الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد نشر بجريدة "النهضة" الغرّاء بعدد 3801 ما يدلّ على أنَّ اللجنة المكلفة بمراقبة الإذاعات ردّت على فضيلة شيخ الجامع الأزهر منعَ إذاعة القرآن بالراديو، ورجّحت جانبَ الفوائد التي تنجز من الإذاعة، على ما يقتضيه التحرير.
جوابُكم السامي وكلمتكم الأخيرة في هذا الموضوع الذي يتعلّق بأقدس شيء لدينا معاشر المسلمين، وهو كلام الله القديم، ومعجزته الباقية لنبيه الكريم، حتى يعتمد عليها عمومُ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. أفيدونا مأجورين، والله يحرس مهجتكم، وعليكم السلام".
من الفقير إلى ربه حسن ابن الغربية العدل ببنزرت، وفقه الله.
في 3 ربيع الثاني 1355، وفي 23 جوان سنة 1936.
الجواب
[تمهيد: استحباب سماع القرآن]
أمّا بعد، فقد اطلعت في عدد 8780 من جريدة الزهرة الغرّاء على سؤال موجه إليّ من الفاضل ابننا الشيخ السيد حسن بن الغربية العدل بمدينة بنزرت عن حكم إذاعة القرآن الكريم بواسطة المذياع (الراديو) وعن حكم قارئ القرآن بمركز الإذاعة (الجهاز المذيع) وحكم استماع القرآن من تلك الآلة في الأماكن المشتملة على اللهو، أو على ما لا يليق شرعًا.
والجواب أنّ سماع القرآن أمرٌ مرغَّب فيه، لقوله تعالى:{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]. وحُمِل الأمر عند المالكية والجمهور على النَّدْب، وعند الحنفية على الوجوب الكفائي، وذلك بناءً على أنَّ المراد بالقراءة في الآية القراءة في غير الصلاة، وهو أحدُ تأويلاتٍ كثيرة في الآية بين قريب وبعيد. (1) وإذا كان القارئ
(1) انظر الوجوه المحتملة في معنى الآية في: الطبري: جامع البيان، ج 10، ص 658 - 667. وقرر الطبري بعد أن ساق مختلف الأقوال في الآية: "وأَولَى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ مَن قال: =
حسن الصوت زادت قراءتُه السامع خشوعًا ورقّةَ قلب، وذلك مما يدعو إلى الخير.
وأدلةُ ذلك كثيرة، أوضحُها ما في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع لقراءة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وأبو موسى غير شاعر بذلك، وكان أبو موسى حسن الصوت، فقال له رسول الله من الغد:"لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود"، فقال أبو موسى:"لو علمتُ أنك تسمع إلَيَّ يا رسولَ الله لحبَّرت قراءتِي تحبيرًا، أي: لزدتها تحسينًا". (1) وليس بنا أن نتعرّض ها هنا للخلاف في قراءة القرآن بالأصوات الحسنة التي لا تخرج عن أدب القرآن، فإنّ الكلام في ذلك يطول.
وليس من غرض السائل ولا جمهور المتطلّبين معرفةُ الحكم الشرعي في قراءة القرآن بطريق المذياع خاصة، بل نحن نبني الآن على ما جرى عليه عملُ علماء المسلمين في سائر الأقطار من استحباب القراءة بالأصوات الحسنة غير المنافية لحروف القرآن وآدابه، جريًا على قول أئمةٍ من أعلام المذهب المالكي مثل الإمام سحنون وعمرييه: موسى بن معاوية، وابن الرشيد، وابن اللّبّاد، وابن التبّان من أعيان القيروانيين. (2) وهو مختارُ أعلام من الأندلسيين، مثل ابن رشد وابن العربي
= أُمروا باستماع القرآن في الصلاة إذا قرأ الإمام، وكان مَنْ خلفه ممن يأتَمُّ به يسمعه، وفي الخطبة. وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قرأ الإمام فأنصتوا"، وإجماع الجميع على أن من سمع خطبة الإمام ممن عليه الجمعة [عليه] الاستماع والإنصاف لها، مع تتابع الأخبار بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا وقتَ يجب على أحد استماع القرآن والإنصات لسامعه من قارئه إلا في هاتين الحالتين، على اختلافٍ في إحداهما، وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتَمٍّ به. وقد صح الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرناه من قوله:"إذا قرأ الإمام فأنصتوا". فالإنصاتُ خلفه لقراءته واجبٌ على مَنْ كان به مؤتَمًّا سامعًا قراءتَه بعموم ظاهر القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". وانظر كذلك ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، ج 5/ 9، ص 238 - 241.
(1)
صحيح مسلم، "كتاب صلاة المسافرين وقصرها"، الحديث 793 (235)، ص 286.
(2)
سحنون هو أبو سعيد عبد السلام بن سعيد التنوخي القيرواني، صاحب المدونة ومرسخ فقه الإمام مالك بإفريقية. رحل إلى المشرق، وأخذ عن ابن القاسم. توفي سنة 240. أما عصريوه من =
وعياض، وهو قولُ الحنفية والشافعية. (1)
ولَمْ تزل رغبةُ المسلمين متوفرةً في سماع القرآن بأحسن وجوه آدابه، لا سيما إذا كان القارئ من ذوي الأصوات الحسنة. وقد كان معظمُ الناس لا يجد إلى استقراء هؤلاء سبيلًا لاستدعاء ذلك كلفةً مالية، فإذ قد يسّر الله للناس ما كان عسيرَ الحصول بما ألهم إليه صاحبَ الاختراع الذي استعان بآثار مصنوعات الله، فليحمدوا الله على ذلك.
= القيروانيين الذين ذكرهم المصنف، فأولهم أبو جعفر موسى بن معاوية الصمادحي، كان عمدة فقهاء إفريقية في زمنه، توفي سنة 225/ 839. وابن الرشيد وهو أبو زكرياء محمد بن رشيد، عالم قائد عابد، كان رفيق سحنون في رحلته إلى المشرق. توفي سنة 221/ 835. أما ابن اللباد فهو أبو بكر محمد بن محمد بن وشاح القيرواني، الحافظ المبرز والفقيه الصالح. توفي سنة 333/ 944. وابن التبان هو أبو عبد الله محمد بن إسحاق، إمام ففهاء القيروان في عصره. توفي سنة 371/ 981.
(1)
انظر في هذه المسألة مثلًا: ابن رشد: المقدمات الممهدات، ج 3، "كتاب الجامع"، ص 463؛ ابن العربي: المسالك، ج 3، ص 373 - 378؛ اليحصبي: الاستذكار ضمن موسوعة شروح الموطأ، ج 7، ص 17 - 18 (وقد خص عياض مسألة قراءة القرآن بما في ذلك قراءته بالتنغيم والتطريب بمصنف مستقل سماه "كتاب البيان عن تلاوة القرآن")؛ النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف: التبيان في آداب حملة القرآن، تحقيق محمد الحجار (بيروت: دار ابن حزم، ط 4، 1417/ 1996)، ص 109 - 114؛ البرزلي: جامع مسائل الأحكام، ج 1، ح 398. وأصلُ هذه المسألة ما أورده البخاري معلقًا وأخرجه عبد الرزاق والبيهقي وأحمد وغيرهم عن البراء بن عازب أن عليه السلام قال:"زينوا القرآن بأصواتكم"، وفي رواية:"زينوا أصواتكم بالقرآن". صحيح البخاري، "كتاب التوحيد"، ص 1302؛ الصنعاني: المصنف، "كتاب الصلاة"، الحديثان 4175 - 4176، ج 2، ص 484 - 485؛ البيهقي: السنن الكبرى، "كتاب الصلاة"، الحديث 2427، ج 2، ص 78 و"كتاب الشهادات"، الحديث 21044، ج 10، ص 387؛ المسند، الأحاديث 18494، 18516، 18616، 18704، 18709، ج 30، ص 479، 451، 580، 632 - 633، 636. كما أخرج عبد الرزاق عن عائشة وعبد الله بن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كما سمع صوت أبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن فقال:"لقد أُوتي أبو موسى (أو هذا) مزمارًا من مزامير آل داود". المصنّف، "كتاب الصلاة"، الحديثان 4177 - 4178، ج 2، ص 485. وكذلك أخرج البخاري عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ليس منا من لم يتغن بالقرآن"("كتاب التوحيد"، الحديث 7527، ص 1299). وهناك روايات أخرى في المعنى نفسه. وانظر لمزيد مناقشة وتحقيق لهذه المسألة: أبو زهرة، محمد:"التغني بالقرآن"، مجلة كنوز الفرقان (كان يصدرها الاتحاد العام لجماعة القراء بمصر)، العدد 8، السنة 1، شعبان 1368/ يونية 1949، ص 18 - 23.