المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌هل الوقف من الإسلام - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيفِقْهُ النّبوَّة وَالسِّيرَة

- ‌نسب الرسول صلى الله عليه وسلم ومناسبته لعليِّ ذلك المقام

- ‌سلسلة النسب النبوي

- ‌شرف هذا النسب:

- ‌طهارة هذا النسب:

- ‌زكاء هذا النسب:

- ‌قصة المولد [والمبعث والرسالة]

- ‌نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌طهارة النسب الشريف:

- ‌مولده صلى الله عليه وسلم

- ‌نشأته صلى الله عليه وسلم

- ‌بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌الهجرة

- ‌ظهور الإسلام في المدينة:

- ‌الغزوات:

- ‌شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناؤه:

- ‌شمائله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه

- ‌أسماؤه الشريفة:

- ‌الشمائل المحمدية

- ‌مقدمة:

- ‌الآثار المروية في الشمائل:

- ‌تفصيل الشمائل:

- ‌من يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة

- ‌إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن الاهتمام بتناول الطعام

- ‌الطعام مادة جسدية ولذة حيوانية:

- ‌المدد الروحاني:

- ‌جوع الرسول صلى الله عليه وسلم[والحكمة منه]:

- ‌توجع بعض السلف عند ذكر ذلك:

- ‌تنافس آل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الاقتداء به:

- ‌معجزة الأمية

- ‌المعجزات الخفية للحضرة المحمدية

- ‌ما هي المعجزات وأي شيء هي المعجزة الخفية

- ‌أصناف المعجزات الخفية:

- ‌المقصد العظيم من الهجرة

- ‌الكتاب الذي هم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته

- ‌مشكلات:

- ‌الحكم المتجلية من هذا المقام الجليل:

- ‌مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌[مقدمة]

- ‌صفة مجلس الرسول عليه السلام

- ‌كيفية التئام مجلس الرسول وخروجه إليه:

- ‌هيئة المجلس الرسولي:

- ‌ما كان يجري في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌وقت المجلس الرسولي:

- ‌آداب مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة

- ‌ الحرية

- ‌المقام الأول: في الحرية والمساواة في الشريعة المحمدية:

- ‌دعوة الإسلام إلى الحرية:

- ‌مظاهر الحرية

- ‌حرية العبيد:

- ‌سد ذرائع انخرام الحرية:

- ‌تحصيل:

- ‌المساواة:

- ‌ موانع المساواة

- ‌المقام الثاني: أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة بين الأمم غير أتباع الإسلام:

- ‌المدينة الفاضلة

- ‌[تمهيد]

- ‌[الفطرة وأصول الاجتماع الإنساني]:

- ‌[سعي الأنبياء والحكماء لتأسيس المدينة الفاضلة]:

- ‌[الإسلام وتأسيس المدينة الفاضلة]:

- ‌[قوام المدينة الفاضلة وخصائصها وصفاتها]:

- ‌المحْوَر الثَّالِثفِي الأُصُولِ وَالفِقْهِ وَالفَتْوى

- ‌الفَرْع الأَوّلالأصُوْل

- ‌حكمةُ التشريع الإسلامي وأثره في الأخلاق

- ‌المحكم والمتشابه

- ‌بيان وتأصيل وتحقيق لحكم البدعة والمنكر

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيالفِقْهُ وَالفَتْوَى

- ‌حكم قراءة القرآن على الجنازة

- ‌قراءة القرآن في محطة الإذاعة

- ‌السؤال:

- ‌الجواب

- ‌[تمهيد: استحباب سماع القرآن]

- ‌ في حكم تصدي القارئ للقرآن بمركز الإذاعة

- ‌في حكم سماع السامعين قراءة القرآن من آلة الإذاعة:

- ‌ثبوت الشهر القمري

- ‌الجواب:

- ‌ثبوت شهر رمضان بالهاتف أو المذياع

- ‌النسب [في الفقه الإسلامي]

- ‌القسم الأول: معلومات تمهيدية

- ‌أهمية النسب في مباحثات الفقه:

- ‌اقتضاء الفطرة العناية بالنسب:

- ‌الأوهام التي علقت بالنسب:

- ‌عناية الشريعة بحفظ النسب:

- ‌القسم الثاني:‌‌ معنى النسبلغة، وحقيقته الشرعية، وأنواعه

- ‌ معنى النسب

- ‌حقيقة النسب:

- ‌أصناف النسب وأسماؤها الجارية في كلام الفقهاء:

- ‌القسم الثالث: طريقة ثبوت النسب

- ‌مصادر استنباطها:

- ‌مبنى النسب:

- ‌الطريق الأول: الفراش:

- ‌الثاني: الحمل:

- ‌الطريق الثالث: البينة:

- ‌الطريق الرابع: الدعوة:

- ‌الطريق الخامس: الإقرار بالنسب:

- ‌الطريق السادس: حوز النسب:

- ‌الطريق السابع: شهادة السماع

- ‌الطريق الثامن: القافة:

- ‌الطريق التاسع: حكم القاضي:

- ‌القضاء بالقرعة في النسب وغيره:

- ‌القسم الرابع: مبطلات النسب وما لا يبطله

- ‌تمهيد:

- ‌مبطلات النسب:

- ‌ما لا يبطل به النسب:

- ‌ما يتوهم أنه يقطع النسب:

- ‌القسم الخامس: آثار النسب

- ‌ الحفظ

- ‌البر

- ‌الصلة:

- ‌الوقف وآثاره في الإسلام

- ‌[تقديم]

- ‌نص ما به من الاقتراح الذي في جريدة الأهرام

- ‌أصل التملك قبل الإسلام:

- ‌مقصد الشريعة الإسلامية في تصريف الأموال

- ‌الوقف في نظر الشريعة الإسلامية:

- ‌انقسام الحبس:

- ‌هل الوقف من الإسلام

- ‌ليس الوقف حجرًا على الرشداء:

- ‌هل في الوقف مصلحة أو مفسدة

- ‌هل الوقف خرمٌ لنظام الاقتصاد العام

- ‌هل من حق ولاة الأمور منع الناس من الوقف

- ‌هل صدرت الفتوى بإبطال بعض أنواع الوقف؟ وهل إذا أفتى بذلك من أفتى تكون فتواه صحيحة

- ‌الصاع النبوي

- ‌المخالفة في مقادير المكاييل المستعملة في كثير من بلاد المسلمين ومقادير المكاييل الشرعية:

- ‌نشأة الصاع النبوي وما ظهر بعده من الأصواع:

- ‌ضبط مقدار الصاع النبوي بوجه عام:

- ‌ضبط مقدار الصاع النبوي بمكيال تونس الحالي:

- ‌خاتمة

- ‌زكاة الأموال

- ‌زكاة الحبوب

- ‌التعامل بالأوراق المالية

- ‌حكم الربا في التعامل بالأوراق المالية:

- ‌زكاة "تذاكر البانكة" [الأوراق المالية]

- ‌[معنى الأوراق المالية المعروفة بتذاكر البانكة]:

- ‌حكم زكاة الأوراق المالية المعبَّر عنها بتذاكر البانكة:

- ‌لحوق الأوراق النقدية بأصناف الزكاة

- ‌مشروعية الزكاة:

- ‌المعنى الموجب للزكاة:

- ‌جواز تصريف رقاع الديون مع التعجيل بإسقاط

- ‌جواز القرض برهن

- ‌المصطلح الفقهي في المذهب المالكي

- ‌[مقدمة: المصطلح الفقهي وترجمة القوانين الأجنبية]:

- ‌[المصطلح الفقهي بين الوضع اللغوي والنقل الشرعي]:

- ‌[عوامل تكون المصطلح الفقهي في المذهب المالكي]:

- ‌[فقه الإمام مالك في الموطأ وتأسيس المصطلح الفقهي]:

- ‌[تنوع أسلوب مالك في التعبير اللغوي عن مسائل الفقه]:

- ‌[تطور المصطلح الفقهى بانتشار فقه الإمام مالك]:

- ‌[منهجان في الفقه المالكي]:

الفصل: ‌هل الوقف من الإسلام

‌هل الوقف من الإسلام

؟

قد وقع في كلام الفاضل المقترِح أن الوقف ليس نظامًا إسلاميًّا، فتعيَّن أن نشرح الرادَ من كونه ليس نظامًا إسلاميًّا، فإن هذه عبارة توهم أنه يخالف نظُمَ الإسلام. وقد عللها بقوله:"بل إنه كان موجودًا عند قدماء المصريين"، إلخ. وكونُه كان موجودًا عند المصريين والرومان لا يقتضي نفيَ كونه نظامًا إسلاميًّا؛ لأن الإسلام حين شرع الوقف لم تكن له علاقةٌ بنظم المصريين ولا الرومان، (1) وحينئذٍ فوجودُه عند الأمم السابقة على الإسلام لا يزيد مشروعيتَه في الإسلام إلا قوة. وقد ثبت في المبحث السابق أن الوقف نظام إسلامي بحت، وأنه لم يكن معروفًا للعرب في الجاهلية. وقد ثبت بالسنة أن عمر رضي الله عنه حبس ثمغًا وصرمة بن الأكوع، والمائة سهم التي له بخيبر، وقد اشتمل على الصنف الأهلي، فإنه جاء في نص وقفه:"للفقراء وفي القربَى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل"، (2) ولا شك أن ذوي القربَى هم قرابةُ عمر.

(1) ويضاف إلى ذلك أن الإسلام لم تأت تشريعاته لتبطل كل شيء تواضع عليه البشر ما دام فيه خير وصلاح لهم ولا ينافي قواعده وقيمه ومقاصده وأحكامه، وإنما أقامت الشريعة معادلة متوازنة بين التغيير والتقرير لما عليه البشر قوامها مراعاة الفطرة وتحقيق المصلحة ودرء المفسدة، فكانت بذلك عامة للبشر جميعًا مهما كانت أحوالهم وأوضاعهم. راجع في هذا ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، 317 - 345.

(2)

رواه أهل الصحيح. - المصنف. صحيح البخاري، "كتاب الشروط"، الحديث 2737، ص 451؛ صحيح مسلم، "كتاب الوصية"، الحديث 1632، ص 639؛ سنن الترمذي، "كتاب الأحكام"، الحديث 1375، ص 354؛ سنن ابن ماجه، "أبواب الصدقات"، الحديث 2396، ص 343. والنص الكامل في توثيق حبس عمر كما رواه أبو داود هو:"بسم الله الرحمن الرحين، هذا ما أوصى به عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، إنْ حدَثَ به حدَثٌ، أنَّ ثَمْغًا، وصرمة بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم الذي بخيبر، ورقيقَه الذي فيه، والمائة الذي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، أن لا يُباعَ ولا يشترى. ينفقه حيث رأى من السائل، والمحروم، وذوي القربى، ولا حرج على مَنْ وليه إن أكل أو آكل، أو اشترى رقيقًا منه". سنن أبي داود، "كتاب الوصايا"، الحديث 2879، ص 462. والثمغ: الكَسْرُ في الرطب خاصة، ثَمَغَه يَثمَغُه ثَمْغًا. والثَّمْغُ: خلط البياض والسواد، وثمغ رأسه بالحناء والخَلوق، يَثمغُه: غمسه فأكثر، وثَمغ الثوب يثمغه ثمغًا: أشبع صَبْغه.

ص: 919

وبعد، فليست المداركُ منحصرةً في الكتاب والسنة، فإن القياسَ أعظم المدارك الإسلامية، وإن الحبسَ صرفُ مالك المال مالَه عن ملكه إلى ملك غيره في حياته، فهو مثل الهبة والصدقة، وإن في كليهما مضرةً لورثته بتنقيص التركة، وإنه ليس في شيء منهما تغييرٌ للمواريث، إذ المواريثُ لا تُتصوَّر إلا بعد الموت كما قدمناه في المقدمة، فلا نجد معنًى في قياس الشريعة يمنع من انعقاد الوقف.

وأما ما استند إليه شُريحٌ من اشتمال الوقف على تغيير المواريث، وما رُويَ أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا حبْسَ بعد سورة النساء"، فنقول: إن الحبس الأهلي ليس فيه تغييرُ المواريث؛ لأنه تفويتُ المال في الحياة، إذ الحبس يُشترطُ في لزومه عند المالكية وعند معظم العلماء أن يقع الحوزُ في حياة المحبِّس وصحته وملائه. وأما المواريث، فإنما تكون فيما تركه الميتُ من ماله بعد موته. ثم الحبسُ الأهلي قد يكون على غير الورثة، وهذا لا إشكالَ في كونه لا يخالف المواريث. وقد يكون على الورثة على الفريضة الشرعية حتى الزوجية، وأن مَنْ مات عن وارث فحقُّه لورثته، وهذا قريبٌ من الأول. وقد يكون على بعض الورثة دون بعض، كالذي على الذكور دون الإناث.

وهذا قد تكلم الأئمةُ في جوازه ومنعه، والذي عليه الانفصالُ أنه يمضي، ولكن المحبس يُؤاخَذُ بنيته في ذلك. وقد نُقل عن مالك رحمه الله القولُ ببطلان الحبس الواقع فيه التنصيصُ على إخراج البنات أو المتزوجات منهن، وهي روايةُ ابن القاسم عنه. قال ابن القاسم:"فإن حازه المحبَّسُ لهم مضى". (1) وروى علي بن زياد التونسي عن مالك أنه مكروه، وفُسرت الكراهةُ بكراهة التنزيه وبكراهة التحريم. واختار محقِّقُو المذهب المالكي روايةَ علي بن زياد، كما اختاره اللخمي وعياض وكثيرٌ من المالكية، وبذلك جرى القضاءُ والفتوى. (2)

(1) انظر تفصيل ذلك في: البيان والتحصيل، "كتاب الحبس الأول"، ج 12، ص 204 - 206.

(2)

قال قاضي الجماعة بتونس العلامة ابن عبد الرفيع (ت 733 هـ/ 1332 م): "إخراجُ البنات من الحبس أشدُّ عند مالك في الكراهية من هبة الرجل لبعض ولده دون بعض، لقوله عز وجل: =

ص: 920

إلا أن هذا الخلافَ ليس منظورًا فيه إلى التعليل بمخالفة الفرائض، بل إلى قاعدة تفضيل بعض الأولاد على بعض في العطية. وهي مسألةٌ ذاتُ خلاف من أصلها، خلافًا مستندًا لما رواه النعمان بن بشير أن أباه بشير بن سعيد الخزرجي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا رسول الله إني نحلت ابني النعمان شيئًا وإن أمه قالت لي: أشهِدْ على ذلك رسولَ الله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أكُلَّ ولدك نحلته مثله؟ " قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارتجعه" (1) وفي رواية: "لا تُشهِدْني على جور"، (2) ولأن إخراجَ البنت يشبه فعلَ الجاهلية من عدم توريث البنات، كما قال مالك رحمه الله. (3)

= {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} [الأنعام: 139] ". ابن عبد الرفيع، أبو إسحاق إبراهيم بن حسن: معين الحكام على القضايا والأحكام، تحقيق محمد بن قاسم بن عياد (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1989 م)، ج 2، ص 731.

(1)

الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب الأقضية"، الحديث 1567، ج 3، ص 584 - 585.

(2)

صحيح البخاري، "كتاب الهبة"، الحديث 2586، ص 418؛ صحيح مسلم، "كتاب الهبات"، الأحاديث 1623 (9 - 18) / 1624، ص 631 - 633.

(3)

قال مالك: "مَنْ حبس حبسًا على ذكور ولده وأخرج الإناث منه إذا تزوجن، فإني لا أرى ذلك جائزًا، وإنه من أمر الجاهلية، وليس على هذا توضع الصدقات لله وما يُراد به وجهه". ابن رشد: البيان والتحصيل، "كتاب الحبس الأول"، ج 12، ص 204. وانظر كذلك القيرواني: النوادر والزيادات، "الجزء الأول من كتاب الحبس والسنة"، ج 12، ص 7 - 8. هذا وقد روى سحنون عن ابن وهب بسنده أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم "أن يفحص له عن الصدقات، وكيف كانت أول ما كانت"، فكتب له أبو بكر بن حزم يذكر له صدقات عبد الله بن الزبير وأبي طلحة وأبي الدحداح، كما كتب له أن عمرة بنت عبد الرحمن ذكرت له "عن عائشة أنها كانت إذا ذكرت صدقات الناس اليوم وإخراج الرجال بناتهم منها تقول: ما وجدتُ للناس مثلًا اليوم في صدقاتهم إلا كما قال الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 139]. قالت: والله إنه ليتصدق الرجل بالصدقة العظيمة على ابنته فترى غضارة صدقته عليها، وترى ابنته الأخرى وإنه ليعرف عليها الخصاصة لَمَّا أبوها أخرجها من صدقته. وإن عمر بن عبد العزيز مات حين مات وإنه ليريد أن يرُدَّ صدقات الناس التي أخرجوا منها النساء. وإن مالكًا ذكر أن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت حبسا على أولادهما دورًا، وأنهما سكنا بعضها. فهذا يدل على قول عائشة أن الصدقات فيما مضى =

ص: 921

وبعد هذا كله، فليس وجودُ الفساد في بعض الأحباس مما يقتضي إبطالَ أصل الحبس، وإلا لزم أن تبطل الهبةُ والصدقة؛ فإن القائلين بمنع التحبيس على بعض الأولاد دون بعض قائلون أيضًا ببطلان الهبة لبعض الولد، وهي التي ورد فيها حديث النعمان بن بشير. وما يكون من الحبس على غير الورثة لا يتهم فيه المحبس على قصد تغيير المواريث؛ لأن التحويز المشترَط عند عامة الفقهاء يدفع هاته التهمة، إذ لا يُظنُّ بأحدٍ أن يخرج ماله في صحته نكايةً بوارثه.

نعم، تقوم التهمةُ المذكورة على رأي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة القائل بصحة وقف الواقف شيئًا على نفسه ثم من بعده ممن يعينه، والقائل بصحة شرط الواقف في وقفه أن يبقى حوزُ الموقوف في يده إلى موته، فيصير بعده لِمَنْ عَيَّنَه. وهذا رأيٌ اختص به أبو يوسف، ولم يوافقه عليه أحدٌ من علماء المذاهب، وفيه مجالٌ من النظر يجول في قاعدة اعتبار المقصد أو اللفظ.

فأما تحبيسُ المرء على نفسه ثم على مَنْ يعيِّنه، فهو مخالفٌ لأصل الحبس في الشريعة الإسلامية؛ لأن أصلَ الحبس على اختلاف كيفياته إنما هو من العطايا، وماهيةُ العطية أنها إخراجُ مالكِ المال شيئًا من ماله عن ملكه إلى غيره، فأيُّ معنى للتحبيس على النفس؟ ولذلك قال فقهاء المالكية ببطلان حبس مَنْ حبس على نفسه وعلى غيره، ولم يزالوا يحكمون بفساد هذا النوع من الحبس عندما يقع التخاصمُ فيه لدى قضاة المالكية. (1)

وأما شرطُ المحبِّس الانتفاعَ بغلة ما حبَّسه مدةَ حياته فهو في معنى الحبس على النفس؛ لأنه عطيةٌ لا يستحقها المعطَى إلا بعد موت المعطِي، فهو في معنى الوصية،

= إنما كانت على البنين والبنات حتى أحدث الناسُ إخراجَ البنات، وما كان من عزم عمر بن عبد العزيز أن يرد ما أخرجوا منها البنات يدل على أن عمر ثبت عنده أن الصدقات كانت على البنين والبنات". المدونة الكبرى، ج 6، ص 111 - 112.

(1)

نهاية القسم الأول.

ص: 922

فيقتضي أن لا يمضي إلا في ثلث تركة المحبس وعلى غير وارث، وإلا لكان تغييرًا للمواريث. وإن نظرنا إلى اللفظ وجدناه قد عبر عنه بالحبس، واعتضد بجعل المحبِّس نفسَه كواحد من المحبَّس عليهم؛ إذ حجر على نفسه بيعَ ما حبسه ورهنه، وبذلك خالف الوصية، وكذلك التحبيس مع اشتراط عدم التحويز، فغلَّب أبو يوسف اللفظ على المقصد. ولعلنا نعضد هذا التغليب بأن فيه بناءً على أصل حرية الأموال، لكن هذا التغليب ضعيف من حيث النظر، إذ العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فهو تغيير للمواريث لا محالة، أو حرمان للوارث أصلًا، ولأن حريةَ التصرف في الأموال لها حدٌّ قد خرج عنه هذا النوع من التحبيس.

غير أن فقهاء الحنفية استحسنوا قولَه، وجعلوا القضاء به، لِمَا فيه من تيسير التحبيس على الناس ترغيبًا في حصول المنافع الراجعة لمراجع خيرية من مصالح المسلمين. فلو اشتُرِط تحويزُ المحبَّس عليهم في حياة المحبِّسين لانكفَّ كثيرٌ منهم عن التحبيس؛ لأن خلعَ المالكِ ملكَه عن نفسه أمرٌ صعب على النفوس. ولذلك قلد قولَ أبي يوسف كثيرٌ من الناس في أحباسهم، وكأنهم رأَوْا هذا التحبيسَ لا يخلو من مرجع عام بعد الأعقاب أو بعد نفس المحبِّس، فكرهوا أن يَحُولوا بين تلك المصارف الخيرية وبين منفعة هاته الأحباس.

هذا ملاكُ الاجتهاد والترجيح في قول أبي يوسف ومَنْ رجحه. والتحقيقُ أن قول أبي يوسف منافٍ لقصد الشريعة من إبطال حرية التصرف في المال في حالة ما بعد الموت، مع ضعف مُدْرَكه بعدم وجود نظيرٍ له في أحباس السلف، وفيه تهمةُ قصد المحبِّسين حرمانَ بعضِ الورثة دون بعض؛ لأنهم لمَّا عَلَّقُوا إنجازَ التحبيس إلى ما بعد الموت فقد صاروا يراعون حالةَ الميراث لا محالة.

بقي أن يقال: إن الحبس الذي يشتمل على إعطاء بعض الأولاد دون بعض، أو حرمان الزوجة إذا تسلط على جميع المال أو على معظمه، كان فيه تهمةُ قصدِ حرمان مَنْ أُخرج من الورثة. فنقول: هو لا يندرج تحت قاعدة مخالفة مقصد الشريعة في إبطال المواريث؛ لأن المحبِّسَ لم يُعَلِّقْه على موته، ولكنه يندرج تحت قاعدة المعاملة بنقيض المقصود الفاسد، وهي قاعدةٌ من قواعد الفقه غير المطردة

ص: 923