الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثبوت الشهر القمري
(1)
ورد إلى المصنف السؤال الآتي من "المجلس الإسلامي الأعلى" بالجزائر:
"اتخذت الجزائر في نطاق الحرص على وحدة المواسم الدينية في العالم الإسلامي موقفًا يرمي إلى اتخاذ تقويم قمري يعتمد الحساب الفلكي، فما موقفُ الشريعة من ذلك؟ "، فأجاب بما يلي:
الجواب:
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189]. هذا تعريف عرف الله به المسلمين ببعض حكمه في خلق نظام الشمس والقمر. لذلك صرف الذين سألوا عن السبب لظهور الهلال دقيقًا، ثم أخذ ضوئه في التزايد حتى يصير بدرًا، ثم أخذه يتناقص بضوئه إلى المحاق، وأرشدهم الله إلى ما هو أولى لهم أن يعرفوه في حكمة أحوال الهلال، مما معرفته تنفعهم؛ لأنها التي تفيدهم تقدير تحول
(1) الهداية، السنة الأولَى، العدد الرابع، جمادى الثانية 1374/ 1974 (ص 38 - 40 و 43). وقد قدم محرر المجلة لهذه الفتوى بما يأتي:"قبيل شهر واحد من وفاة شيخ الجماعة العلامة المرحوم سيدي محمد الطاهر ابن عاشور - تغمده الله برحمته - حرر جوابًا شرعيًّا عن مسألة مهمة من المسائل التي شغلت وما تزال تشغل أذهان المسلمين في العالم الإسلامي، وهي مسألة ما تثبت به الأشهر القمرية شرعًا. وقد استطاعت الهداية أن تتحصل على ما كتبه فضيلة شيخنا المرحوم، وهي تنشره لأول مرة، معتزة بهذه الوثيقة النادرة التي تعد - حسب اعتقادنا - آخر ما صدر عنه رحمه الله قبيل وفاته؛ إذ هي مؤرخة في 10 جمادى الثانية 1393 هـ يوافقه 10 جويلية [يوليو] 1973 م، وقد تُوُفِّي الشيخ يوم 12 رجب 1393 هـ - 11 أوت [أغسطس] 1973 م". وقد نقلنا نص الفتوى وتعليق محرر المجلة المذكورة عليها من كتاب الفتاوى التونسية للسويسي التوزري (ج 2، ص 763 - 770). أما مجلة الهداية فهي مجلة شهرية كانت تصدرها إدارة الشؤون الدينية التابعة للوزارة الأولى بتونس، التي صار اسمها "المجلس الإسلامي الأعلى".
الهلال إلى أحوال. فكان هذا الجواب جاريًا على ما يُسمى في علم البلاغة بالأسلوب الحكيم، وهو إجابةُ الطالب بغير ما يتطلب، تنبيهًا له على أن ما أجيب به أولَى له بالقصد. فالمعنى في هذه الآية: الأولَى بهم أن يعلموا أن أحوال الأهلة مواقيت للناس، أي: مواقيت لجميع الناس؛ لأن جميع الناس يتمكنون من التوقيت بها، بخلاف أحوال الشمس فإن حلولها في بروج السماء غير واضح للأبصار.
وقد عُلم أن الأهلةَ مواقيتُ للصيام من سابق قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]، ثم قال:{شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185]، فإن شهر رمضان معروفٌ أنه يبتدئ بهلالٍ وينتهي بهلال.
وإنَّ حقَّ تقليلِ الخلاف بين أحوال المسلمين يقتضي أن لا يُغفلَ عن تغير الأحوال عما كانت عليه في القرون الماضية، حين كان اتصالُ أخبار البلدان وتعرفُهم لأحوالهم بطيئًا جدًّا ومعرَّضًا للشك والنسيان، لضبط ما فات من أيام وساعات، وذلك يضطرهم إلَى مبادرة كل بلد بأخذ ما يحصل لديه من ثبوت الشهر الشرعي. (1)
(1) ومن أسف فإن هذا ما زال يحصل حتى الآن، حيث يندر أن تتفق حكومات العالم الإسلامي على التوحد في بدء شهر رمضان وشوال. ومن ثم كثيرًا ما يتخالف المسلمون في الصيام والإفطار بما يبلغ اليومين أو حتى أكثر، مع تطور العلاقات وسرعة التواصل بين أقطارهم، بفضل وسائل الاتصال السريعة والفعالة. يحصل ذلك مع كثرة ما عقد من اجتماعات رسمية بين العلماء والفقهاء وممثلي الحكومات حول مسألة توحيد رؤية الهلال بالاستفادة من تطور علوم الفلك واعتماد الوسائل التقنية المتقدمة، ومع الاتفاقات التي مُهرت لاعتماد مراكز معينة يكون منها رصدُ الهلال. وبمجرد ما يعود المشاركون في تلك الاجتماعات والموقعون على تلك الاتفاقات إلى بلدانهم، يُنسى الأمر، بل كثيرًا ما يُتَعمَّد عدمُ الالتزام به بسبب منازع سياسة ودعاوى عزة وطنية أو قومية، فيبقى ما اتُفِق عليه حبرًا على ورق. وهكذا تتكرر المسرحية ذاتها كل عام شاهدًا على مدى المفارقة وبعد الشقة بين القول والفكر من جهة والفعل والسلوك من جهة أخرى، حتى في أبعد الأمور عن قصور السياسة وشغبها وهرجها. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإليه المشتكى من حال أمة يمثل التوحيد قطب عقيدتها ومحور شريعتها!
ثم إن تبين أن ثبوتَه في بعض البلدان سابقٌ على ثبوته عند أهل بلد آخر، فأدلةُ السنة وأقوالُ المذاهب الأربعة جرت على أن لا عبرةَ باختلاف المطالع؛ أي: مطالع الأهلة (أعني وجود الاستهلال). فلو صام أهلُ بلدٍ تسعةً وعشرين يومًا برؤية الهلال في بلدهم، وصام أهلُ بلدٍ آخر ثلاثين يومًا بالرؤية، فإن الذين صاموا تسعةً وعشرين يومًا يجب عليهم قضاءُ صيام يوم. قال الحنفية:"هذا قولُ أكثر المشايخ". (1) وقال المالكية: هذا هو المشهور، (2) وقال الشافعية: في المسألة قولان مصححان. (3)
وقال الحنابلة: لا خلافَ في أن رؤيةَ أهلِ بلدٍ تَلزم بقيةَ البلدان. (4)
(1) كذا قال الزيلعي في شرح الكنز. - المصنف. وعبارته: "وأكثر المشايخ على أنه لا يُعتبر"، أي اختلاف المطالع. الزيلعي، فخر الدين عثمان بن علي: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وبهامشه حاشية الشلبي، تحقيق أحمد عزو عناية (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1420/ 2000)، ج 2، ص 165. وانظر كذلك: ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار، ج 3، ص 364؛ القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 3، ص 157.
(2)
انظر في ذلك مثلًا: القيرواني: النوادر والزيادات، ج 2، ص 11؛ ابن عبد البر النمري القرطبي، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد: الكافي في فقه أهل المدينة (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1413/ 1992)، ص 119 - 120؛ ابن العربي: المسالك في شرح موطأ مالك، ج 4، ص 155؛ ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص 276؛ الدسوقي، شمس الدين محمد عرفة: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية/ عيسى البابي الحلبي وشركاه، بدون تاريخ)، ج 1، ص 509 - 510.
(3)
قال إمام الحرمين: "إذا رؤي الهلال من بلدة ولم يُر في أخرى، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما أن حكم الهلال يثبت في خطة الإسلام، فإنه إذا رُؤي، لم يتبعض، والناس مجتمعون في المخاطبة بالصيام والهلال واحد. ومن أصحابنا من قال: إذا بعدت المسافة، لم يعم الحكم، وللرائين حكمهم، وللذين لم يروا حكمهم؛ فإن المناظر في الأهلة تختلف باختلاف البقاع اختلافًا بينًا، فقد يبدو الهلالُ في ناحية ولا يُتصور أن يُرى في ناحية أخرى، لاختلاف العروض، والأهلة فيها، ولا خلاف في اختلاف البقاع في طلوع الصبح، وغروب الشمس، وطول الليل وقصره، فقد يطلع الفجر في إقليم ونحن في ذلك الوقت في بقية صالحة من الليل". الجويني: نهاية المطلب، ج 4، ص 16 - 17.
(4)
ابن قدامة: المغني، ج 4، ص 328 - 329.
وبِهذا يُعلم أن ما ادعاه الحفيدُ ابن رشد في كتابه "بداية المجتهد" وابن جزي في كتابه "القوانين الفقهية" من الإجماع على اعتبار اختلاف المطالع بين البلاد النائية جدًّا، مثل الأندلس من الحجاز، (1) ادعاءٌ غير صحيح؛ لأن الخلافَ واقعٌ في اعتبار المطالع بين البلدان النائية. والراجحُ عدمُ اعتبار اختلاف المطالع فيها، فكيف يُدَّعَى الإجماعُ على اعتبار اختلاف المطالع بين البلدان النائية جدًّا؟
وبهذا تأصل أصلٌ للنظر في هذه المسألة تتفرع عنه قواعد:
القاعدة الأولى: النظر في كيفية ثبوت الشهر. لا شك أن الصوم عبادةٌ مقصودة لذاتها، وأن له حكمةً عظيمة أطلعنا الله على شيء منها، وهو أعلم بما لم نطلع عليه. وجعل الله لهذه العبادة وقتًا تقع فيه، وهو الشهرُ المسمَّى رمضان من الأشهر الشرعية التي قدر الله نظامَها يوم خلق السموات والأرض، (2) فقال تعالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 183، 184]، ثم قال:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، ثم قال:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
فحصل من مجموع هذا تعيينُ العبادة المفروضة وتحديدُها، وتعيينُ زمانها. وبهذا كان شهر رمضان وقتًا لأَنْ تُصام أيامُه من مبدإ الشهر إلى نهايته، فوجب على الناس تعيينُ هذا الشهر مبدأ ونهاية. وكان الناسُ يوم نزول القرآن يعرفون الشهرَ بتجدد ضوء الهلال عقب محاقه.
(1) ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص 276؛ ابن جزي، أبو القاسم محمد بن أحمد: القوانين الفقهية (بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، ط 1، 1430/ 2009)، ص 101.
(2)
وفي ذلك جاء قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)} [التوبة: 36].
وحقيقةُ الهلال أنه حالةُ انعكاس ضوء الشمس على جانبٍ من كرة القمر، وهو الجانبُ الذي ينعكس عليه ضوءُ الشمس، أي هو الجانب المقابِلُ للكرة الأرضية. وذلك الانعكاس يُسَمَّى عند علماء الفلك تولُّدًا، ويسمونه اقترانًا، ويُسمَّى عند عموم العرب - في آخر الشهر - محاقًّا. ولِمعرفتنا وجودَ الهلال عقب المحاق في علم الله طرق:
أولها: رؤيتُه بالبصر رؤيةً لا ريبة تتطرقها، وهذا حسِّيٌّ ضروري، ولا خلافَ في العمل به.
وثانيها: مرور ثلاثين ليلة من وقت استهلال الهلال الذي سبقه، وهذا الطريقُ قطعي تجريبي؛ إذ رصد الناسُ في جميع الأرض وفي كل العصور أحوالَ الهلال، فوجدوه لا يتأخر عن ذلك التقدير من الأيام. وتحقق ذلك لديهم واشتهر، فصار قطعيًّا، وهذا لا خلافَ فيه بين الأئمة.
وثالثها: دلالة الحساب الذي يضبطه المنجمون، أعني العالمين بسير النجوم علمًا لا يتطرق قواعده الشك، وحسابًا تحققت سلامتُه من الغلط، وذلك هو ما يسمى بالتقويم. فإذا ضبط الحسابُ وقتَ وجود الهلال باليوم والساعة، حصل لا محالةَ العلمُ بهذا الشهر القمري؛ إذ جُرِّب التقويم في حساب السنة الشمسية عند الأمم قديمًا وحديثًا في القرون العديدة فلم يُعثر له على غلط، واتبعه المسلمون في أوقات الصلوات وفي أوقات الإمساك والإفطار في رمضان، وجُرِّب عند العرب في حسابُ السنة القمرية كذلك. لكن منع فقهاءُ المذاهب الأربعة العملَ في إثبات الشهر الشرعي بحساب المنجِّمين وأهل التقاويم. (1)
(1) انظر مثلًا ابن رشد: المقدمات الممهدات، "كتاب الصيام"، ج 1، ص 250؛ ابن عابدين: رد المحتار، ج 3، ص 354 - 355؛ النووي، أبو زكريا محيي الدين بن شرف: كتاب المجموع شرح المهذب للشيرازي، حققه وأكمله محمد نجيب المطيعي (جدة: مكتبة الإرشاد، 1980)، ج 6، ص 276.
وإن علمَ الناس بوجود الهلال لم يكن له طريقٌ في العصور الماضية سوى "الرؤية، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له". (1) وليس في لفظ الحديث صيغةُ قصر الصوم على حالة رؤية الهلال، فقياسُ حساب المنجِّمين على رؤية الهلال قياس جلي. (2)
(1) لم أجده بهذا اللفظ تحقيقًا، وأكثر ما وجدت قربًا منه ما أخرج مسلم عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال:"الشهر هكذا وهكذا وهكذا (ثم عقد إبهامه في الثالثة)، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته. فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين"، وفي رواية أخرى أنه قال:"إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه. فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له". صحيح مسلم، "كتاب الصيام"، الحديث 1080، ص 391. وقد ترجم ابن ماجه بابًا بعنوان:"ما جاء في "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته" أخرج فيه عَن الزهري، عَن سالم بْن عَبْد الله، عَن ابن عمر؛ قَالَ: "قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له"". سنن ابن ماجه، نشرة بعناية صدقي جميل العطار (بيروت: دار الفكر، ط 1، 1424/ 2003)، "كتاب الصيام"، الحديث 1654، ص 388. وأخرجه مالك بلفظ: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُم عليكم فاقدروا له". وفي رواية أبي مصعب الزهري زيادة في أوله:"الشهر تسعٌ وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال. . ." الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب الصيام"، الحديث 686، ج 2، ص 305 - 307.
(2)
يقسم القياس حسب اعتبارات مختلفة، منها الوضوح والخفاء في علة الحكم، فيكون منه جلي وخفي، ومنها مدى تحقق العلة بين الأصل والفرع فيكون منه أولى ومساوي وأدنى. فالقياس الجلي هو ما كانت علةُ الحكم فيه ثابتة بالنص، والخفيُّ ما كانت العلةُ فيه مستنبطة. أما قياس الأولى فهو ما كان تحققُ العلة فيه أشدَّ في الفرع منه في الأصل. وقياس المساواة هو ما كانت علةُ الحكم فيه متحققة في الفرع كتحققها في الأصل. أما قياس الأدنى فهو الذي يكون تحقق العلة في الفرع أدنى منه في الأصل. على أن الأحناف يعدون الاستحسان قياسًا خفيًّا في مقابل القياس الجلي الذي يسبق إلى الأفهام بظاهر النص. انظر في هذا: المحبوبي، صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود: التنقيح في أصول الفقه (علق عليه إبراهيم المختار أحمد عمر الجبرتي)، نشرة بعناية إلياس قبلان (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 2009)، ص 437 - 446؛ التفتازاني، سعد الدين مسعود بن عمر: شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، نشرة بعناية زكريا عميرات (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1416/ 1996)، ج 2، ص 171 - 176. وقد عد الشيخ يوسف القرضاوي الأخذ بالحساب الفلكي في رؤية الهلال من باب قياس الأولى، حيث قال: "إن الأخذ بالحساب القطعي اليوم وسيلةً لإثبات المشهور، يجب أن يقبل من باب قياس الأَوْلى، =
وإذا كانت الرؤيةُ بالعين وحدها لا تمكن بعد مضيِّ ساعاتٍ من تكوُّنِ الهلال وبعد خروجه من بقايا شعاع الشمس عند الغروب، كان حسابُ التقويم أولَى من الرؤية؛ لأن تأخر ظهور الهلال للأبصار بعد وجوده بساعات حالةٌ طردية لا أثرَ لها في اعتبار القياس، كما أن تفاوتَ الأعين في رؤيته لا عبرةَ به، فالتفاوت إذن وصفٌ طردي. (1)
وقد يتمكن ضعيفُ البصر من رؤية الهلال بوضع نظارات، فيرى الشيء الذي لم يره قبل وضع النظارات. والنظارات أيضًا متفاوتةٌ في تقريب المرئي، فشتان بين النظارات الاعتيادية التي اعتاد بها أهل الأبصار الضعيفة وبين الناظور المكبر المسمى "مرآة الهند"، بله الناظور المضخم الذي ترصد به النجوم المسمى "تليسكوب". فالتقويم طريقٌ علمي يُكسب الظنَّ القريب من القطع بثبوت الهلال.
وقد اعتبر الشرعُ التقويم في أوقات الصلاة، فلا وجهَ لترك قياس ثبوت شهر الصوم على وقت الصلاة، إذ لا فرقَ بينهما إلا بأوصاف طردية، وهي لا تؤثر في الإجراء الشرعي.
وحاول شهابُ الدين القرافي التفرقةَ بينهما في الفرق الثاني والمائة فلم يأت بطائل، وآل كلامُه إلى أن حديث:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته" لا يشمل
= بمعنى أن السنة التي شرعت لنا الأخذَ بوسيلة أدنى، لما يحيط بها من الشك والاحتمال - وهي الرؤية - لا ترفض وسيلةً أعلى وأكملَ وأوفى بتحقيق المقصود، الخروج بالأمة من الاختلاف الشديد في تحديد بداية صيامها وفطرها وأضحاها، إلى الوحدة المنشودة في شعائرها وعباداتها، المتصلة بأخص أمور دينها، وألصقها بحياتها وكيانها الروحي، وهي وسيلة الحساب القطعي". القرضاوي، يوسف: فقه المقاصد بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية (القاهرة: دار الشروق، ط 2، 2007)، ص 181.
(1)
انظر: الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب: الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، تحقيق علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1414/ 1994)، ج 3، ص 512.
العمل بالحساب. (1)
ويرد عليه أن الحديث ليس فيه صيغةُ حصرٍ كما قدمنا، فلا وجهَ لتعطيل قياس التقويم على الرؤية بجامع تحصيل الظن قياسًا جليًّا، فهذا يعضده قولُ مطرف بن عبد الله بن الشخير من فقهاء التابعين (2) وقول ابن سريج (3) من أئمة الشافعية ونسبه إلى الشافعي، كما في الإكمال لعياض. (4) وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهرُ هكذا وهكذا وهكذا"، وأشار بيديه مطلقتَي الأصابع، ثم عاد وعقد أحد إبْهامَيْه في المرة الثالثة". (5) فكان قوله "إنا أمة أمية. . .
(1) القرافي: الفروق، ج 2، ص 624 - 628؛ وانظر كذلك: ابن دقيق العيد، تقي الدين أبو الفتح: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، تعليق محمد منير عبده الدمشقي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1420/ 2000)، ج 1/ 2، ص 161.
(2)
مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري البصري، ثقة متعبد فاضل، كان من طبقة التابعين الثانية. توُفِّيَ سنة 95 هـ. - المصنف.
(3)
أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج، قاضي شيراز ثم بغداد، أحد كبار فقهاء الشافعية وأئمة الإسلام المكثرين من التأليف. توفي سنة 306/ 918. - المصنف.
(4)
اليحصبي: إكمال المعلم، ج 4، ص 688. وانظر كذلك ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص 273. وذهب إلى ذلك أيضًا ابن قتيبة "من اللغويين"، كما ذكر القرطبي. الجامع لأحكام القرآن، ج 3، ص 154. وقد شن أبو بكر ابن العربي على ابن سريج حملة شعواء لا مسوغ لها، حتى ليخيل إلى المرء أن الفقيه الشافعي قد ارتكب شناعةً يوشك أن يخرج بها من الملة، حيث قال: "وهذه هفوة لا مردَّ لها، وعثرة لا إقالة فيها، وكبوة لا استقالة منها، ونبوة لا قرب معها، وزلة لا استقرار بعدها، أوْهٍ يا ابنَ سريج! أين استمساكك بالشريعة! وأين صوارمك السريجية! تسلك هذا المضيق في غير طريق، وتخرج إلى الجهل بعد العلم والتحقيق، ما لمحمد والنجوم! ومالك للترامي هكذا والهجوم. . ." المسالك في شرح موطأ مالك، ج 4، ص 159. وهي حملة أقلُّ ما يقال فيها أنها لا تشبه العقل الاجتهادي الذي عهد عن ابن العربي!
(5)
أخرج مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا وهكذا"، وعقد الإبهام في الثالثة، "والشهر هكذا وهكذا وهكذا"، يعني تمام ثلاثين. "صحيح مسلم، كتاب الصيام"، الحديث 1080/ 15، ص 391 - 392؛ وجاء عند أبي داود:"حدثنا سليمان بن حرب، ثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، عن سعيد بن عمرو - يعني ابن سعيد ابن العاص - عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نكتب، ولا نحسب الشهر =
إلخ" من قبيل الإيماء إلى علة قياس [حساب](1) المنجِّمين المضبوط على رؤية الهلال بالبصر، والحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا.
ولنا في التعويل على منظار المرصد الفلكي في أشهر بلاد الإسلام، مثل البلاد المصرية، غنيةٌ باعتبار الحساب النجومي.
فعلى قضاة المسلمين والمفتين والقائمين مقامهم في الشؤون الدينية من علمائهم أن يرصدوا بأنفسهم أو بمن يثقون به ظهور الهلال بنظارت المراصد، والذي يثبت به عنده منهم ظهور الهلال بذلك يعلم به جميع بلاد الإسلام بواسطة الإذاعة الدولية.
القاعدة الثانية: يجب التنبيه إلَى أن الأشهر الشرعية القمرية تبتدئ بالليالي، فابتداءُ الشهر الشرعي يكون من وقت غروب الشمس. فغروبُ الشمس في آخر مساء يوم الخميس مثلًا يعتبر مبدأ ليلة الجمعة وهلم جرًّا، بحيث إذا طلع الفجر لا يعتبر الوقتُ الذي بعد طلوعه بمبدأ لليوم الشرعي. ولذلك إذا رُؤِيَ الهلالُ في جزء من أجزاء الليل في بلد إسلامي وجب الصومُ على أهل ذلك البلد، وكلُّ بلد هو في حالة ليل في تلك الساعة، وإذا رُؤِيَ عند طلوع الفجر أو عقب طلوع الفجر في بلد لم يجب على أهل ذلك البلد الصوم.
= هكذا، وهكذا"، وخنس سليمان إصبعه في الثالثة، يعني: تسعًا وعشرين وثلاثين". سنن أبي داود، "كتاب الصيام"، الحديث 2319، ص 373؛ وعند النسائي:"أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار عن محمد عن شعبة عن الأسود بن قيس قال سمعت سعيد بن عمرو بن سعيد بن أبي العاص أنه سمع ابن عمر يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، والشهر هكذا وهكذا وهكذا"، وعقد الإبهام في الثالثة، "والشهر هكذا وهكذا وهكذا" تمام الثلاثين". سنن النسائي، "كتاب الصيام"، الحديث 2138، ص 360.
(1)
زيادة اقتضاها السياق.
وكذا القول في الفطر سواء، وحكم تلك الحالة مشمولٌ لقول فقهاء المذاهب الأربعة: أنه إن رُؤِيَ الهلالُ نهارًا فهو لليلة القابلة بدون تفصيل. (1) وفي هذه الحالة يظهر اختلافٌ بين بعض المسلمين في الصوم أو الفطر، وفي إقامة صلاة العيدين، وذلك خطبٌ سهل.
القاعدة الثالثة: مسألة ما إذا خالف التقويم شهادةُ مَنْ يشهدون بأنهم رأوا الهلال: هل تكونُ مخالفتُهم التقويمَ موجبةً استبعادَ شهادتهم برؤيته فيجب ردُّها بالاستبعاد العادي؟
فهذا إنما يُتصور بالنسبة للشهادة برؤية الهلال بمجرد النظر. وقد ذكر فقهاء المالكية أن مخالفة التقويم للشهادة في غير شهادة رؤية الهلال الشرعي توجب ردَّ الشهادة، وأنه لا يجب ردُّ شهادة هلال الصوم وهلال الفطر. (2) وللشافعية قولان، اختار السبكي قولَ رد شهادة الرؤية بتلك المخالفة. (3) وكلام فقهاء الحنفية صريح، ولم أقف على قول الحنابلة. (4)
والوجه الشرعي في نظري أنها تُرد بذلك للاستبعاد العادي؛ (5) لأن الشهادة
(1) انظر في ذلك مثلًا: القيرواني: النوادر والزيادات، ج 2، ص 12؛ الجويني: نهاية المطلب، ج 4، ص 19؛ الكاساني: بدائع الصنائع، ج 2، ص 598.
(2)
انظر في ذلك مثلًا: الحطاب: مواهب الجليل، ج 3، ص 290.
(3)
نص ابن عاشور على أن هذا النقل كان من رد المحتار لابن عابدين. انظر رد المحتار، ج 3، ص 354 - 355.
(4)
والواقع أن ابن قدامة مثلًا لم يُدر الكلامَ أبدًا على مسألة الحساب والتقويم لا استقلالًا ولا في معارضة الشهادة، لا في كتاب "المغني" ولا في غيره من مؤلفاته الفقهية.
(5)
أي مما يُستبعد عادةً وعقلًا، كأن يشهد بدويٌّ في المدينة لصالح حضري ضد حضري. قال الدردير في تعليله: "وحاصله أن تحمل الشاهد الشهادة إذا استبعده العقل، أي استغربه، أي نسبه للبعد والغرابة، كان ذلك مبطلًا للشهادة عند أدائها. . . فإذا طلب من البدوي تحمل الشهادة بشيء من ذلك [أي من سائر عقود المعاوضة ونحو الوصية والعتق والتدبير] في الحاضرة، فلا تُقبل منه إذا أداها، وذلك لأن ترك إشهاد الحضري وطلب البدوي لتحمل تلك الشهادة فيه ريبة؛ =
تُرد لاستبعادها (كما في مختصر خليل (1)). وأصلُ ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يشهد حضري على بدوي". (2) ولا شك أنه لو ادعى شاهدان أنهما رأيا الهلال في مكان غيم الغيمُ سماءه أن لا تقبل شهادتهما.
فأما ما يتعلق بإثبات شهر الحج، فقد ظنها كثيرٌ من الناس مسألة معقدة، ولكنها عند التأمل لا إشكال فيها؛ لأن رؤية هلال ذي الحجة بواسطة المرصد تعتبر بحالة مكة وما حولها. فإذا كان حالها ليلًا حينئذ، فهو ابتداء شهر ذي الحجة. وإذا كان حالها حينئذ بعد طلوع الفجر، فابتداء ذي الحجة في الليلة المقبلة؛ لأن أهلَ الحج كلهم يأتون مكة. والحج عبادةٌ يقوم بها الذين يحلون بمكة، فمبدأ تلك العبادة هو الشهر الذي كان مبدؤه بمكة، على نحو ما قررناه آنفًا من أن ابتداء الشهر الشرعي يُعتبر بالنسبة إلى الليل لا النهار.
= لأن العقل يستبعد ويستغرب إحضار البدوي لتحمل الشهادة دون الحضري". الدسوقي والدردير: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج 4، ص 175.
(1)
الأزهري، صالح عبد السميع: جواهر الإكليل شرح مختصر العلامة الشيخ خليل (بيروت: المكتبة الثقافية، تصوير عن طبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر، 1348 هـ)، ج 2، ص 236.
(2)
ليس موجودًا بهذا اللفظ، وإنما أخرج أبو داود وابن ماجه والحاكم (ولم يصححه) عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تجوز شهادةُ بدوي على صاحب قرية". سنن أبي داود، "كتاب القضاء"، الحديث 3602، ص 571؛ سنن ابن ماجه، "أبواب الشهادات"، الحديث 2367، ص 339؛ المستدرك على الصحيحين، "كتاب الأحكام"، الحديث 7127، ج 4، ص 198 - 199. وأنكره الذهبي في تلخيص المستدرك، كذا قال محقق المستدرك.