الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما ارتفع بناء ركن الكعبة موضع الحجر الأسود وأرادوا وضع الحجر في موضعه، اختلفت بطون قريش فيمن يتولى وضعه، وتنافسوا في الفوز بهذه المنقبة، وبلغ بهم التنازع إلى أن هموا بالقتال فقال لهم أبو أمية بن المغيرة المخزومي - وكان أسنهم يومئذ -: اجعلوا بينكم فيما تختلفون أول داخل من باب بني شيبة، فكان صلى الله عليه وسلم أول داخل منه فقالوا: هذا محمد، هذا الأمين قد رضيناه. فحكموه، فقال: هلم إلي ثوبًا، فأتوه بثوب، فأخذ الحجر فوضعه فيه، ثم قال لتأخذ كل قبيلة، أي كل سيد لها بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا، فلما رفعوه أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ووضعه في موضعه المعروف من جدار البيت، وبنى هنالك. فكانت صَرفةُ قريش عن المنافسة في واضع الحجر في موضعه معجزةً خفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جعلها الله حجة له، إذ كان هو ثاني مَنْ وضع الحجر في موضعه بعد أن وضعه إبراهيم عليه السلام.
وألهم الله سبحانه سيدَنا محمدًا صلى الله عليه وسلم إلهامًا صادقًا إلى أن يجاور كل سنة شهر، فحبب إليه الخلاء. فكان يخرج إلى غار في جبل حراء، وهو على ثلاثة أميال من مكة، يجاور به كل سنة شهرًا (والمجاورة الاعتكاف أي الخلوة للعبادة، فكان يتحنث به، والتحنث التعبد ويقال: التحنف بالفاء. والظنُّ أن الله تعالى ألهمه ما يتعبد به مما كان من دين إبراهيم، مثل النظر في دلائل الوحدانية، والسجود لله تعالى، والصيام والذكر، وما الله أعلم به منا. وثبت أنه كان في تلك المدة يطعم المساكين. ولم أر من ضبط عد السنين التي دام فيها على ذلك الجوار).
بعثته صلى الله عليه وسلم
-:
وفي شهر ربيع الثاني من السنة الأربعين من عمره المبارك، أي سنة أربعين من عام الفيل، ابتداه الله بالرؤيا الصادقة، وهي أول ما بُدِئ به من الوحي، فكان لا يرى رؤية إلا جاءت مثلَ فلق الصبح، أي وقع الأمر الذي رآه مماثلًا في الخارج للرؤيا.
وفي السابع عشر من رمضان من تلك السنة أوحى الله إليه وهو في غار حراء، فرأى جبريل وأقرأه قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5]، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك خديجة، وسمع جبريل يناديه من السماء:"يا محمد أنت رسول الله"، ورآه بين السماء والأرض، فأخبر خديجة بذلك. فذهبت خديجة به إلى ابن عم لها اسمه ورقة بن نوفل بن أسد - وكان قد تنصر وقرأ التوراة والإنجيل - فأخبرته بما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة:"هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعٌ إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله: "أومخرجي هم؟ " قال: نعم، لم يأت رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عُوديَ، وإن يدركني يومُك أنصرْك نصرًا مؤزَّرا". (1) ثم لم ينشب ورقة أن توفّيَ، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم مدةً يوحى إليه، ولم يُؤمر بدعوة الناس حتى نزل عليه قولُه تعالى:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 1 - 2] إلى آخر السورة، فدعا الناسَ إلى الإسلام.
وفي الترمذي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث يوم الاثنين، وضعفه. (2) فكان يدعو الناسَ إلى الإسلام، فتنكر له المشركون وامتعضوا من ظهور الإسلام. وكان الذين أسلموا وهم زهاء أربعين رجلًا إذا صلوا استخفوا بصلاتهم. وصاروا يأوون إلى دار الأرقم بن عبد مناف المخزومي، وهو المعروف بالأرقم ابن أبي الأرقم، توقيًا من تعرض قريش لهم بالأذى، وبقوا ذلك ثلاث سنين. فلما نزل قوله
(1) صحيح البخاري، "كتاب بدء الوحي"، الحديث 3، ص 2؛ "كتاب التفسير"، الحديث 4953، ص 886 - 887؛ "كتاب التعبير"، الحديث 6982، ص 1204 - 1205؛ صحيح مسلم، "كتاب الإيمان"، الحديث 256، ص 77. واللفظ للبخاري في الرواية الأولى. وانظر في ذلك أيضًا: ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 1، ص 190 - 191؛ الزهري: كتاب الطبقات الكبير، ج 1، ص 165.
(2)
ولفظه عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: "بُعِثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم الاثنينِ وصلَّى وعليٌّ يومَ الثَّلاثاءِ". قال الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيْبٌ لا نَعْرِفُهُ إلّا من حَدِيثِ مُسْلِمٌ الأعورُ، ومُسْلِمٌ الأعورُ ليسَ عندهُمْ بذاكَ القويِّ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عَن مُسْلِمٍ عَن حَبَّةَ عَن عَليٍّ نحوَ هَذَا. سنن الترمذي، "أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، الحديث 3727، ص 848 - 849.
تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)} [الحجر: 94 - 96].
أظهر الرسولُ صلى الله عليه وسلم والمسلمون أمرهم، وتحدَّوْا به المشركين، وذلك سنة عشر قبل الهجرة. فحمي المشركون لذلك، وأكثروا من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذهب كبراؤهم (عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان، وأبو البختري، والأسود بن عبد المطلب، وأبو جهل، والوليد بن المغيرة، ونبيه بن الحجاج، ومنبه بن الحجاج، والعاصي بن وائل) إلى أبي طالب فقالوا: "إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مِثل ما نحنُ عليه [من خلافه فنكفيكه] "، فأجابهم أبو طالب جوابًا رفيقًا، وردهم ردًّا جميلًا اقتنعوا به. ثم لَم يلبثوا أن عادوا إلى أبي طالب ثانية وثالثة، كل ذلك يطلبون أن يكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاملته وإياهم، أو أن يخلي بينهم وبينه. (1)
ولمَّا رأوا أبا طالب غيرَ مُسلِمٍ ابنَ أخيه، ورأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غيرَ مُقصّر في الدعوة إلى الحق، جعلوا يعذبون ويؤذون مَنْ أسلم من أهل مكة، ويُغْرُون سفهاءهم بأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشلونهم (2) عليه. وفي تلك المدة أكرم الله رسولَه عليه الصلاة والسلام بمعجزة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم إلى السماوات العلى، وكان ذلك في اليقظة على الأصح. وقد رأى من آيات ربه الكبرى، وحديثُه طويلٌ في الصحيحين. (3) وقد كان ذلك في سنة اثنتين قبل الهجرة، وقيل في
(1) ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 1، ص 212 - 213.
(2)
كذا في الرسالة كما هي منشورة، ولم يتبين لي يقينًا وجهُ الصواب في استخدام هذا الفعل. يُشْلُون: يدعون، أي: يغرونهم عليه - الناشر.
(3)
صحيح البخاري، "كتاب الصلاة"، الحديث 349، ص 62؛ "كتاب أحاديث الأنبياء"، الحديث 3342، ص 555 - 556؛ صحيح مسلم، "كتاب الإيمان"، الحديث 259، ص 79 - 80. وانظر كذلك ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 2، ص 29 - 38؛ السهيلي: الروض الأنف، ج 2، ص 187 - 213.
سنة ثلاث، والأشْهَرُ أنه كان في شهر رجب. (1)
ولم يزل المسلمون في تزايد، فاغتمت قريش بذلك، وائتمروا بدار الندوة، وأجمع أمرهم على أن يقطعوا صلة بني هاشم وبني المطلب، وتعاهدوا على ذلك، وكتبوا صحيفة بتسجيل ذلك اشتهرت بصحيفة القطعية، وعلقوها في جوف الكعبة إثباتًا لما تضمنته، وتوكيدًا على أنفسهم أن لا ينقضوها، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب فدخلوا شعب أبي طالب مستهلَّ المحرم سنة سبع من البعثة. (2) وكان أبو طالب يخرج في تلك المدة، ويحضر مجامعَ قريش على غضاضة.
وبقيَ بنو هاشم كذلك نحوًا من ثلاث سنين، وكان هشام بن عمرو بن ربيعة يمدهم في تلك المدة بالطعام واللباس؛ لأن أباه عمرو بن ربيعة كان ربيبًا لهشام بن
(1) وذكر ابن سعد أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا". الزهري: كتاب الطبقات الكبير، ج 1، ص 181. وقد اختلفت الأقوال في المسألة، وفي ذلك يقول ابن حجر: "وقد اختُلف في وقت المعراج فقيل: كان قبل المبعث، وهو شاذ إلا إن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام كما تقدم، وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث. ثم اختلفوا: فقيل قبل الهجرة بسنة، قاله ابن سعد وغيره، وبه جزم النووي. وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه، وهو مردود، فإن في ذلك اختلافًا كثيرًا يزيد على عشرة أقوال: منها ما حكاه ابن الجوزي أنه كان قبلها بثمانية أشهر فيكون في رجب، وقيل بستة أشهر فيكون في رمضان. وحكى هذا الثاني أبو الربيع بن سالم، وحكي ابن حزم مقتضى الذي قبله؛ لأنه قال: كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة. وقيل: بأحد عشر شهرًا، جزم به إبراهيم الحربي حيث قال: كان في ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، ورجحه ابن المنير في شرح السيرة لابن عبد البر. وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، حكاه ابن عبد البر. وقيل: بسنة وثلاثة أشهر، حكاه ابن فارس. وقيل: بسنة وخمسة أشهر، قاله السدي، وأخرجه من طريقه الطبري والبيهقي، فعلى هذا كان في أو في رمضان، على إلغاء الكسرين منه ومن ربيع الأول، وبه جزم الواقدي، وعلى ظاهره ينطبق ما ذكره ابن قتيبة. وحكاه ابن عبد البر أنه كان قبلها بثمانية عشر شهرًا. وعند ابن سعد عن ابن أبي سبرة أنه كان في رمضان، قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا. وقيل كان في رجب حكاه ابن عبد البر، وجزم به النووي في الروضة. وقيل قبل الهجرة بثلاث سنين حكاه ابن الأثير. وحكي عياض وتبعه القرطبي والنووي عن الزهري أنه كان قبل الهجرة بخمس سنين، ورجحه عياض ومَنْ تبعه". العسقلاني: فتح الباري، "كتاب مناقب الأنصار"، ج 2، ص 1733.
(2)
ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 1، ص 276 - 277.
عبد مناف. ثم سعى هشام هذا إلى زهير بن أبي أمية المخزومي - وهو ابن عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أقد رضيت لأخوالك ما قد علمت؟ أما أنهم لو كانوا أخوال أبي الحكم - يعني أبا جهل - ما كان يرضى لهم بذلك! فاستجاشَ لذلك زهيرًا والمطعم بن عدي وأبا البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب، ودبَّروا أن ينقضوا الصحيفة، فلما أصبحوا دخل زهير المسجد الحرام فقال:"يا أهلَ مكة أنأكل الطعام ونلبس اللباس وبنو هاشم هلكى لا يباع لهم ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تُشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة"، فظاهره على ما قال بقية الخمسة، فقال أبو جهل:"هذا أمرٌ قُضي بليل"، وقام المطعم بن عدي ليمزق الصحيفة فوجدها قد أفنتها الأرضة (1) عدا السطر الذي هو "باسمك اللهم". (2)
وبعد خروج بني هاشم من الشعب بثمانية وعشرين يومًا توفِّيَ أبو طالب، وبعد موته بثلاثة أيام تُوفيت خديجةُ رضي الله عنها، وذلك في شهر رمضان سنة تسع من البعثة أو سنة عشر. وفي شوال من تلك السنة خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام، ويطلب منهم النصرةَ والمنعة من كفار قومه، فلم يجد عندهم خيرًا. ولما جاءت قبائلُ العرب في موسم الحج، عرض عليهم نفسَه، ودعاهم إلى الإسلام وأن يصدقوه ويمنعوه حتى يبلغ ما بعثه الله له، وأن يخرج مع القبيلة التي تستجيب له، فلم يجد عندهم خيرًا وردوا عليه بجفاء إلا بعض بني شيبان، قالوا: سننظر في أمرنا بعد أن نرجع من الحج، فعل ذلك في موسمين أو ثلاثة.
فلما كان الموسمُ في سنة عشر من البعثة لقيَ رسولُ الله عند العقبة ستةَ نفر من الخزرج، فعرض عليهم الإسلامَ فقبلوا وأسلموا. ولما رجعوا إلى يثرب ذكروا لقومهم هذا الأمر، ودعوهم إلى الإسلام ففشا فيهم. وفي العام المقبل وافى موسمَ الحج اثنا عشر رجلًا من الأوس والخزرج فأسلموا، ولما أرادوا الانصرافَ إلى
(1) الأرضة بفتح الهمزة وفتح الراء دودة بيضاء تشبه النملة تنخر الخشب وغيره. - المصنف.
(2)
ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 2، ص 12 - 14.