف أو المذياع - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيفِقْهُ النّبوَّة وَالسِّيرَة

- ‌نسب الرسول صلى الله عليه وسلم ومناسبته لعليِّ ذلك المقام

- ‌سلسلة النسب النبوي

- ‌شرف هذا النسب:

- ‌طهارة هذا النسب:

- ‌زكاء هذا النسب:

- ‌قصة المولد [والمبعث والرسالة]

- ‌نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌طهارة النسب الشريف:

- ‌مولده صلى الله عليه وسلم

- ‌نشأته صلى الله عليه وسلم

- ‌بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌الهجرة

- ‌ظهور الإسلام في المدينة:

- ‌الغزوات:

- ‌شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناؤه:

- ‌شمائله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه

- ‌أسماؤه الشريفة:

- ‌الشمائل المحمدية

- ‌مقدمة:

- ‌الآثار المروية في الشمائل:

- ‌تفصيل الشمائل:

- ‌من يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة

- ‌إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن الاهتمام بتناول الطعام

- ‌الطعام مادة جسدية ولذة حيوانية:

- ‌المدد الروحاني:

- ‌جوع الرسول صلى الله عليه وسلم[والحكمة منه]:

- ‌توجع بعض السلف عند ذكر ذلك:

- ‌تنافس آل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الاقتداء به:

- ‌معجزة الأمية

- ‌المعجزات الخفية للحضرة المحمدية

- ‌ما هي المعجزات وأي شيء هي المعجزة الخفية

- ‌أصناف المعجزات الخفية:

- ‌المقصد العظيم من الهجرة

- ‌الكتاب الذي هم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته

- ‌مشكلات:

- ‌الحكم المتجلية من هذا المقام الجليل:

- ‌مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌[مقدمة]

- ‌صفة مجلس الرسول عليه السلام

- ‌كيفية التئام مجلس الرسول وخروجه إليه:

- ‌هيئة المجلس الرسولي:

- ‌ما كان يجري في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌وقت المجلس الرسولي:

- ‌آداب مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة

- ‌ الحرية

- ‌المقام الأول: في الحرية والمساواة في الشريعة المحمدية:

- ‌دعوة الإسلام إلى الحرية:

- ‌مظاهر الحرية

- ‌حرية العبيد:

- ‌سد ذرائع انخرام الحرية:

- ‌تحصيل:

- ‌المساواة:

- ‌ موانع المساواة

- ‌المقام الثاني: أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة بين الأمم غير أتباع الإسلام:

- ‌المدينة الفاضلة

- ‌[تمهيد]

- ‌[الفطرة وأصول الاجتماع الإنساني]:

- ‌[سعي الأنبياء والحكماء لتأسيس المدينة الفاضلة]:

- ‌[الإسلام وتأسيس المدينة الفاضلة]:

- ‌[قوام المدينة الفاضلة وخصائصها وصفاتها]:

- ‌المحْوَر الثَّالِثفِي الأُصُولِ وَالفِقْهِ وَالفَتْوى

- ‌الفَرْع الأَوّلالأصُوْل

- ‌حكمةُ التشريع الإسلامي وأثره في الأخلاق

- ‌المحكم والمتشابه

- ‌بيان وتأصيل وتحقيق لحكم البدعة والمنكر

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيالفِقْهُ وَالفَتْوَى

- ‌حكم قراءة القرآن على الجنازة

- ‌قراءة القرآن في محطة الإذاعة

- ‌السؤال:

- ‌الجواب

- ‌[تمهيد: استحباب سماع القرآن]

- ‌ في حكم تصدي القارئ للقرآن بمركز الإذاعة

- ‌في حكم سماع السامعين قراءة القرآن من آلة الإذاعة:

- ‌ثبوت الشهر القمري

- ‌الجواب:

- ‌ثبوت شهر رمضان بالهاتف أو المذياع

- ‌النسب [في الفقه الإسلامي]

- ‌القسم الأول: معلومات تمهيدية

- ‌أهمية النسب في مباحثات الفقه:

- ‌اقتضاء الفطرة العناية بالنسب:

- ‌الأوهام التي علقت بالنسب:

- ‌عناية الشريعة بحفظ النسب:

- ‌القسم الثاني:‌‌ معنى النسبلغة، وحقيقته الشرعية، وأنواعه

- ‌ معنى النسب

- ‌حقيقة النسب:

- ‌أصناف النسب وأسماؤها الجارية في كلام الفقهاء:

- ‌القسم الثالث: طريقة ثبوت النسب

- ‌مصادر استنباطها:

- ‌مبنى النسب:

- ‌الطريق الأول: الفراش:

- ‌الثاني: الحمل:

- ‌الطريق الثالث: البينة:

- ‌الطريق الرابع: الدعوة:

- ‌الطريق الخامس: الإقرار بالنسب:

- ‌الطريق السادس: حوز النسب:

- ‌الطريق السابع: شهادة السماع

- ‌الطريق الثامن: القافة:

- ‌الطريق التاسع: حكم القاضي:

- ‌القضاء بالقرعة في النسب وغيره:

- ‌القسم الرابع: مبطلات النسب وما لا يبطله

- ‌تمهيد:

- ‌مبطلات النسب:

- ‌ما لا يبطل به النسب:

- ‌ما يتوهم أنه يقطع النسب:

- ‌القسم الخامس: آثار النسب

- ‌ الحفظ

- ‌البر

- ‌الصلة:

- ‌الوقف وآثاره في الإسلام

- ‌[تقديم]

- ‌نص ما به من الاقتراح الذي في جريدة الأهرام

- ‌أصل التملك قبل الإسلام:

- ‌مقصد الشريعة الإسلامية في تصريف الأموال

- ‌الوقف في نظر الشريعة الإسلامية:

- ‌انقسام الحبس:

- ‌هل الوقف من الإسلام

- ‌ليس الوقف حجرًا على الرشداء:

- ‌هل في الوقف مصلحة أو مفسدة

- ‌هل الوقف خرمٌ لنظام الاقتصاد العام

- ‌هل من حق ولاة الأمور منع الناس من الوقف

- ‌هل صدرت الفتوى بإبطال بعض أنواع الوقف؟ وهل إذا أفتى بذلك من أفتى تكون فتواه صحيحة

- ‌الصاع النبوي

- ‌المخالفة في مقادير المكاييل المستعملة في كثير من بلاد المسلمين ومقادير المكاييل الشرعية:

- ‌نشأة الصاع النبوي وما ظهر بعده من الأصواع:

- ‌ضبط مقدار الصاع النبوي بوجه عام:

- ‌ضبط مقدار الصاع النبوي بمكيال تونس الحالي:

- ‌خاتمة

- ‌زكاة الأموال

- ‌زكاة الحبوب

- ‌التعامل بالأوراق المالية

- ‌حكم الربا في التعامل بالأوراق المالية:

- ‌زكاة "تذاكر البانكة" [الأوراق المالية]

- ‌[معنى الأوراق المالية المعروفة بتذاكر البانكة]:

- ‌حكم زكاة الأوراق المالية المعبَّر عنها بتذاكر البانكة:

- ‌لحوق الأوراق النقدية بأصناف الزكاة

- ‌مشروعية الزكاة:

- ‌المعنى الموجب للزكاة:

- ‌جواز تصريف رقاع الديون مع التعجيل بإسقاط

- ‌جواز القرض برهن

- ‌المصطلح الفقهي في المذهب المالكي

- ‌[مقدمة: المصطلح الفقهي وترجمة القوانين الأجنبية]:

- ‌[المصطلح الفقهي بين الوضع اللغوي والنقل الشرعي]:

- ‌[عوامل تكون المصطلح الفقهي في المذهب المالكي]:

- ‌[فقه الإمام مالك في الموطأ وتأسيس المصطلح الفقهي]:

- ‌[تنوع أسلوب مالك في التعبير اللغوي عن مسائل الفقه]:

- ‌[تطور المصطلح الفقهى بانتشار فقه الإمام مالك]:

- ‌[منهجان في الفقه المالكي]:

الفصل: ‌ثبوت شهر رمضان بالهاتف أو المذياع

‌ثبوت شهر رمضان بالهاتف أو المذياع

(1)

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد، فقد كثر سؤالُ مَنْ سألني هل إذا ثبت دخول شهر رمضان بوجه الثبوت الشرعي في بلد وجاء الخبر بواسطة التلفون إلى بلد آخر في الإعلام بثبوته، هل يُعتبر الإخبارُ بالتلفون مثبتًا للشهر فيلزم أهلَ البلد المخبَرين (بفتح الباء) العملُ بذلك الخبر فيصومون، أو لا يُعتَدّ به فلا يلزمهم الصوم؟ وأنا نرى الناسَ يُخبر بعضهم بعضًا بواسطة التلفون في الأمور العادية، فيعتمدون تلك الأخبار ويبنون عليها أعمالًا كثيرة، فهل يبنون كذلك عليها أمورَ عبادتهم؟ وهل يحصل ثبوتُ رمضان إذا بلغ الخبرُ بثبوته بواسطة المذياع (التلفون) من بعض مراكز الإذاعة بالبلاد الإسلامية؟

والجواب أن هذه مسألة قد كثر فيها خوضُ الخائضين، وتخليط الناظرين، يخلطون بين مختلِف الأقوال ومختلف الصور والأحوال. وإنما الفتوى إجادةُ التنزيل، لا كثرة القال والقيل، وإن طرق ثبوت الأمور الشرعية في العبادة والمعاملة غيرُ طرق ثبوت الأمور العادية. فطريقُ ثبوت أوقات الصلوات أذانُ المؤذنين، وإخبار الموقتين، وطريقُ ثبوت طهارة الماء أو ضدها إخبارُ رجلٍ أو امرأة موصوف بالعدالة إن بيَّن الوجه، أو اتفق مع المخبرَ في المذهب. (2)

(1) وقد جاء العنوان في الأصل على النحو الآتي: "نقل دخول شهر رمضان من بلد إلى آخر بواسطة الهاتف (التلفون) أو المذياع (الراديو) هل يثبت به الشهر أم لا؟ " المجلة الزيتونية، المجلد 1، الجزء 3، رمضان 1355/ 1936 (ص 145 - 149).

(2)

انظر القرافي: كتاب الفروق، ج 1، ص 81 - 86 (الفرق الأول بين الشهادة والرواية).

ص: 835

وطريقُ ثبوت شهر الصوم أو الفطر الشهادةُ برؤية الهلال ليلةَ ثلاثين من الشهر السابق، إذا كان الرائي رجلين عدلين أو جماعةً مستفيضة، أو بإكمال الشهر السابق ثلاثين يومًا. (1) وطريقُ ثبوت الحقوق شهادةُ عدلين في غير المال، وشهادةُ عدلين أو عدلٍ وامرأتين فيما يرجع إلى المال. (2) وطريقُ ثبوت العيوب إخبارُ مَنْ له معرفة به، وإن لَم يكن عدلًا. (3)

وقد يحصل الاطمئنانُ لطريقٍ من طرق الثبوت العادية، ولا يجزئ ذلك الطريقُ في الأمور الشرعية؛ لأن الشريعة قد عيَّنَتْ لثبوت أسباب التكاليف طرقًا خاصة رعيًا لأهميتها، ولِمَا يترتب عليها من المصالح. فلا يجوز لنا أن نتعداها بقياسها على الأمور العادية، وهذا من مزالق الخطأ الذي تزل فيه أقدامُ كثيرٍ من الناس.

ثم إن لأئمة الفقه خلافًا في وجوه طريق ثبوت رمضان، والمشهورُ من مذهب مالك وعامة أصحابه عدا ابن الماجشون (4) - وهو الذي نتقلده في الفتوى والذي عليه أهلُ تونس وإفريقيا الشمالية - أن طريقَ ثبوت رمضان من قبيل الشهادة. (5) وهو

(1) انظر في ذلك مثلًا سحنون: المدونة الكبرى، ج 1، ص 291 - 292؛ القيرواني: النوادر والزيادات، ج 2، ص 7 - 8؛ المالكي: التوضيح، "كتاب الصيام"، ج 2، ص 378؛ المواق:"التاج والإكليل" بهامش مواهب الجليل للحطاب، ج 3؛ ص 279 - 284.

(2)

انظر في تفصيل أنواع البينات والشهادات في المسائل التي ذكرها المصنف: ابن رشد: المقدمات الممهدات، "كتاب الشهادات"، ج 2، ص 292 - 293؛ ابن العربي: أحكام القرآن، ج 1، ص 121 - 123؛ القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 4، ص 440 - 443؛ ابن فرحون: تبصرة الحكام، ج 1، ص 225 - 310.

(3)

انظر مثلًا: الدسوقي: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج 2، ص 284 - 285.

(4)

انظر تفصيل قول ابن الماجشون عند الباجي: المنتقى، ج 3، ص 8؛ ابن العربي: المسالك، ج 4، ص 155.

(5)

الباجي: المنتقى، ج 3، ص 5؛ ابن العربي: المسالك، ج 4، ص 153؛ ابن رشد القرطبي (الحفيد): بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص 275. على أن للباجي تفصيلًا من المهم ذكره هنا، حيث قال بعد أن ساق جملة من الأقول: "ومعنى هذا عندي أن الصوم يكون ثبوته بطريقين: أحدهما الخبر، =

ص: 836

وإن كان فيه شائبةُ الرواية وشائبةُ الشهادة، فقد غلب عليه عند مالك شائبةُ الشهادة، لأدلة من السنة الصحيحة، كما بينه شهاب الدين القرافي في الفرق الأول. (1)

ومن مراعاة إجراء أمر المسلمين على انتظام في القطر الواحد أو في سائر الأقطار بقدر الإمكان، ومن اتقاء تعريض عباداتهم إلى ظهور ما يناقضها من تبين كذب الْمخبِر أو توهمه بقدر الإمكان فيما استنبطناه من تعليل قول مالك رحمه الله، ويترتب على كون طريق ثبوته من قبيل الشهادة أن لا يكون ثبوتُه بواسطة القضاة، وأن يكون ثبوتُه بواسطتهم شبيهًا بالحكم. فلذلك كان المشهورُ عمومَه لسائر

= والثاني الشهادة. فأما طريقة الخبر، فإذا عمَّ الناسَ رؤيتُه فمن أخبره العدل عن هذه الرؤية لزمه الصيام، ويجري ذلك مجرى طلوع الفجر، وزوال الشمس وغروب الشمس في وجوب الصلاة ووجوب الإمساك للصوم والفطر عند انقضاء اليوم بالغروب. والطريق الثاني: الشهادة، وذلك إذا قل عدد الرائين له، فإنه يثبت من طريق الشهادة، فيُعتبر فيه من صفات الشهود عددهم، واختصاص ثبوته بالحكام ما يُعتبر في سائر الشهادات". (المصدر نفسه، ص 7). انظر عرضًا مفصَّلًا للآراء في مسألة ثبوت رؤية هلال رمضان من باب الشهادة هي أم من باب الخبر في: البرزلي: جامع مسائل الأحكام، ج 4، ص 178 - 181.

(1)

القرافي: كتاب الفروق، ج 1، ص 74 - 91 (الفرق الأول بين الشهادة والرواية). وقد ذكر القرافي أن الذي حداه إلى ابتداء كتابه بهذه المسألة طول انشغاله بها وكثرة سؤاله أهلَ العلم عن الفرق بين الشهادة والرواية وضوابط التمييز بينهما من حيث الماهية، وعدم انثلاج صدره لما أجابوه به. ولم يزل على ذلك القلق نحو ثماني سنين حتى اطلع على تحقيق عند الإمام المازري للمسألة، حيث "ميز بين الأمرين من حيث هما". ثم أورد الكلام الآتي للمازري:"فقال رحمه الله: الشهادة والرواية خبران، غير أن المخبَر عنه إن كان عامًّا لا يختص بمعين فهو الرواية، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" و"الشفعة فيما لا يُقسم"، لا يختص بشخص معين بل ذلك على جميع الخلق في جميع الأعصار والأمصار. بخلاف قول العدل عند الحاكم: لهذا عند هذا دينار، إلزامٌ لمعيَّن لا يتعداه إلى غيره فهذا هو الشهادة المحضة، والأول الرواية المحضة، ثم تجتمع الشوائب بعد ذلك". (ص 75 - 76). ولم أعثر على هذا الكلام بلفظه في شرح المازري على البرهان للجويني (ومن الجائز أن يكون القرافي نقله من شرح التلقين)، ولكن المازري مد القولَ فيها في باب الأخبار، فانظرها في: إيضاح المحصول من برهان الأصول، ص 475 - 478. وقارن بما جاء في: الجويني، إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف: نهاية المطلب في دراية المذهب، تحقيق عبد العظيم محمود الديب (جدة: دار المنهاج، ط 1، 1428/ 2007)، ج 4، ص 13 - 15.

ص: 837

الآفاق إذا ثبت لدى أحد قضاة الأمصار الإسلامية، [فهو] بمنزلة الحكم الذي يرفع الخلاف. (1)

ولذلك أيضًا كان قابلًا لتعيين العمل فيه بأحد المذاهب، من قبل السلطان؛ لأنه بمنزلة تخصيص القضاء بمذهب - فإن القضاء يقبل التخصيص. ومن أجل ذلك، كان العملُ بالقطر التونسي في أمر الصوم والفطر على مذهب مالك، وكان الْمعيَّنُ لإجراء أعمال الرؤية وثبوت الشهور هو قاضي المالكية، مع وجود قاض حنفي بالحاضرة. وكان ثبوتُه عند القاضي المالكي موجِبًا للثبوت العام، بحيث يصوم الحنفي بثبوت الشهر عند القاضي المالكي برؤية عدلين الهلال، (2) مع أن المذهب الحنفي يشترط في الغالب الشهادة المستفيضة. (3)

(1) انظر مثلًا الدردير: الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه، ج 1، ص 510 - 511.

(2)

انظر مثلًا سحنون: المدونة الكبرى، ج 1، ص 291 - 292.

(3)

ليس اشتراط الاستفاضة - وهو ظاهر الرواية - عند فقهاء الحنفية على إطلاقه، وإنما تنوعت أقوالهم في ذلك. قال القدوري:"ومَنْ رأى هلال رمضان وحده صام وإن لم يقبل الإمام شهادته، وإن كان بالسماء علة (أي كانت مغيمة) قبل شهادة الواحد العدل في رؤية الهلال، رجلًا كان أم امرأة، حرًّا كان أو عبدًا. وإن لم يكن بالسماء علة لم تقبل الشهادةُ حتى يراه جمعٌ كثير يقع العلم بخبرهم". القُدُوري، أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر: مختصر القدوري في الفقه الحنفي، تحقيق كامل محمد محمد عويضة (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1418/ 1997)، ص 62. وقال ابن عابدين:"أنت خبير بأن كثيرًا من الأحكام تغيرت لتغير الأزمان، ولو اشترط في زماننا الجمع الغفير لزم أن لا يصوم الناسُ إلا بعد ليلتين أو ثلاث لما هو مشاهد من تكاسل الناس". وبعد أن أورد الكلام السرخسي: "وإنما يرد الإمام شهادته إذا كانت السماء مصحية وهو من أهل المصر، فأما إذا كانت متغيمة أو جاء من خارج المصر أو كان في موضع مرتفع، فإنه يُقبل عندنا"[السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل: كتاب المبسوط، تحقيق أبي عبد الله محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421/ 2001)، ج 2/ 3، ص 68]، علق قائلًا:"فقوله: عندنا يدل على أنه قول أئمتنا الثلاثة [يعني أبا حنيفة ومحمد بن الحسن وأبا يوسف]، وقد جزم به في المحيط وعبر عن مقابله بقيل". ثم قال: "ويظهر لي أنه لا منافاة بينهما (أي بين الروايتين)؛ لأن رواية اشتراط الجمع العظيم التي عليها أصحاب المتون محمولة على ما إذا كان الشاهد من المصر في مكان غير مرتفع، فتكون الرواية الثانية مقيدة =

ص: 838

فإذا تقرر هذا، فطريقُ ثبوت الشهر إذا لم يكن على كمال ما قبله هو رؤيةُ الْمكلَّفِ الهلال، أو إخبارُ رجلين عدلين برؤية هلاله ليلة ثلاثين أو بشهادة مستفيضة، وإن لم يكونوا معروفين بالعدالة. فإذا لم تحصل إحدى هاتين الشهادتين، لا يثبت الشهرُ الذي هو سببُ وجوبِ الصوم ثبوتًا شرعيًّا، بحيث تترتب عليه مشروعيةُ مسبَّبِه وهو الصوم.

ثمَّ إن ثبوتَ رمضان شرعًا نوعان: ثبوتٌ عام وهو الغالب، وثبوتٌ خاص وهو نادر. فأما الثبوتُ العام، فهو الثبوتُ عند قاضي البلد بوصف كونه قاضيًا. فذلك الثبوتُ يجب العملُ به على مَنْ في ولاية القاضي، فهذا معنى كونه ثبوتًا عامًّا. وأما الثبوتُ الخاص، فهو الثبوتُ عند شخص في خاصة نفسه، بحيث لا يتعداه إلى غيره إلا إلى أهله كما سيأتي. والمرادُ بالشخص ما يشمل القاضي في خاصة نفسه، لا بوصفه قاضيًا، إذا لم يبلغ طريقُ الثبوت لديه أن يكون طريقًا عامًّا بل خاصًّا.

فأما طريقُ الثبوت العام، فيحصل بثلاثة وجوه:[الأول: ] حصوله بشهادة عدلين أو جماعة مستفيضة عند القاضي برؤية الهلال. (1) الثاني: حصوله بخطاب قاضي بلد آخر إياه بثبوت رؤية هلال رمضان عنده، إذا توفرت في ذلك شروطُ خطاب القضاة. (2) الثالث: حصولُه بنقل ناقل للقاضي أن الشهر ثبت في بلد آخر حضره الناقل. وهذان الوجهان الأخيران مبنيان على القول بأن ثبوته في موضع يعم سائر الأقطار، إذا نقل إلى قضاتها وهو المشهور، خلافًا لمن قال إن لكل قوم رؤيتهم. (3)

= لإطلاق الرواية الأولى، بدليل أن الرواية الأولى علل فيها ردَّ الشهادة بأن التفرد ظاهر في الغلط". ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار، ج 3، ص 357. وانظر الكاساني: بدائع الصنائع، ج 2، ص 592 - 598.

(1)

انظر في ذلك مثلًا: القيرواني: النوادر والزيادات، ج 2، ص 10؛ الباجي: المنتقى، ج 3، ص 5؛ ابن العربي: المسالك، ج 4، ص 152 - 153؛ المالكي: التوضيح، "كتاب الصيام"، ج 2، ص 378 - 379.

(2)

انظر في معنى خطاب القضاة وشروطه: التسولي: البهجة في شرح التحفة، ج 1، ص 118 - 138.

(3)

انظر في هذه المسألة ما حرره المصنف بعنوان "ثبوت الشهر القمري" بعد هذا.

ص: 839

فإن كان الناقلُ ناقلًا عن رؤية عدلين، فلا بد أن يكون الناقلُ عدلين أيضًا باتفاق علماء المذهب؛ لأنه من باب نقل الشهادة، ونقلُ الشهادة يشترط فيه ما يشترط في أصله المنقول. (1) فالشهادة في الأمور التي لا يُقبل فيها أقلُّ من عدلين لا يكون نقلُها إلا بعدلين، وثبوتُ رمضان من هذا النوع كما تقرر. وإن كان الناقلُ ناقلًا عن شهادة مستفيضة، فقد اختلف علماء المذهب (إذ ليست المسألة بمنصوصة في الأمهات).

فالذي ذهب إليه الشيخ أبو عمران الفاسي (2) وابن رشد في المقدمات وخليل في التوضيح وبهرام (3) في الشامل وابن فرحون في شرح مختصر ابن الحاجب وهو ظاهرُ مختصر خليل، أنه لا بد أن يكون الناقلُ للقاضي عن الشهادة المستفيضة عدلين. إلا إذا وجه القاضي من تلقائه عدلًا يستكشف له الخبرَ عن ثبوت الشهر في

(1) انظر في مسألة نقل الشهادة ابن العربي: المسالك، ج 6، ص 274 - 276.

(2)

هو أبو عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج القرشي، المعروف بأبي عمران الفاسي. ينتسب إلى أسرة فاسية عريقة من أبي الحاج وأصله من بني غفجوم من قبيلة جراوة الزناتية. ولد بمدينة فاس 356/ 975 - 976 وتلقى تعليمه الأول بها، لكنه تعرض للمضايقة من أمراء فاس المغراويين فرحل إلى قرطبة حيث تلقى العلم على يد أبي محمد عبد الله الأصيلي سعيد بن مريم وعبد الوارث بن سفيان وأبي الفضل أحمد بن قاسم. ثم انتقل إلى القيروان حيث استقر وأخد العلم على أبي الحسن علي القابسي، وذهب إلى مكة للحج وسمع من أبي ذر الهروي، وعرج بعد ذلك على بغداد. هناك حضر مجالس القاضي أبي بكر الباقلاني في الأصول، وسمع من أبي الفتح بن أبي الفوارس وأبي الحسن المستملي. وبعد رحلة طويلة عاد أبو عمران الفاسي إلى القيروان واستقر بها، وقد اشتهر بفقهه وإفتائه وتدريسه وخطابته. وبرع على الخصوص في علم الأصول وعلم الكلام والمناظرة. ولما ذاع صيته قدم إليه الطلبة من بلاد المغرب والأندلس، وأجاز العديد من الفقهاء. وكان تلاميذه من الفاسيين والسبتيين والأندلسيين والقيروانيين وغيرهم. ألف أبو عمران الفاسي كتاب التعاليق على المدونة وفهرسة، كما أخرج نحو مائة حديث. توفي بالقيروان في رمضان 430/ يونيو 1039، وقد بلغ من العمر 65 سنة.

(3)

هو تاج الدين أبو البقاء بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن عوض بن عمر السلمي، الدَّميري، المصري، المالكي. ولد سنة بقرية دَميرة سنة 734. فقيه مالكي، تقلى العلم على علماء كثيرين في مصر ومكة، وتخرج عليه عدد وافر من التلاميذ. من تصانيفه: الشامل (في فروع الفقه المالكي)، ثلاثة شروح على مختصر خليل، المناسك وشرحها، منظومة في المسائل التي لا يُعذر فيها بالجهل، شرح كتاب إرشاد السالك إلى أشرف المسالك في فقه الإمام مالك"، إلخ. توفي بهرام سنة 805 هـ.

ص: 840

بلد ما، فحينئذ يعمل القاضي بخبره ويثبت به الشهرُ ثبوتًا عامًّا - قاله ابن رشد في المقدمات؛ (1) لأن ذلك العدل حينئذ قائمٌ مقامَ القاضي في تلقِّي الثبوت عن شهادة البلد الآخر، فكان بمنزلة القاسم، والذي يوجهه بدلًا منه للتحليف. وكلُّ ذلك يكفي فيه العدلُ الواحد، فأخرجوه من حكم نقل الشهادة.

والتحقيق أن الاكتفاء بالواحد في توجيه القاضي عدلًا مِنْ قِبَلِه يستكشف له لا يختص بهذه الصورة، بل يجري في سائر الصور. وقال أحمد بن مُيَسِّر (2): يُقبل العدلُ الواحد في النقل عن الشهادة المستفيضة، ويثبت به الشهرُ عند القاضي. واختاره الشيخ ابن أبي زيد وابن يونس والباجي، وجعلوه من باب الخبر لا من باب نقل الشهادة. (3)

وإن كان الناقلُ نقلَ ثبوتَ الشهر عند قاضي بلد آخر، فحكمُه كحكم النقل عن الشهادة المستفيضة عند الفريقين من الفقهاء المذكورين آنفًا، عدا أبا الوليد الباجي فلم أر له فيه قولا.

وأما طريقُ الثبوت الخاص، فيحصل بالوجه الثالث من الوجوه الثلاثة المذكورة في طريق الثبوت العام. وإن الأقوال في صوره هي عينُ الأقوال التي

(1) ابن رشد: المقدمات الممهدات، "كتاب الصيام"، ج 1، ص 252 - 253. وانظر كذلك التوضيح، "كتاب الصيام"، ج 2، ص 379؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج 1، ح 510؛ الدميري، بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز: الشامل في فقه الإمام مالك، نشرة بعناية أحمد بن عبد الكريم نجيب (القاهرة: مركز نجيبويه للطباعة والنشر والدراسات، ط 1، 1429/ 2008)، ج 1، ص 194.

(2)

هو أبو بكر أحمد بن خالد بن مُيَسِّر الإسكندراني، فقيه من أهل مصر، شيخ المالكية، ولي قضاء الإسكندرية سنة 307، وانتهت إليه رئاسة العلم بمصر بعد ابن المواز. وهو راوي كتبه، وحافظ علمه، وعليه تفقه. من تصانيفه "كتاب الإقرار والإنكار". توفي سنة 309 هـ.

(3)

القيرواني: النوادر والزيادات، ج 2، ص 10؛ الباجي: المنتقى، ج 3، ص 7؛ البرزلي: جامع مسائل الأحكام، ج 1، ص 521 - 522.

ص: 841

ذكرناها آنفًا، إلا أن ابن رشد يرجح في الثبوت الخاص الاكتفاءَ بالعدل الواحد، (1) فينضم في هذا إلى قول ابن ميسر وموافقيه.

وقد ظهر أن القولين في قبول نقل العدل الواحد عن الشهادة المستفيضة وعن الثبوت لدى قاضي بلد آخر كلاهما مشهور. والذي نتقلده ونفتي به أن أرجحَ القولين، الجاري على قواعد المذهب، هو قولُ أبي عمران وموافقيه مِن اشتراطِ كون الناقل عدلين في صور النقل كلها. أما بالنسبة للثبوت العام الذي هو الأهم عند الناس، فلأن الثبوت عند القاضي ضربٌ من الحكم كما تقدم. فطريقهُ الشهادة، وحكم النقل عن الشهادة كحكم الشهادة، وحكم النقل عن الثبوت عند القاضي كحكم نقل حكم القاضي، وحكم القاضي لا يثبت إلا بشاهدين. ولهذا اختار ابنُ رشد فيه قولَ من اشترط نقل العدلين؛ إذ قد استقر المذهبُ على اعتبار طريق الثبوت العام للشهر شهادة، وأن ثبوته العام حكم. (2)

وأما بالنسبة للثبوت الخاص، فالقولان متقاربان من جهة النظر. ولكن الأرجح قولُ أبي عمران أيضًا؛ لأن النقلَ فيه نقلُ شهادة، فيجري على حكم الشهادة على الشهادة، ونقلُ الثبوت لدى القاضي نقلُ حكمٍ مع إلغاء الفارق بين الثبوت العام والثبوت الخاص. ألا ترى أن المذهبَ لم يفرق بينهما في صورة ما إذا رأى العدلُ الواحد الهلالَ وأخبر بذلك رجلًا أنه لا يثبت بخبره دخولُ رمضان عند المخبَر (بفتح الباء) ولا يصوم بخبره؟

(1) قال ابن رشد بعد أن ذكر طعن أبي عمران الفاسي في قول ابن ميسر: "وقول أبي عمران لا معنى له". المقدمات الممهدات، "كتاب الصيام"، ج 1، ص 252.

(2)

انظر القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 3، ص 159؛ البرزلي: جامع مسائل الأحكام، ج 1، ص 518 - 524.

ص: 842

فإذا تقرر هذا، فالإخبارُ بواسطة التلفون يلزم أن تعرضه على قاعدة ثبوت الشهر شرعًا، ولا تُجريه (1) على اعتبارات الناس في مخاطباتهم العادية. فإذا كان الإخبارُ بالتلفون واردًا إلى قاضي البلد الذي لم يُرَ فيه الهلالُ، فإن كان ذلك الْمخبِر (بالكسر) قاضيًا في بلد ثبت لديه الشهر، وكان الْمخبَرُ (بالفتح) قد تحقق صوتَه أو اصطلحا على علامةٍ بينهما لم يطلع عليها غيرُهما كما نفعله في تونس في علامة الرسائل البرقية المنبئة برؤية هلال رمضان، فذلك الخطابُ التلفوني يثبت به الشهرُ عند الْمخاطَب (بفتح الطاء). وهو من باب خطاب القضاة. والمصير إلى التخاطب بالرسائل البرقية (التلغراف) في ذلك أولَى، وأبعدُ عن الريبة. وكذلك إذا كان المخبِرُ (بالكسر) نائب القاضي المخبر، مثل إخبار قضاة الكور لقاضي الجماعة.

وإن كان المخبِر (بالكسر) غيرَ قاض ولا نائبًا عن المخبَر (بالفتح)، فيُشترط في قبوله لدى القاضي المخبَر (بالفتح) أن يكون خبرَ عدلين معروفين بالعدالة لدى القاضي المخبَر (بالفتح) يخبرانه بأن عدلين يعرفان عدالتَهما رأيا الهلال، أو أن جماعةً مستفيضة رأته، أو أنه ثبت لدى قاضي البلد الذي به المخبران. ويلزم أن يتحقق القاضي الْمخبَر (بالفتح) صوتَهما، وأن يكون إخبارُهما بصريح الشهادة بكونهما سَمِعَا من العدلين أو من المستفيضة أو من القاضي الذي ثبت لديه الشهر. (2)

واعلم أنه كما يثبت الشهرُ عند القاضي وعند كل مَنْ له ولايةٌ تُخوله الإعلانَ بثبوت الشهر إذا تلقى الإعلامَ بذلك من القاضي أو نوابه مثل العمال ونوابهم في البلدان والبوادي على الطريقة التي يتلقون بها أوامرَ رؤسائهم في معتاد أشغالهم، كما يثبت عند عامة الناس بالعلامات الاصطلاحية المؤذنة بثبوت الشهر، مثل طلق

(1) جاء الحرف الأول في لفظة "تعرضه" تاءً واضحة، بينما تردد في لفظة "تجريه" بين التاء والنون، فأجريتهما على نسق واحد من قبيل توجيه الكلام إلى المخاطَب، وإن كان يمكن إجراؤهما على ضمير الجمع المتكلم، بحيث تقرأ اللفظتان بالنون في أولهما على النحو الآتي:"يلزم أن نَعرضه على قاعدة ثبوت الشهر شرعًا، ولا نُجري. . ."

(2)

الحطاب: مواهب الجليل، ج 3، ص 285 - 286.

ص: 843

المدفع وإيقاد السرج بالمنارات وضرب الطبول ليلًا، فكلُّ ذلك يقوم مقامَ قول القاضي للناس أنه قد ثبت عندي دخول الشهر.

وأما إخبارُ الناس بعضهم بعضًا بواسطة التلفون بأنه قد ثبت الشهر، فيجري على ما قررناه في طرق الثبوت الخاص بعد تحقق صوت المخبِر أو المخبِرين (بالكسر) على الخلاف، وذلك الخبرُ يقصر حكمُه على الْمخبَر (بالفتح)، فيجب عليه العملُ به في خاصة نفسه ويأمر أهله به، فإن أبوا أن يعملوا به فقيل يُجبرهم، نقله عبد الحق عن ابن الماجشون. وقال ابن بشير: لا يجبرهم، ولا يشيع ذلك في الناس فيوقعهم في حيرة، ولو أشاعه في الناس لم يجب عليهم الصومُ بخبره، ولم يجزئهم إذا صاموا بخبره؛ لأن الثبوت العام لا يكون إلا من تلقاء قاضي البلد أو نوابه الموجهين من قبله أو المأمورين منه. (1)

وهذا مقامٌ يغلط فيه كثيرٌ من الكاتبين والناظرين والعاملين عند قصد العمل به، فيختلط عليهم حكمُ الثبوت العام بحكم الثبوت الخاص، وربما أفتوا السائلين بدون تثبت فغروهم. فينبغي التيقظُ والتثبت في ذلك، لئلا يصبح أمرُ المسلمين فوضى، ولئلا يتسور على الخطط الشرعية مَنْ ليس من أهلها. (2)

(1) انظر القرطبي: المقدمات الممهدات، "كتاب الصيام"، ج 1، ص 251 - 252؛ الحطاب: مواهب الجليل، ج 3، ص 286 - 287. وانظر تحقيقات في المسألة لبعض فقهاء الأندلس والقيروان كأبي القاسم بن سراج وعبد الحميد الصائغ واللخمي في: الونشريسي: المعيار، ج 1، ص 410 - 419.

(2)

وقد رأينا وسمعنا طوائف من الشادين في العلم والفكر يتقحمون شؤون الفتوى، ويتجاسرون على أحكام الشريعة، ويتطفلون على قضايا الفكر بدون تأهل ولا عدة، فَيضِلون ويُضِلون، ويُهلِكون ويَهلَكون. فهم كما قال ابن تيمية عليه رحمة الله: من أنصاف العلماء إن لم يكونوا أقل، أولئك الذين يفسدون الأديان، مثلما يهلك أنصافُ الأطباء الأبدان. فمنهم من إن سألته عن المصنفات التي عليها مدار الفقه والفتوى في هذا المذهب أو ذاك رأيته يشرق ويغرب ولا يأتي بطائل. ومنهم من إن سألته عن الآياتِ والأحاديث التي هي المرجع في الباب الذي تندرج فيه المسألة التي يفتي فيها تلعثم وبلع ريقه وأعاد بلعه مرّة بعد أخرى، ثم راح يخبط يمينًا وشمالًا، ذاكرًا من النصوص ما كان ذاكرًا، تاركًا لك أن تختار منها ما كان مناسبًا للمسألة محل البحث!

ص: 844

وأما حكمُ ثبوت رمضان بواسطة المذياع (الراديو) من بعض مراكز الإذاعة في البلاد الإسلامية، فإن إذاعةَ الراديو الخبرَ بثبوت رمضان في بلد مركز الإذاعة لا يثبت به رمضان عند السامعين ثبوتًا شرعيًّا يترتب عليه وجوبُ الصوم، لكون المخبِر بذلك واحدًا ولا يُعرف حالُه في العدالة، ولا هو موجَّهٌ مِنْ طَرف قاضي البلد، ولا من طرف أميرها. فإذا سمعه الرجلُ في خاصة نفسه لا يجب عليه الصوم، وإذا سمعه القاضي لا يبني عليه ثبوتَ الشهر الثبوتَ العام. ومَنْ يصبح لأجله صائمًا، فلا اعتدادَ بصومه، وهو كصيام يوم الشك.

فإذا اصطلح قضاةُ أمصار الإسلام التي بها مراكزُ إذاعة على تنظيم الإخبار بثبوت الشهر لدى أحدهم بواسطة المذياع، فيلزم أن يعيِّن كلُّ واحد منهم رجلًا يُوجَّه من طرف القاضي للإخبار بأن الشهر ثبت عند القاضي، ويجعلوا علامةً لفظية يصطلحون عليها، لا يطلع عليها غيرُ القضاة المتخابرين، وتُجدَّدُ لكل شهر من أشهر العبادة.

فإذا نطق المخبِرُ الموجَّه من طرف القاضي في مركز الإذاعة بخبر ثبوت الشهر أردف خبرَه بالنطق بتلك العلامة، فيكون ذلك من قبيل خطاب القضاة، مثل معرفة الخط ومعرفة الختم والشكل. فحينئذٍ يثبت الشهرُ لدى القاضي المخاطَب (بالفتح)، وهو يعلم به أهلَ ولايته على الطرق المعتادة في الإعلام التي أشرنا إليها آنفًا.

أفتيت بذلك وأنا محمد الطاهر ابن عاشور

شيخ الإسلام المالكي بتونس

وحرر في 14 شعبان سنة 1355 هـ و 30 أكتوبر 1936 م.

ص: 845