الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحكم والمتشابه
(1)
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]. الإحكام في الأصل المنع والدفع. قال جرير:
أبَنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ
…
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا (2)
ومادةُ حكم تفيد ذلك. ومنه حكم الحاكم؛ لأنه منع الظالم، وحَكَمة اللِّجام - بالتحريك - ما أحاط بحنك الفرس من لجامه. واستُعمل الإحكامُ في الإتقان والتوثيق؛ لأن ذلك يمنع تطرقَ ما يضاد المقصود، ولذا سميت الحكمةُ حكمةً حقيقة أو مجازًا مشهورًا. وأما المتشابه فأصلُه التماثل، وهو أن يكون شيء مشابِهًا لآخر يشابهه هو؛ لأن مشابهة كل منهما الآخر توجب قوة الشبه حتى تتعذر التفرقة، قال تعالى:{إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)} [البقرة: 70].
(1) الهداية الإسلامية، المجلد 2، الجزء 12، جمادى الأولى 1349 هـ (ص 627 - 638). قدم محررُ المجلة لهذا المقال بقوله:"درسٌ من دروس التفسير التي يلقيها في جامع الزيتونة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ المحقق السيد محمد الطاهر ابن عاشور كبير أهل الشورى (المحكمة الشرعية المالكية) في تونس، وهو درسٌ بلغ من غزارة العلم والتحقيق غايتهما". وقد نشر بشيء من الاختصار في تفسير التحرير والتنوير، ج 3/ 3، ص 153 - 161.
(2)
ديوان جرير بشرح محمد بن حبيب، تحقيق نعمان محمد أمين طه (القاهرة: دار المعارف، ط 3، 1986)، ج 2، ص 666.
ثم أُطلِقَ المحكَمُ في هذه الآية على وضوح الدلالة على سبيل الاستعارة؛ لأن في وضوح الدلالة منعًا لتطرق الاحتمالات الموجِبَةِ للتردد في المراد. وأُطلق المتشابِهُ فيها على خفاء الدلالة؛ لأن في تطرق الاحتمالات تعذرًا للتمييز، وهو من لوازم التشابه، فهو كناية.
وقد اختلف علماءُ الإسلام في تعيين المقصود من المحكم والمتشابه هنا على أقوال، ومرجعها إلى تعيين مقدار الوضوح والخفاء. فعن ابن عباس أن المحكَم ما لا تختلف فيه الشرائع، كتوحيد الله تعالى وتحريم الفواحش، وذلك ما تضمنته الآيات الثلاث من أواخر سورة الأنعام:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى آخرها، (1) والآيات من سورة الإسراء:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} الآيات، (2) وأن المتشابه هو المجملاتُ التي لم تُبَيَّنْ كحروف أوائل السور، وعلى هذا
(2)
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا =
القول فبين المحكم والمتشابه واسطة.
وعن ابن مسعود وابن عباس أيضًا أن المُحْكم ما لَمْ يُنسخ، والمُتشابه منسوخ. (1) وهذا بعيدٌ أن يكون مرادًا لهما. وعن الأصم: المحكم ما اتضح دليلُه، والمتشابه ما يحتاج إلى التنوير، وذلك كقوله تعالى:{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [الزخرف: 11]، فأولها محكم، وآخرها متشابه. (2)
وللجمهور مذهبان: أحدهما المحكم ما اتضحت دلالتُه، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه. ونُسب هذا القولُ لمالك رحمه الله في رواية أشهب من جامع العُتْبِيَّةِ، (3)
= بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} [الإسراء: 23 - 38].
(1)
الطبري: جامع البيان، ج 5، ص 194.
(2)
ذكر الرازي عند عرض الأقوال في تفسير معنى الحكم والمتشابه: "والقول الثالث: قال الأصم: المحكم هو الذي يكون دليله واضحًا لائحًا، مثل ما أخبر الله تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14]، وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وقوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22]. والمتشابه ما يُحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل، نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا ترابًا، ولو تأملوا لصار المتشابهُ عندهم محكمًا؛ لأن من قدر على الإنشاء أولًا قادر على الإعادة ثانيًا". الرازي، الإمام فخر الدين: التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب (بيروت: دار الكتب العلمية، 1411/ 1990)، ج 4/ 7، ص 147.
(3)
قال ابن رشد: "وقالت طائفة: المتشابهات مما استأثر الله بعلمها، فلا يُعلم تأويلها، والكلام يتم عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، ثم يحسن الوقف، ثم يبدأ القارئ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}. وهذا قولُ مالك في رسم البيوع الأول من سماع أشهب". ابن رشد: البيان والتحصيل، "كتاب الجامع الرابع"، ج 17، ص 512. هذا ولم يرد ذكر المحكم فيما نُسب لمالك من طريق أشهب، ولعل المصنف إنما استخلصه بمفهوم المخالفة من حده للمتشابه.
ونسبه الخفاجي إلى الحنفية، (1) وإليه مال الشاطبي. (2) وثانيهما أن الحكمَ الواضحُ الدلالة والمتشابه خفيُّها، وإليه مال الفخر. (3) فالنصُّ والظاهرُ هما المحكم لاتضاح
(1) الشهاب الخفاجي: عناية القاضي وكفاية الراضي المعروف بحاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (بيروت: دار صادر، بدون تاريخ)، ج 3، ص 5.
(2)
من الراجح أن المصنف يشير إلى كلام الشاطبي على تأويل المتشابه حيث يقول: "تسليط التأويل على التشابه فيه تفصيل، فلا يخلو أن يكون من المتشابه الحقيقي أو من الإضافي. فإن كان من الإضافي فلا بد منه إذا تعين الدليل؛ كما بين العام بالخاص، والمطلق بالمقيد، والضروري بالحاجي، وما أشبه ذلك؛ لأن مجموعهما هو المحكم، وقد مر بيانه. وأما إن كان من الحقيقي فغير لازم تأويله؛ إذ قد تبين في باب الإجمال والبيان أن المجمل لا يتعلق به تكليف إن كان موحدًا [لعلهما: موجودًا]؛ لأنه إما أن يقع بيانه بالقرآن الصريح، أو بالحديث الصحيح، أو بالإجماع القاطع، أو لا. فإن وقع بيانه بأحد هذه فهو من قبيل الضرب الأول [الصحيح أن يقول: الثاني] من التشابه، وهو الإضافي، وإن لم يقع بشيء من ذلك فالكلام في مراد الله تعالى من غير هذه الوجوه تسوُّرٌ على ما لا يُعلم". الشاطبي: الموافقات، ج 2، 90 - 91.
(3)
يقول الرازي ملخصًا رأيه في المسألة: "وأما المحقق المنصف، فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة: أحدها ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية، فذاك هو المحكمُ حقًّا. وثانيها الذي قامت الدلائلُ القاطعة على امتناع ظواهرها، فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله غير ظاهره. وثالثها الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرَفَيْ ثبوته وانتفائه، فيكون من حقه التوقف فيه، ويكون ذلك متشابهًا، بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر، إلا أن الظن الراجح حاصل في إحرائها على ظواهرها". التفسير الكبير، ج 4/ 7، ص 152، وانظر كذلك ما جاء في ص 145 - 146. وقبل الرازي والشاطبي كان للطبري تقرير لطيف في فهم معنى المحكمات والمتشابهات والعلاقة بينهن حيث قال:"وأما المحكمات فإنهن اللواتي قد أُحْكمن بالبيان والتفصيل، وأُثبِتت حججُهنَّ وأدلتُهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه ذلك. ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن "هن أم الكتاب"، يعني بذلك أنهن أصلُ الكتاب الذي فيه اعتمادُ الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم. وإنما سماهن أمَّ الكتاب؛ لأنهن معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه". ثم قال: "وأما قوله متشابهات فإن معناه متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى"، ليخلص إلى القول: "فتأويل الكلام إذًا: إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي نزل عليك يا محمد القرآن، منه آياتٌ محكمات بالبيان، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين، وعليه مفزعك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام، =
دلالتهما، وإن كان أحدهما - أي الظاهر - يتطرقه احتمال ضعيف. والمجمل والمؤوَّل هما من المتشابه لاشتراكهما في خفاء الدلالة، وإن كان أحدُهما - أي: المؤوَّل - دالًّا على معنى مرجوحٍ يقابله معنى راجح، والمجمل دالًّا على مرجوحٍ يقابله معنى مرجوحٌ آخر. ونُسبت هذه الطريقةُ إلى الشافعية. (1)
قال الشاطبي: "فالتشابه حقيقيٌّ وإضافي، فالحقيقيُّ ما لا سبيلَ إلى فهم معناه، وهو المرادُ من الآية، والإضافِيُّ ما اشتبه معناه لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر، فإذا تقصَّى المجتهدُ أدلةَ الشريعة وجد فيها ما يبين معناه. والتشابه بالمعنى الحقيقي قليلٌ جدًّا في الشريعة، وبالمعنى الإضافي كثير". (2)
وقد دلت هذه الآيةُ على أن من القرآن محكمًا ومتشابِهًا، ودلت آياتٌ أُخر على أن القرآن كلَّه محكم، قال تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، وقال:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)} [لقمان: 2]، والمرادُ أنه أحكم وأُتقن في بلاغته وفصاحته. كما دلت آياتٌ على أن القرآن كلَّه متشابه، قال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]، والمعنى أنه تشابه بين الحسن والبلاغة والحقيقة، وذلك معنى قوله:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]. فلا تعارضَ بين هذه الآيات، لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه.
= وآياتٌ أخرُ هن متشابهاتٌ في التلاوة مختلفاتٌ في المعاني". الطبري: جامع البيان، ج 5، ص 188 - 189. وهذا في الحقيقة رأي أبي الحسن الأشعري الذي كان يقول "إن الكتاب على نوعين: محكم ومتشابه، ويُعلَم معنى المتشابه بالرد إلى المحكم. والمحكم هو الذي أُبِينَ معناه بظاهر لفظه حتى كان تأويله تنزيله. والمتشابه ما اشتبه لفظُه ومعناه واحتمل وجوهًا مختلفة، واشتركت فيها معان متباينة يترجح بعضُها على بعض بالنظر والاستدلال". ابن فورك: مجرد مقالات الأشعري، ص 190 - 191.
(1)
الخفاجي: عناية القاضي وكفاية الراضي، ج 3، ص 5.
(2)
أورد المصنف كلام الشاطبي باختصار وتصرف شديد فراجعه في الموافقات، ج 2، ص 84 - 86. وانظر كلامه على الإحكام والتشابه وكيفية تأويل المتشابه في ص 87 - 91.
وسببُ وقوع المتشابهات في القرآن هو كونُه دعوةً، وموعظة، وتعليمًا وتشريعًا باقيًا، ومعجزةً في آن واحد، وخُوطب به قومٌ لم يسبق لهم عهدٌ بالتعليم والشرائع. فكان جائيًا على أسلوب مناسب يجمع هذه الأمورَ الثلاثة بحسب حال المخاطَبين الذين لم يعتادوا الأساليبَ التدريسية والأمالي العلمية، وإنما كانت هجيراهم الخطابة والمقالة.
فأسلوبُ المواعظ والدعوة قريبٌ من أسلوب الخطابة. وهو لذلك لا يأتِي على أساليب الكتب المؤلفة للعلم، أو القوانين الموضوعة للتشريع، فأُودعت العلومُ المقصودة منه في تضاعيف الموعظة والدعوة، وكذلك أودع فيه التشريع. فلا تجد أحكامَ النوع من المعاملات كالبيع متصلًا بعضها ببعض، بل تُلفيه موزَّعًا على حسب ما اقتضته مقاماتُ الموعظة والدعوة، ليخف تلقيه على السامعين، ويعتادوا علمَ ما لم يألفوه في أسلوب قد ألفوه، فكانت متفرقةً يُضَمُّ بعضُها إلى بعض بالتدبر.
ثم إن إلقاء تلك الأحكام كان في زمن طويل يزيد على عشرين سنة، فأُلقيَ لهم من الأحكام بمقدار ما دعت إليه حاجتُهم وقَبِلَتْه مقدرتُهم. على أن بعضَ تشريعه أصولٌ لا تتغير، وبعضه فروعٌ تختلف باختلاف أحوالهم. فلذلك تجد بعضَها عامًّا أو مطلقًا أو مجملًا، وبعضَها خاصًّا أو مقيَّدًا أو مبيَّنًا. فإذا كان بعضُ المجتهدين يرى تخصيصَ بعض عموماته بخصوص بعض الخصوصيات مثلًا، فلعلَّ بعضًا منهم لا يتمسك إلا بعمومه حينئذ، كالذي يرى الخاصَّ الوارد بعد العام نسخًا فيحتاج إلى التاريخ، أو لعل بعضًا يجيء فيرى أن عمومه هو المقصود الأصلي للتشريع وأن خصوصَه حكم خاص لزمان المخاطَبين، فيصبح الخاصُّ بيانًا لا تخصيصًا.
ثم إن العلومَ التي تعرَّض لها القرآن هي من العلوم العليا، أو هي علومٌ ما وراء المادة، وعلوم مراتب النفوس، وعلوم النظام العمراني، وعلوم الحكمة، وعلوم الحقوق. وفي ضيق اللغة الموضوعة عن الإيفاء بغايات مرادات هاته العلوم وقصور حالة استعداد أفهام عموم المخاطبين لها ما أوجبَ تشابُهًا بين مدلولات الآيات الدالة عليها.
وإعجازُ القرآن منه إعجازٌ نظمي، ومنه إعجازٌ علمي، وهو ضربٌ عظيم من الإعجاز قدمنا بيانَه في مقدمة هذا التفسير. (1) فلما تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها فيما تعرض إليه، جاء به محكمًا بعبارة تَصْلُح لحكاية حالته على ما هو عليه في نفس الأمر. وربما كان إدراكُ كنه حالته في نفس الأمر مجهولًا لأقوام، فيعدون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه، فإذا جاء قومٌ بعدهم فأدركوا المراد منها، علموا أن ما عدّه الذين قبلهم متشابهًا ما هو إلا محكم.
على أن من مقاصدَ القرآن أمرين آخرين: أولهما كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتحَ أبواب عباراته لمختلف استنباط المستنبطين حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين. وثانيهما تعويدُ حَمَلَةِ هذه الشريعة وعلماء الأمة بالتنقيب والبحث واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة، حتى تكون طبقاتُ علماء الأمة صالحةً قي كل زمان لمشاركة المشرِّع في مراده من التشريع. ولو صيغ لهم التشريعُ في أسلوب سهل التناول، لاعتادوا العكوفَ على ما بين أنظارهم في المطالعة الواحدة. من أجل هذا كانت صلوحيةُ عباراته لاختلاف منازع المجتهدين قائمةً مقامَ تجديد الكتب والتآليف في اختلاف أنظمة التعليم. (2)
(1) انظر للمصنف المقدمة العاشرة من: تفسير التحرير والتنوير، ج 1/ 1، ص 101 - 130.
(2)
من المناسب هنا أن نورد كلامًا جيدًا للقاضي عبد الجبار في مغزى اشتمال القرآن على آيات متشابهات، حيث يقول جوابًا عن السؤال:"كيف يجوز أن ينزل ما يشتبه والمراد البيان؟ وجوابنا أن ذلك ربما يكون أصلح وأقوى في المعرفة، وفي رغبة كل الناس في القرآن إذا طلبوا آية تدل على قولهم، ويكون أقرب إذا اشتبه إلى النظر بالعقل ومراجعة العلماء، وهذا يجوز أن يعرف المدرس أنه إذا ألقى المسألة إلى المتعلم من دون جواب يكون أصلح ليتكل على نفسه وغيره. . . وبين تعالى أن من في قلبه زيغ يتبع المتشابه كاتباع المشبهة والمجبرة ظاهر ما في القرآن فذمهم بذلك. والواجب اتباع الدليل، وليس في المتشابه آيةٌ إلا ويقترن بها ما يدل على المراد. والعقل يدل على ذلك، فالله تعالى جعل بعض القرآن متشابهًا ليؤدي إلى إثارة العلم وإلى أن لا يتكلوا على تقليد القرآن، ففيه مصلحة كبيرة". قاضي القضاة عماد الدين أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد: تنزيه القرآن عن المطاعن (القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، 2006)، ص 59 - 60. وانظر تفصيلَه لهذا الكلام في: المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج 16: إعجاز القرآن، تحقيق أمين الخولي (نشرة مصورة عن طبعة =
فإذا علمتَ هذا، علمت أصلَ السبب في وجود ما يُسمَّى بالمتشابه في القرآن. وبقي أن نذكر لك مراتبَ التشابه وتفاوتَ أسبابها، وأنها فيما انتهى إليه استقراؤنا الآن عشرُ مراتب:
أولاها: معانٍ قُصد إيداعُها في القرآن، وقصد إجمالها إما لعدم قابلية البشر لفهمها ولو في الجملة إن قلنا بوجود المجمل الذي استأثر الله بعلمه على ما سيأتي - ونحن لا نختاره - وإما لعدم قابليتهم لفهمها بالكنه فألقيت إليهم على وجه الجملة، أو لعدم قابلية بعضهم في عصر أو جهة لفهمها بالكنه، وهذا مثل أحوال القيامة وبعض شؤون الربوبية، كالتجلي في ظل الغمام والرؤية والكلام ونحو ذلك.
وثانيتها: معانٍ قُصد الإعلامُ بها وتعيَّنَ إيرادُها مجملًا مع إمكان حملها على معان معلومة لكن بتأويلات، كحروف أوائل السور، ونحو:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، و {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]. (1)
ثالثتها: معان عالية ضاقت عن تمام كنهها اللغةُ الموضوعة لأقصى ما هو متعارَف الواضعين لا لغير المتقارب، فعُبِّر عن تلك المعاني بأقصى ما يقرِّب معانيها إلى الأفهام، وهذا مثل أكثر صفات الله، نحو "الرحمن"، "الرؤوف"، "المتكبر"، "نور السماوات والأرض".
رابعتها: معانٍ قَصُرت عنها الأفهامُ في بعض أحوال العصور، وأُودِعت في القرآن ليكون وجودُها معجزةً لأهل العلم في عصور قد يضعف فيها إدراك الإعجام النظمي نحو:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38]، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ
= القاهرة، بدون اسم الناشر ولا تاريخ النشر ولا مكانه)، ص 373 - 376. وانظر كذلك مقدمة كتابه: متشابه القرآن، تحقيق عدنان محمد زرزور (القاهرة: مكتبة دار التراث، 1969)، ص 5 - 39.
(1)
لعل لفعل استوى خصوصيةً في اللغة أدركها أهل اللسان يومئذ كان بها أجدرَ بالدلالة على معنى تمكن الخالق من مخلوقه، ولذلك اختير في الآيتين دون فعل غلب أو تمكن أو نحوهما. - المصنف.
لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]، {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5]، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88]، {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]، {زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35]، {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، وذكر سد يأجوج ومأجوج.
خامستها: مجازاتٌ وكناياتٌ مستعمَلةٌ في لغة العرب، إلا أن ظاهرها أوهم معانِيَ لا يليق الحملُ عليها، وتوقف فريقٌ في محملها تنزيهًا نحو:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47]، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]. (1) ونحو المشاكلة في: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].
وسادستها: ألفاظٌ من لغات العرب لم تُعرف لدى الذين نزل القرآن بينهم من قريش والأنصار، مثل:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عبس: 31]، ومثل:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]، (2) {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} [التوبة: 114]، {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)}
(1) إذ تطلق العين على الحفظ والعناية، قال النابغة:"عهدتك ترعاني بعين بصيرة". وتُطلق اليدُ على القدرة والقوة، قال تعالى:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} . ويُطلق الوجهُ على الذات، تقول: فعلته لوجه زيد. - المصنف.
(2)
روي أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]، فقال: ما تقولون في تخوف؟ فقام شيخ من هذيل: هذه لغتنا، التخوف التنقص. فقال عمر هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال نعم قال أبو كبير يصف ناقته:
تَخَوَّف الرحْلُ منها تَامِكًا قَرِدًا
…
كما تَخَوَّف عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
- المصنف. روى سعيد بن المسيب قال: "بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عز وجل:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} ؟ فسكت الناس. فقال شيخ من بني هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف: التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان ما فعل دينُك؟ قال: تخوفته، أي تنقصته؛ فرجع فأخبر عمر، فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقَّص السيرُ سنامَها بعد تمكنه واكتنازه:
تَخَوَّف الرحْلُ منها تَامِكًا قَرِدًا
…
كما تَخَوَّف عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ =
[الحاقة: 36]. (1) وقريبٌ من هذا [قوله تعالى]: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} [يوسف: 31]، قال أبو هريرة:"ما نقول غير المدية حتى نزل قوله تعالى: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} ". (2)
سابعتها: مصطلحات شرعية لم يكن للعرب علمٌ بخصوصها، فما اشتهر منها بين المسلمين معناه صار حقيقةً عرفية، كالتيمم والزكاة، وما لم يشتهر بقِيَ فيه إجمالٌ كالربا، قال عمر:"نزلت آيات الربا في آخر ما نزل، فَتُوُفِّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينها". (3)
= فقال عمر: يا أيها الناس، عليكم بديوانِكم شعرِ الجاهلية، فإن فيه تفسيرَ كتابكم ومعانِيَ كلامكم". القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 12، ص 332. وتَمَك السنام: طال وارتفع، والسَّفَن والمسفن: ما يُنجر به الخشب.
(1)
عن ابن عباس: "لا أدري ما الأوّاه، وما الغسلين". - المصنف.
(2)
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثلي ومثلُ الناس، كمثل رجل استوقد نارًا، فجعل الفراشُ وهذه الدواب تقع في النار. وقال: كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنِكِ، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنِكِ، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى". قال أبو هريرة: "والله إن سمعت بالسكين إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا المدية". صحيح البخاري (الرياض: بيت الأفكار الدولية، بدون تاريخ)، "كتاب أحاديث الأنبياء"، الحديث 3427، ص 576 - 577؛ "كتاب الفرائص"، الحديث 6769، ص 1167؛ صحيح مسلم، "كتاب الأقضية"، الحديث 1720، ص 682.
(3)
ونص كلام عمر: "إِنَّ آخِرَ مَا نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قُبِضَ وَلَمْ يُفَسِّرْهَا لَنَا. فَدَعُوا الرِّبَا والرِّيبَةَ". سنن ابن ماجه، "كتاب التجارات"، الحديث 2276، ص 325؛ كنز العمال، "باب في الربا وأحكامه"، الحديث 10082، ج 4، ص 186. وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر، قال: "خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل. وثلاثٌ وددتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهدًا: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا". صحيح البخاري، "كتاب الأشربة"، الحديث 5588، ص 992؛ صحيح مسلم، "كتاب التفسير"، الحديث 3032، ص 1156. واللفظ للبخاري. وقد عرض ابن رشد الجد (في باب ما جاء في تحريم الربا من كتاب الصرف) لقول عمر ووجهه بكلام يحسن جلبه هنا، قال: "ولم يرد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: =
ثامنتها: أساليبُ عربية جهلها أقوامٌ فظنوا الكلامَ بها متشابِهًا، وهذا مثل زيادة الكاف في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ومثل قوله تعالى:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46].
= إن رسول الله تُوُفِّيَ قبل أن يفسرها، أنه صلى الله عليه وسلم لم يفسر آية الربا ولا بين المرادَ بها، وإنما أراد - والله أعلم - أنه لم يعم جميعَ وجوه الربا بالنص عليها، للعلم الحاصل أنه صلى الله عليه وسلم قد نص على كثير منها". ثم قال بعد أن ساق عدة أمثلة على صور الربا التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم:"فأخبر [عمر]رضي الله عنه أن من وجوه الربا ما هو بيِّنٌ لنص النبي عليه السلام عليه، وباطنٌ خفيٌّ لعدم النص فيه، وتمنى أن تكونَ جميعُ وجوه الربا ظاهرةً يعلمها بنص النبي عليه السلام عليها، ولا يفتقر إلى طلب الأدلة في شيء منها. والله عز وجل لمَّا أراد أن يمتحن عباده ويبتليهم فرق بين طرق العلم، فجعل منه ظاهرًا جليًّا وباطنًا خفيًّا، ليُعلم الباطن الخفي بالاجتهاد والنظر من الظاهر الخفي، فيرفع بذلك الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات". ابن رشد: المقدمات الممهدات، "كتاب الصرف"، ج 2، ص 12 - 13. كما عرض الإمام المازري للمسألة ذاتها ووجه قولَ عمر على النحو الآتي فقال:"هذا، والشرع لمَ يستوف النص على كل النوازل، بل ذكر شيئًا ووكل للعلماء إلى الاستنباط منه (كذا في الأصل، والصواب حذف حرف "إلى" فلا حاجة إليه)، كما فعل في النص على تحريم التفاضل في النسيئة. وفي (كذا) الممكن أن يورد لفظًا مستوعبًا لجميع الربويات حتى لا يُتصور فيها اختلاف بين العلماء، ولكنه لم يفعل توسعة على الأمة بالاجتهاد في المسكوت عنه، وليرفع الله درجة الذين أوتوا العلم بالاستنباط من كلامه في الأمور الدالة على مراداته وأحكامه، فقد يجري التخصيص بالصفة هذا المجرى، ويقصد فيه المعنى". المازري، أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي: إيضاح المحصول من برهان الأصول، تحقيق عمار الطالبي (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1، 2001)، ص 345. كما علق المصنف على كلام عمر بن الخطاب موجهًا إياه بما يلي:"والوجه عندي أن ليس مراد عمر أنَّ لفظ الربا مجمل؛ لأنه قابله بالبيان وبالتفسير. بل أراد أن تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يعمه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص؛ لأن المتقدمين لا يتوخون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية، فهؤلاء الحنفية سموا المخصصات بيان تغيير. وذكر ابن العربي في العواصم أن أهل الحديث يتوسعون في معنى البيان. وفي تفسير الفخر عن الشافعي أن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] من المجملات التي يجوز التمسك بها، أي بعموميها: عموم البيع وعموم الربا؛ لأنه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أي بيع وأي زيادة، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلا وفيه زيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام". تفسير التحرير والتنوير، ج 3/ 3، ص 87.
وتاسعتُها: آياتٌ جاءت على عاداتِ العرب ففهمها المخاطَبون، وجاء مَنْ بعدهم فلم يفهموها فظنوها من المتشابه، مثل قوله:{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. في الموطأ قال ابن الزبير: "قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديثُ السن: أرأيتِ قولَ الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، فما على الرجل شيءٌ أن لا يطوف بينهما، فقالت: كلَّا، لو كان كما تقول لكانت: فلا جناحَ عليه أن لا يطوف بهما، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يُهِلون لمناة. . . إلخ". (1) ومنه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187]، {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا} [المائدة: 93]، فإن المرادَ فيما شربوا من الخمر قبل تحريمها.
عاشرتها: أفهامٌ ضعيفة تظن كثيرًا في المتشابه وما هو منه، وذلك أفهامُ الباطنية وأفهام الظاهرية، كقوله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]. (2)
وليس من المتشابه ما صُرِّح فيه بأنَّا لا نصل إلى علمه كقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، ولا ما ذكر منه حصولُه على إجماله دون توصيف يفضي إلى التشابه كقوله:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]، ولا ما صُرح بجهل زمنه كقوله:{لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف: 187].
(1) الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب الحج"، الحديث 901، ج 2، ص 507 - 508؛ صحيح البخاري، "كتاب الحج"، الحديث 1643، ص 266؛ "كتاب التفسير"، الحديث 4495، ص 764.
(2)
جاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، أنه قال:"يُكشف عن أمر عظيم، ألا تسمع العربَ تقول: وقامت الحرب بنا على ساق". الطبري: جامع البيان، ج 23، ص 187.
وقد علمتم من هذا أن ملاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة، إما لضيقها عن المعاني، وإما لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى، وإما لتناسي بعض اللغة. فالإحكام والتشابه صفتان للألفاظ باعتبار فهم المعاني.
ثم قوله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] أريد بالأم هنا الأصلُ الذي إليه مرجع المقصود من الكتاب، كما قالوا أم الرأس. قال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: 59]؛ وذلك أن المحكم بمعنى المتضح هو الأصلُ الذي يؤول إليه المتشابه. ويحتمل أن يكون لفظ "أم" هنا استعارةً للكثير والمعظم، إذا فُسِّر المحكَمُ بما دل على معناه، والمتشابه بما استأثر الله بعلمه، ذلك أن المتشابه بهذا التفسير قليل جدًّا في القرآن.
وقوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، الاتباع هنا مجازٌ عن البحث والتنقيب، أي يبحثون عن المتشابه ويحصونه. وقد ذكر الله علةَ هذا الاتباع، وهو طلب الفتنة وطلب أن يؤولوه، وقد عُلم أن المرادَ تأويلُه بما يوافق أهواءهم من إلقاء الشك والفتنة. ولَمَّا وصف الله أصحابَ هذا المقصد بالزيغ، علمنا أن ذمَّهم بذلك لهذا القصد. ولا شكَّ أن كلَّ اشتغال بالمتشابه، إذا كان مفضيًا إلى هذا المقصد، يناله شيءٌ من هذا الذم على تفاوت في مقداره.
فالذين اتبعوا المتشابه ابتغاءَ الفتنة وابتغاء تأويله المنافقون والزنادقة والمشركون، مثل العاصي بن وائل السهمي (1) حين جاءه رجل من المسلمين يتقاضاه دينًا، فقال له:"إن محمدًا يقول لكم إننا سنُحْيا ونُبعث، فسيكون لي مال وولد بعد البعث، فأقضيك دينك يومئذ"، فنزل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ
(1) هو العاص بن وائل السهمي، القرشي، والد عمرو بن العاص. كان شديدَ العداوة لرسول الله عليه السلام، وقد نزلت فيه الآيات 64 - 80 من سورة مريم، كما أشار إليه المصنف.
مَالًا وَوَلَدًا (77)} [مريم: 77]. (1)
وكذلك فتنةُ القرامطة، قال محمد بن علي بن رِزام الكوفي: كنت بمكة حين كان الجنَّابي زعيم القرامطة (2) بمكة، وهم يقتلون الْحُجَّاج ويقولون: أليس قد قال لكم محمد: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، فأيُّ أمنٍ هذا؟ قال: فقلتُ له: هذا خرج في صورة الخبر، والمراد أي مَنْ دخله فأمّنوه، كقوله:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228].
والذين شابهوهم في ذلك كلُّ قوم يجعلون البحثَ في المتشابه ديدنَهم، ويفضون بذلك إلى خلافاتٍ وتعصبات، وكلُّ من يؤوِّل المتشابهَ على هواه بغير دليل على تأويله. وقد فُهِم أن المراد التأويل بحسب الهوى أو التأويل الملقي في الفتنة بقرينة قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، كما فهم من قوله:"يتبعون" أنهم يهيمون ذلك ويستهترون به. وهذا ملاكُ التفرقة بين حال مَنْ يتبع المتشابهَ للإيقاع في الشك والإلحاد، وبين حال من يفسر المتشابه ويؤوله إذا دعاه داع إلى ذلك. وفي البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلًا قال لابن عباس:
"إنني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: ما هو؟ قال: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} [المؤمنون: 101] وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} [الصافات: 27، الطور: 25]، وقال:{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} [النساء: 42]، وقال:{قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: 23]؛ فقد كتموا في هذه الآية، وقال:{أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} [النازعات: 27 -
(1) صحيح البخاري، "كتاب البيوع"، الحديث 2091، ص 335 - 336؛ "كتاب الخصومات"، الحديث 2425، ص 390؛ "كتاب التفسير"، الأحاديث 4731 - 4735، ص 823 - 824؛ سنن الترمذي، "كتاب التفسير"، الحديث 3163، ص 730.
(2)
الجنابي هو الحسين بن بهرام الجنابي كبير القرامطة، قتل سنة 301. - المصنف.
30]، فذكر خلقَ السماء قبل خلق الأرض، ثم قال:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} [فصلت: 9 - 11]، فذكر في هذه خلق الأرض قبل السماء. وقال تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء: 96]{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58]، فكأنه كان ثم مضى. فقال [ابن عباس]:{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101] في النفخة الأولى، ثم يُنفخ في الصور {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} [الصافات: 27، الطور: 25]. وأما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: 23]، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فخُتِمَ على أفواههم، فتنطق أيديهم، فعند ذلك عُرف أن الله لا يُكْتَمُ حديثا"، إلى آخر الحديث. (1)
وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ} ، جملةُ حال، أي وهم لا قِبَلَ لهم بتأويله؛ إذ ليس تأويلُه لأمثالهم، كما قيل:"ليس بعشك فادرجي". (2) ومن هنا أمسك السلفُ عن تأويل المتشابهات غير الراجعة إلى التشريع، فقال أبو بكر رضي الله عنه:
(1) صحيح البخاري، "كتاب التفسير - سورة حم السجدة"، ص 849.
(2)
"ليس بعُشِّك فادْرُجِي"، ويروى "ليس أوانَ عشك فادْرُجِي"، مثلٌ يقال فيمن يتعرض لِمَا ليس مِنْ شأنه أو هو غيرُ مؤَهَّل له، كما يُقال في المُطْمَئِنّ في غير وقْتِه فيُؤمَرُ بالجدِّ والحركة. وقد جاء هذا المثل في قول الشاعر:
لَيْسَ هَذَا عُشَّكِ فَادْرُجِي
…
وَاْنْقُرِي حَيْثُ مَا شِئْتِ أَنْ تَنْقُرِي
"أيُّ أرضٍ تُقِلُّنِي، وأيُّ سماء تُظِلني، إن قلت في كتاب الله بما لا أعلم". (1) وجاء في زمن عمر رضي الله عنه رجلٌ إلى المدينة من البصرة يقال له صَبيغ بن شريك أو ابن عسل التميمي، (2) فجعل يسأل الناسَ عن متشابه القرآن وعن أشياء، فأحضره عمر وضربه ضربًا موجِعًا، وكرر ذلك أيامًا فقال:"حسبُك يا أمير المؤمنين، فقد ذهبَ ما كنتُ أجد في رأسي"، ثم أرجعه إلى البصرة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته. (3)
ومن السلف مَنْ تأوَّل عند عروضَ الشبهة لبعض الناس، كما فعل ابن عباس فيما ذكرناه آنفًا، قال ابن العربي في العواصم:"من الكائدين للإسلام الباطنية والظاهرية". (4)
قلت: أما الباطنية فقد جعلوا معظمَ القرآن متشابِهًا، وتأولوه بحسب أهوائهم. وأما الظاهرية فقد أكثروا في متشابهه، واعتقدوا سببَ التشابه واقعًا. فالأولون دخلوا في قوله:{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ، والآخرون خرجوا من قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، أو {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، فخالفوا السلفَ والخلف. قال ابن العربي في العواصم: "وأصلُ الظاهرية الخوارجُ الذين
(1) ابن كثير: عمدة التفسير، ج 1، ص 45.
(2)
بصاد مهملة وغين معجمة بصيغة الصفة المشبهة، ويحرفه كثير فيقولون ضبيع بضاد معجمة وعين مهملة وبصيغة التصغير. - المصنف.
(3)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 5، ص 23 - 24.
(4)
أورد المصنف كلام ابن العربي مختصرًا وبتصرف، ولعله من المفيد المجيء به كاملًا، قال:"وقد بينا في غير موضع أن الكائدين للإسلام كثير، والمقصرون فيه كثير، وأولياؤه المشتغلون به قليل. فممن كاده الباطنية، وقد بينا جملة أحوالهم. وممن كاده الظاهرية، وهم طائفتان: إحداهما المتبعون للظاهر في العقائد والأصول. الثانية المتبعون للظاهر في الأصول. وكلا الطائفتين في الأصل خبيثة، وما تفرع عنهما خبيث مثلهما. . . وهذه الطائفة الآخذة بالظاهر في العقائد، هي في طرف التشبيه كالأولى في التعطيل". ابن العربي: العواصم من القواصم، ص 208.
قالوا: لا حكمَ إلا لله"، (1) يعني أنهم أخذوا بظاهر قوله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57، يوسف: 40 و 67]، ولم يتأولوه بما هو المرادُ من الحكم هنا.
والمرادُ بالراسخين في العلم الذين تمكنوا في علم الكتاب ومعرفة محامله، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى، بحيث لا تروج عليهم الشبه. وأصلُ الرسوخ في كلام العرب الثبات والتمكُّن، فهم يُحسنون مواقعَ التأويل ويعلمونه. ولذا فقوله:"والراسخون" معطوفٌ على اسم الجلالة، وفي هذا العطف تشريفٌ عظيم، كقوله:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]. وإلى هذا التفسير مال ابنُ عباس ومجاهد والربيع بن سليمان والقاسم بن عمر، والشافعية، وابن فورك، والشيخ أحمد القرطبي وابن عطية من المالكية. وعلى هذا فليس في القرآن آيةٌ استأثر الله بعلمها. وحكى إمامُ الحرمين عن ابن عباس أنه قال في هاته الآية:"أنا مِمَّنْ يعلم تأويلَه". (2)
(1) لم أجد هذه العبارة المنسوبة لابن العربي في كتاب "العواصم من القواصم" في نشرتيه الناقصة (لمحب الدين الخطيب) والكاملة (لعمار طالبي).
(2)
انظر حكاية الأقوال في معنى الآية وخاصة ما ذهب إليه ابن عباس ومجاهد والربيع وابن فورك وغيرهم من القول بعطف عبارة "والراسخون" على اسم الجلالة في: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 5، ص 26 - 29. وأحمد القرطبي هو أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي (578 - 656 هـ) صاحب كتاب الشرح على صحيح مسلم المسمى "المفهم لم أشكل من تلخيص كتاب مسلم". وعلى عكس ما ذكر المصنف متابعة - فيما يبدو - لما حكاه صاحب الجامع لأحكام القرآن، فإن أحمد القرطبي قد مال إلى رأي من قال بالوقف والاستئناف في الآية دون العطف، حيث قال:"وقيل: والراسخون معطوف على الله تعالى، حُكي عن علي وابن عباس، والأول (يعني كون قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} "جملة ابتدائية مستأنفة") أليق وأسلم". القرطبي: المفهم، ج 6، ص 696 - 697. وقبل القرطبيين (مفسر القرآن وشارح الحديث) قال ابن عطية:"واختلف العلماء في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فرأت فرقة أن رفع {وَالرَّاسِخُونَ} هو بالعطف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه في كتاب الله، وأنهم مع علمهم به {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} الآية. قال بهذا القول ابن عباس، وقال: أنا ممن يعلم تأويله. وقال مجاهد: والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير". =
وقيل: الوقف على قوله {إِلَّا اللَّهُ} ، وإن جملة {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم} مستأنَفة. وهذا مرويٌّ عن جمهور السلف، وهو قولُ ابن عمر وعائشة وابن مسعود وأبي، ورواه أشهب عن مالك في جامع العُتْبِيَّة. (1) وقاله عروةُ بن الزبير والكسائي والأخفش والفراء والحنفية، وإليه مال الإمام فخر الدين. (2)
ويؤيد الأولَ الوصفُ بـ "الراسخون في العلم"؛ فإنه دليل بَيِّن على أن الحكمَ الذي أُثبِتَ لهذا الفريق هو حكمٌ من معنى العلم والفهم في المعضلات، وذلك هو تأويلُ المتشابه. على أن أصلَ العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل، فيكون الراسخون معطوفًا على اسم الجلالة. ولو كان الراسخون مبتدأ وجملة "يقولون آمنا به" خبرًا، لكان حاصلُ هذا الخبر مما يستوي فيه سائرُ المسلمين الذين لا زيغَ في قلوبهم، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة.
قال ابن عطية: "فتسميتُهم راسخين تقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميعُ مَنْ يفهم كلامَ العرب. وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلمه الجميع؟ وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام، وموارد الأحكام، ومواقع المواعظ، وذلك كله بقريحة معدة". (3) وفي قوله {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} ، إشعارٌ بأن الراسخين يعلمون تأويلَ المتشابه. (4)
= ثم قال: "ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل، وأطنب في ذلك". ابن عطية الأندلسي: المحرر الوجيز، ج 1، ص 402 - 404. هذا ولم أعثر على الموضع الذي ذكر فيه الجويني كلامَ ابن عباس.
(1)
ابن رشد: البيان والتحصيل، "كتاب الجامع الرابع"، ج 17، ص 512.
(2)
قال الرازي بعد أن ذكر القائلين بهذا الرأي: "وهو المختار عندنا". التفسير الكبير، ج 4/ 7، ص 153.
(3)
ابن عطية: المحرر الوجيز، ج 1، ص 403.
(4)
يقول الباقلاني فيما يبدو أن المصنف قد اعتمده: "والذي نختاره ونذهب إليه في تأويل قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أنه ما اشتبه ظاهره، واحتمل تأويلات كثيرة مختلفة، واحتيج في معرفة المراد به إلى =
واحتج أصحابُ الرأي الثاني - وهو رأيُ الوقف على اسم الجلالة - بأن الظاهر أن تكون جملة "والراسخون" مستأنَفَةً لتكون معادلًا لجملة: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ، والتقدير "وأما الراسخون في العلم". أجاب التفتازاني بأن المعادل لا يلزم أن يكون مذكورًا بأن يحذف لدلالة الكلام عليه. (1) واحتجوا أيضًا بقوله تعالى:{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} . قال الفخر: "لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة، إذ الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب، وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة". وذكر الفخر حججًا أخر غير مستقيمة. (2)
= فحصٍ وتأمل، وردِّ له إلى ظاهرٍ آخر ودليل عقلٍ وما يقوم مقامَ ذلك، مما يكشف المرادَ به، وإن ذلك مما يعلم الله تأويله، ويعلمه أيضًا الراسخون في العلم، وأن الله سبحانه لم ينزل من كتابه شيئًا لا يعرف تأويله، ولا طريق للعرب الذين أنزل عليهم، ولا لهم سبيلٌ إلى العلم به، ولا يجوز أن يكلمهم بما هو سبيله مع قوله:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، وقوله:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل: 103] في نظائر هذه الآيات الدالة على أنه بلسان العرب، وما تعرفه وتعقله في عادة خطابها، ولا نقول بالوقف على قوله:{إِلَّا اللَّهُ} بل الواو عندنا في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} واو نسق وعطف، وأن جميع ما رُويَ عن بعض المفسرين وأهل اللغة أنه لا يعرف له تأويلًا، فإنه معروفُ المعنى والتأويل عند غيره، ومما قد كشف الله سبحانه عن المراد بواضح أدلته، وبين براهينه، وإذا ذلك كذلك بكل توهُّمهم أن الله لأنزل في كتابه ما لا يعرفه أهلُ اللغة ولا طريقَ للخلق جميعًا إلى معرفة المراد به" الباقلاني، القاضي أبو بكر ابن الطيب: الانتصار للقرآن، تحقيق محمد عصام القضاة (بيروت: دار ابن حزم، 1422/ 2001)، ج 2، ص 766 - 777.
(1)
لم أجد هذا الكلام المنسوب للسعد التفتازاني فيما تيسر لي الاطلاع عليه من مصنفاته المطبوعة (ومنها شرح المقاصد، وشرح العقائد النسفية، والمطول على مختصر التبريزي للمفتاح، وحاشيته على شرح الإيجي لمختصر ابن الحاجب الأصولي). ومن الراجح أن المصنف نقله من حاشية السعد على الكشاف، وهي ما تزال مخطوطة حسب علمي.
(2)
أورد المصنف كلام الرازي بتصرف ولفظه بتمامه: "فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح؛ لأن كل من عرف شيئًا على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به. إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى، وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل =
ولا يخفى أن أهلَ القول الأول لا يثبتون متشابِهًا غير ما خفي المرادُ منه، وأن خفاء المراد متفاوت، وأن أهلَ القول الثاني يثبتون متشابِهًا استأثر الله بعلمه وهو أيضًا متفاوت؛ لأن منه ما يقبل تأويلاتٍ قريبة، وهو مما ينبغي أن لا يعد من المتشابه في اصطلاحهم. لكن صنيعهم في الإمساك عن تأويل آياتٍ كثيرة سهلٍ تأويلُها - مثل:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]- دل على أنهم يسدون باب التأويل في المتشابه. قال الشيخ ابن عطية: "إن تأويل ما يمكن تأويلُه لا يَعلم تأويلَه - على الاستيفاء - إلا الله تعالى. فمَنْ قال من العلماء الحذّاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويلَ المتشابه، فإنما أراد هذا النوع، وخافوا أن يظن آخر أن الله وصفَ الراسخين بعلم التأويل على الكمال". (1)
= والعبث. فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل العقلية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد الله تعالى، بل مراده غير ذلك الظاهر، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه، وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب، فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين، عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن". انظر هذا الكلام وباقي الحجج التي أومأ إليها المصنف في: التفسير الكبير، ج 4/ 7، ص 153 - 155.
(1)
أورد المصنف كلام ابن عطية بتصرف واختصار شديدين، ونصه: "وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين: محكمًا ومتشابها. فالمحكم هو المتضح المعنى لكل مَنْ يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شيء يلبس، ويستوي في علمه الراسخُ وغيره. والمتشابه يتنوع: فمنه ما لا يعلم البتة، كأمر الروح، وآمادِ المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها، إلى سائر ذلك. ومنه ما يُحمل على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب، فيُتأول تأويلَه المستقيم، ويُزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم، كقوله في عيسى:{وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] إلى غير ذلك، ولا يسمى أحد راسخًا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرًا بحسب ما قُدر له. وإلَّا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخًا. وقوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} ، الضمير عائدٌ على جميع متشابه القرآن، وهو نوعان كما ذكرنا. فقوله {إِلَّا اللَّهُ} مقتضٍ ببديهة العقل أنه يعلمه على الكمال والاستيفاء - يعلم نوعيه جميعًا. فإن جعلنا قوله:{وَالرَّاسِخُونَ} عطفًا على اسم الله تعالى، فالمعنى إدخالُهم في علم التأويل لا على الكمال، بل علمُهم إنما هو في النوع الثاني من المتشابه، وبديهة العقل تقضي بهذا، والكلام مستقيم على فصاحة العرب. . . فالمعنى: وما يعلم تأويل المتشابه إلا الله، والراسخون كلٌّ بقدره وما يصلح له، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والراسخون بحال قول في جميعه {آمَنَّا بِهِ} . وإذا تحصل لهم في الذي لا يعلم ولا يتصور عليه تمييزه من غيره، فذلك قدر من العلم بتأويله. وإن جعلنا قوله:{وَالرَّاسِخُونَ} رفعًا بالابتداء مقطوعًا مما قبله، فتسميتهم راسخين يقتضي بأنهم يعلمون أكثرَ من المحكم الذي يستوي في علمه جميعُ مَنْ يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع؟ وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام، وموارد الأحكام، ومواقع المواعظ، وذلك كله بقريحة معدة. فالمعنى: وما يعلم تأويله على الاستيفاء إلا الله، والقوم الذين يعلمون منه ما يمكن أن يُعلم يقولون في جميعه {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} . وهذا القدر هو الذي تعاطى ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن، ولا يتأول عليه أنه علم وقت الساعة وأمر الروح وما شاكله. فإعراب "الراسخون" يحتمل الوجهين، ولذلك قال ابن عباس بهما، والمعنى فيهما يتقارب بهذا النظر الذي سطرناه. فأما من يقول إن المتشابه إنما هو ما لا سبيلَ لأحد إلى علمه، فيستقيم على قوله إخراجُ الراسخين من علم تأويله، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح، بل الصحيح في ذلك قول من قال المحكم ما لا يحتمل إلا تأويلًا واحدًا، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهًا، وهذا هو مُتَّبَعُ أهل الزيغ. وعلى ذلك يترتب النظرُ الذي ذكرته. ومن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويلَ المتشابه، فإنما أرادوا هذا النوع، وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال". المحرر الوجيز، ج 1، ص 403 - 404.