الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعامل بالأوراق المالية
(1)
نشرت جريدة "العصر الجديد"(ص 3، العدد 6، 23 شوال 1338/ 1920) الأسئلة الآتية حول الأوراق المالية:
ما هو حكم "الكوارط" المالية في الصرف؟ وهل النسيئة فيها تمنع أم لا؟ وهل المنع عند اعتبارها عروضًا يتحقق في النسيئة مفاضلة أم لا؟ وما العلة في التحرم عند إلحاقها بالنقدين: هل التعليل بالذات للنقدية أو اتخاذها أثمانًا؟ وما هي أحكام الضرورة فيها؟
فأجاب المصنف بما يلي:
حكم الربا في التعامل بالأوراق المالية:
يطلق الربا في اصطلاح الفقهاء على معان:
أحدها: ربا الجاهلية، وهي الزيادة في الدين لأجل التأخير.
الثاني: التفاضل في بيع الشيء بجنسه من أجناس وردت في السنة، (2) وسُمِّيَ ربا الفضل.
الثالث: التأخير في بيع الشيء بجنسه من تلك الأجناس، وسُمِّيَ ربا النسيئة.
(1) جريدة الوزير، العدد 26، 6 صفر 1339/ 1920 (ص 4). نقلًا عن: التوزري: الفتاوى التونسية، ج 2، ص 989 - 992.
(2)
والأجناس أو الأصناف المشار إليها هي الستة التي جاء ذكرها في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربَى". صحيح مسلم، "كتاب المساقة"، الحديث 1587، ص 615 - 616.
الرابع: البيوع التي تؤول إلى الربا، وهي التي تعتريها تهمة كون التعامل بها على الصفات المذكورة فيها، لأجل التوصل إلى نوع من أنواع الربا المتقدمة.
فأما إجراء أحكام الربا بالمعنى الأول على المعاملة فيها، فلا حاجة للتنبيه عليه لوضوحه، إذ كل ما أدى إلى انتفاع المتسلف ممن سلفه فهو حرام، سواء كان التعامل بالنقدين أم بغيرهما.
وأما إجراء أحكام الربا بالمعنيين الثاني والثالث، فهو متصور فيها؛ إذ لا يقصد التعامل بذواتها حتى تباع الورقة بورقتين أو تباع الورقة بمثلها نسيئة، وإنما النظر إلى قيمتها.
وأما إجراء أحكام الربا بالمعنى الرابع، فهو محل النظر ومناط السهم من الوتر، ولا بد أن نلم بما يحتمل من صور التعامل بها ثم ننزله على أحكامه ونلهم شارده بزمامه. وذلك أن إعطاء الورقة قد يكون في شراء أشياء، وقد يكون لقبض قيمتها نقدًا، وقد يكون مبادلة لها بورقة أو أوراق أخرى. وفي كلٍّ إما أن تُعطى الورقة لِمن هي دين عليه، أعني "البانكة" التي روجتها أو تُعطى لغيرها. فتلك سِتُّ صور.
فأما تسليمها لمن هي دينٌ عليه، أعني "بانكتها"، فإن كان لقبض قيمتها عينًا فهو اقتضاء دين وهو صحيح، وإن كان لقبض أوراق أخرى تساويها فهو استبدال حجج، كما يكون له دين على آخر في صك واحد فيستبدلانه بصكوك متعددة وهو جائز.
وقد يُتوهم بادئ النظر أنه فسخُ دينٍ في دين، ولكن لا توجد حقيقةُ فسخ الدين في الدين منطبقةً عليه؛ لأن تلك الحقيقة عبارةٌ عن أن يكون شيء في ذمة شخص فيفسخه شيء آخر لا يتعجله ربُّ الدين، أي بتجديد دين آخر عوضه. وإنما يقع ذلك غالبًا مع اختلاف جنسيْ الدَّينين، وقد يكون مع اتحادُهما بزيادة في الثاني ليُتوصَّل في الحالين إلى المراباة مستورة تحت صورة دين جديد. (1)
(1) انظر للمزيد من التفصيل حول فسخ الدين في الدين عند الدردير: الشرح الكبير وحاشية الدسوقي، ج 3، ص 61 - 62. هذا وعبارة "فسخ الدين في الدين" من المصطلحات الفقهية =
وعُلِّل منعُه بما ذكره الإمام المازري في شرح التلقين بأن التأخير لا يقع غالبًا إلا وقد زاد المدينُ لرب الدين في مقدار ما يعطيه له لو عاوضه عن دينه بدون تأخير، وهذه الزيادة في القيمة لأجل التأخير كسلف جرَّ نفعًا. (1) وعليه فلما اتحد الدينان وانتفت الزيادةُ انتفت العلة، وكان ذلك مجرد استبدال حجة ولا قصد لتجديد التداين. وأما تسليمها للبانكة لشراء أشياء فذلك جائز؛ لأن بيع الدين بغير جنسه جائز بشروط، وهي موجودة.
وأما تسليم هاته الأوراق لغير من هي عليه، أعني التعامل بها مع غير "البانكة" المروجة لها، فإن كان التعامل بها في شراء سلع، فهو بيع الدين بغير جنسه، وقد علمت جوازه. وإن كان لقصد قبض دين مخالف لما وقع به التداين، أعني أنه مخالف لما وقع عليها كأخذ ذهب عن ورقة رقم عليها أنها ذات فرنكات، فهو جائز لا محالة؛ لأنه من صرف ما في الذمة في غير جنسه مع حلول الدين.
= للمالكية، والمراد منه ما هو معروف عند سائر الفقهاء باسم "بيع الكالئ بالكالئ" وهو معنى بيع الدين بالدين. ويندرج ذلك في تقسيم فقهاء المالكية "بيع الكالئ بالكالئ النهي عنه شرعًا إلى ثلاثة أقسام: ابتداء دين بدين، وفسخ دين في دين، وبيع دين بدين". ويطلق مصطلح "فسخ الدين في الدين" عندهم على أمرين:"أحدهما بيع دين مؤخر - سابق التقرر في الذمة - إلى أجل آخر بزيادة عليه. وقد أجمع الفقهاء على حرمته وفساده، إذ هو نفس ربا الجاهلية"". والثاني "بيع دين مؤخر - سابق التقرر في الذمة - للمدين لما يصير دينًا مؤجلًا من غير جنسه. فيكون مشتري الدين نفس المدين، وبائعه هو الدائن. وقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة إلى حظره، وحكى الإمام السبكي الإجماع على منعه. وخالفهم في ذلك ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فذهبا إلى جوازه". حماد: معجم المصطلحات المالية والاقتصادية في لغة الفقهاء، ص 353 - 354. انظر مزيد تفصيل في: حماد، نزيه: دراسات في أصول المداينات في الفقه الإسلامي (الطائف: دار الفاروق، ط 1، 1411/ 1990)، ص 235 - 281.
(1)
قال المازري: "وقد كانت الجاهلية [تقول]: إما أن تقضي، وإما أن تربي. فإذا حل أجل الدَّيْن وهو في المثل عين، فإنه إذا أخَّره بزيادة فيه فهذا يحرم؛ لأن التأخير للدَّيْن بعد استحقاق قبضه كسلفَه من هو عليه. والزيادةُ في مقدارٍ عوضَ التأخير هي زيادة عوض السلف، وقد عُلم تحريم سلف جر نفعًا". المازري: شرح التلقين، ج 4، (2008)، ص 372 - 373.
وأما إن دفعها في عين مماثلة لما رقم عليها كأخذ فرنكات عن ورقة رقم عليها أنها ذات فرنكات، فهنا اختل منه شرطُ اختلاف الجنس. إلا أنهم عللوا وجهَ القول بمنع بيع الدين بجنسه بأن الشأن فيه إن بيع بجنسه أن يباع بأقل، فيكون سلفًا بمنفعة. وهذا التعليل مبنيٌّ على ما هو متعارف في الديون؛ إذ لا يقصد مشتريها إلا الحطَّ من مقدارها، وإلا فما فائدةُ دفع مثل قيمتها مع أن أقل ما يكلفه الدين أن يسعى لطلبه من المدين؟
أما هذا النوع الذي نحن بصدده فإن مشتريه يقصد مقاصدَ شتى من قبض تلك الأوراق؛ لأن رواجها ورواج العين متساويان، فقد انتفت عنه علةُ المنع. وأما تبادلها مع غير مَنْ هي عليه - أعني صرفَ بعضها ببعض من أوراق "بانكة" واحدة - فهو بين الدين بالدين، لكن مع اتحاد الجنس.
والممنوع من بيع الدين مصوَّرٌ في كلام الفقهاء بما اختلف فيه المدينان، كأن يكون لزيد دينٌ على عمرو، فيبيعه لبكر، ويبيع بكر الذي له على خالد لزيد، ومعلَّلٌ بما فيه من الغرر؛ إذ لا يدري أي المدينين أسبق قضاء وأدوم ذمة وأقل مطلا. فإذا اتحد المدين، فقد انتفت الحقيقة؛ إذ لا بد في بيع الدين من تحقق ثلاثة أشخاص. ولا يقال إنه من ابتداء الدين بالدين؛ لأن حقيقته أن تعمر ذمةُ أحدهما في مقابلة تعمير ذمة الآخر، غير سابق تقرر أحد المدينين على الآخر، وهو الفرق بين ابتداء الدين بالدين، وبين كلٍّ من فسخ الدين في الدين وبيع الدين.
فابتداء الدَّيْن بالدين تعمر به الذمتان عند المعاوضة لا قبلها، كما في التوضيح وغيره. (1). ومن المعلوم أن هاته الأوراق ديونٌ متقررة سابقة على وقت المبادلة،
(1) المالكي: التوضيح، "كتاب البيوع، ج 5، ص 340؛ القرافي: الذخيرة، ج 5، ص 225؛ النفراوي، أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، نشرة بعناية عبد الوارث محمد علي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1418/ 1997)، ج 2، ص 163.
فالتبادل بها من بيع الدين بالدين مع اتحاد المدين لا ضير فيه. وأما صرفُها بأوراق "بانكة" أخرى، فههنا يظهر بيعُ الدين بالدين، إلا أنه لمَّا كان الضمانُ متحدًا، وهو ضمان الدولة - كما علمت في المقدمة (1) - كان اتحادُ الضمان قائمًا مقامَ اتحاد المدين، لانتفاء الغرر وانتفاء تهمة قصد الزيادة المعلل بهما منع بيع الدين بالدين، كما تقدم عن المازري.
(1) يشير المصنف إلى ما جاء في مقدمة بحث "زكاة تذاكر البانكة (الأوراق المالية) " الثاني قبل هذا حيث بين معنى الأوراق المالية وحدد ماهيتها.