المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌معجزة الأمية (1) صفةُ الأمية الثابتة لرسول الله صلى الله عليه - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيفِقْهُ النّبوَّة وَالسِّيرَة

- ‌نسب الرسول صلى الله عليه وسلم ومناسبته لعليِّ ذلك المقام

- ‌سلسلة النسب النبوي

- ‌شرف هذا النسب:

- ‌طهارة هذا النسب:

- ‌زكاء هذا النسب:

- ‌قصة المولد [والمبعث والرسالة]

- ‌نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌طهارة النسب الشريف:

- ‌مولده صلى الله عليه وسلم

- ‌نشأته صلى الله عليه وسلم

- ‌بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌الهجرة

- ‌ظهور الإسلام في المدينة:

- ‌الغزوات:

- ‌شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناؤه:

- ‌شمائله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه

- ‌أسماؤه الشريفة:

- ‌الشمائل المحمدية

- ‌مقدمة:

- ‌الآثار المروية في الشمائل:

- ‌تفصيل الشمائل:

- ‌من يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة

- ‌إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن الاهتمام بتناول الطعام

- ‌الطعام مادة جسدية ولذة حيوانية:

- ‌المدد الروحاني:

- ‌جوع الرسول صلى الله عليه وسلم[والحكمة منه]:

- ‌توجع بعض السلف عند ذكر ذلك:

- ‌تنافس آل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الاقتداء به:

- ‌معجزة الأمية

- ‌المعجزات الخفية للحضرة المحمدية

- ‌ما هي المعجزات وأي شيء هي المعجزة الخفية

- ‌أصناف المعجزات الخفية:

- ‌المقصد العظيم من الهجرة

- ‌الكتاب الذي هم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته

- ‌مشكلات:

- ‌الحكم المتجلية من هذا المقام الجليل:

- ‌مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌[مقدمة]

- ‌صفة مجلس الرسول عليه السلام

- ‌كيفية التئام مجلس الرسول وخروجه إليه:

- ‌هيئة المجلس الرسولي:

- ‌ما كان يجري في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌وقت المجلس الرسولي:

- ‌آداب مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة

- ‌ الحرية

- ‌المقام الأول: في الحرية والمساواة في الشريعة المحمدية:

- ‌دعوة الإسلام إلى الحرية:

- ‌مظاهر الحرية

- ‌حرية العبيد:

- ‌سد ذرائع انخرام الحرية:

- ‌تحصيل:

- ‌المساواة:

- ‌ موانع المساواة

- ‌المقام الثاني: أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة بين الأمم غير أتباع الإسلام:

- ‌المدينة الفاضلة

- ‌[تمهيد]

- ‌[الفطرة وأصول الاجتماع الإنساني]:

- ‌[سعي الأنبياء والحكماء لتأسيس المدينة الفاضلة]:

- ‌[الإسلام وتأسيس المدينة الفاضلة]:

- ‌[قوام المدينة الفاضلة وخصائصها وصفاتها]:

- ‌المحْوَر الثَّالِثفِي الأُصُولِ وَالفِقْهِ وَالفَتْوى

- ‌الفَرْع الأَوّلالأصُوْل

- ‌حكمةُ التشريع الإسلامي وأثره في الأخلاق

- ‌المحكم والمتشابه

- ‌بيان وتأصيل وتحقيق لحكم البدعة والمنكر

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيالفِقْهُ وَالفَتْوَى

- ‌حكم قراءة القرآن على الجنازة

- ‌قراءة القرآن في محطة الإذاعة

- ‌السؤال:

- ‌الجواب

- ‌[تمهيد: استحباب سماع القرآن]

- ‌ في حكم تصدي القارئ للقرآن بمركز الإذاعة

- ‌في حكم سماع السامعين قراءة القرآن من آلة الإذاعة:

- ‌ثبوت الشهر القمري

- ‌الجواب:

- ‌ثبوت شهر رمضان بالهاتف أو المذياع

- ‌النسب [في الفقه الإسلامي]

- ‌القسم الأول: معلومات تمهيدية

- ‌أهمية النسب في مباحثات الفقه:

- ‌اقتضاء الفطرة العناية بالنسب:

- ‌الأوهام التي علقت بالنسب:

- ‌عناية الشريعة بحفظ النسب:

- ‌القسم الثاني:‌‌ معنى النسبلغة، وحقيقته الشرعية، وأنواعه

- ‌ معنى النسب

- ‌حقيقة النسب:

- ‌أصناف النسب وأسماؤها الجارية في كلام الفقهاء:

- ‌القسم الثالث: طريقة ثبوت النسب

- ‌مصادر استنباطها:

- ‌مبنى النسب:

- ‌الطريق الأول: الفراش:

- ‌الثاني: الحمل:

- ‌الطريق الثالث: البينة:

- ‌الطريق الرابع: الدعوة:

- ‌الطريق الخامس: الإقرار بالنسب:

- ‌الطريق السادس: حوز النسب:

- ‌الطريق السابع: شهادة السماع

- ‌الطريق الثامن: القافة:

- ‌الطريق التاسع: حكم القاضي:

- ‌القضاء بالقرعة في النسب وغيره:

- ‌القسم الرابع: مبطلات النسب وما لا يبطله

- ‌تمهيد:

- ‌مبطلات النسب:

- ‌ما لا يبطل به النسب:

- ‌ما يتوهم أنه يقطع النسب:

- ‌القسم الخامس: آثار النسب

- ‌ الحفظ

- ‌البر

- ‌الصلة:

- ‌الوقف وآثاره في الإسلام

- ‌[تقديم]

- ‌نص ما به من الاقتراح الذي في جريدة الأهرام

- ‌أصل التملك قبل الإسلام:

- ‌مقصد الشريعة الإسلامية في تصريف الأموال

- ‌الوقف في نظر الشريعة الإسلامية:

- ‌انقسام الحبس:

- ‌هل الوقف من الإسلام

- ‌ليس الوقف حجرًا على الرشداء:

- ‌هل في الوقف مصلحة أو مفسدة

- ‌هل الوقف خرمٌ لنظام الاقتصاد العام

- ‌هل من حق ولاة الأمور منع الناس من الوقف

- ‌هل صدرت الفتوى بإبطال بعض أنواع الوقف؟ وهل إذا أفتى بذلك من أفتى تكون فتواه صحيحة

- ‌الصاع النبوي

- ‌المخالفة في مقادير المكاييل المستعملة في كثير من بلاد المسلمين ومقادير المكاييل الشرعية:

- ‌نشأة الصاع النبوي وما ظهر بعده من الأصواع:

- ‌ضبط مقدار الصاع النبوي بوجه عام:

- ‌ضبط مقدار الصاع النبوي بمكيال تونس الحالي:

- ‌خاتمة

- ‌زكاة الأموال

- ‌زكاة الحبوب

- ‌التعامل بالأوراق المالية

- ‌حكم الربا في التعامل بالأوراق المالية:

- ‌زكاة "تذاكر البانكة" [الأوراق المالية]

- ‌[معنى الأوراق المالية المعروفة بتذاكر البانكة]:

- ‌حكم زكاة الأوراق المالية المعبَّر عنها بتذاكر البانكة:

- ‌لحوق الأوراق النقدية بأصناف الزكاة

- ‌مشروعية الزكاة:

- ‌المعنى الموجب للزكاة:

- ‌جواز تصريف رقاع الديون مع التعجيل بإسقاط

- ‌جواز القرض برهن

- ‌المصطلح الفقهي في المذهب المالكي

- ‌[مقدمة: المصطلح الفقهي وترجمة القوانين الأجنبية]:

- ‌[المصطلح الفقهي بين الوضع اللغوي والنقل الشرعي]:

- ‌[عوامل تكون المصطلح الفقهي في المذهب المالكي]:

- ‌[فقه الإمام مالك في الموطأ وتأسيس المصطلح الفقهي]:

- ‌[تنوع أسلوب مالك في التعبير اللغوي عن مسائل الفقه]:

- ‌[تطور المصطلح الفقهى بانتشار فقه الإمام مالك]:

- ‌[منهجان في الفقه المالكي]:

الفصل: ‌ ‌معجزة الأمية (1) صفةُ الأمية الثابتة لرسول الله صلى الله عليه

‌معجزة الأمية

(1)

صفةُ الأمية الثابتة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نصفه بالنبي الأمِّيِّ هي معجزةٌ من أعظم معجزاته، وهي على عِظَم أمرها لا نجد الكلامَ عليها مشبعًا مؤتلفًا في كتب السيرة والكلام، فكان حقًّا علينا أن نوفيها حقَّ البحث والتحقيق إيفاءً لما بقي علينا حقُّ الإيفاء به من السيرة وإيرافًا لظلالها.

إنما كانت الأميةُ من أعظم معجزات الرسول؛ لأن بها كمالَ إعجاز القرآن الذي هو أعظمُ معجزة وأبقاها، ولأنها معجزةٌ قائمة بذات الرسول يشاهدها كلُّ مَنْ عرفه قبل النبوة، وكلُّ مَنْ آمن به وصاحَبَه، وكل مَنْ بلغ إليه من خبره ما سارت به الركبان وتحدث به الأضداد والخلان. أما بقية معجزاته، فقائمة بذوات أخرى، ولكن انتسابها إليه من جانب تحديه بها، أو لكونها من آثاره، أو لكونها من فعله.

فانشقاقُ القمر حادثٌ كائنٌ في غير ذات الرسول، وهو معجزةٌ له لتحديه به، ونَبْعُ الماء وتكثيرُ الطعام حادثٌ كائن في الماء وفي الطعام من أثر وضع يده المباركة فيهما، وردُّه عين أبي قتادة الأنصاري حادث قائم بعين أبي قتادة، وهو معجزة للرسول لكونه من فعله.

وبعد فإن للأمية شرفًا آخر يزيد عِظَمها قدرًا، وهو أنها أمرٌ يتعلق بالروح دون الجسد. فكما جعل الله لعظماء الرسل معجزاتٍ ذاتيةً قائمة بذواتهم مثل بياض اليد لموسى عليه السلام، ومثل التكوُّن بدون أب لعيسى عليه السلام، جعل لمحمد عليه السلام معجزةَ الأمية معجزةً ذاتية متعلقة بالروح، أي النفس الناطقة التي هي أشرفُ ما في

(1) الهداية الإسلامية، المجلد 11، الجزء 10، ربيع الثاني 1358/ مايو 1938 (ص 433 - 441).

ص: 603

الإنسان: "فأنت بالروح لا بالجسم إنسان". (1) فإن مآل أميته صلى الله عليه وسلم إلى استغناء روحه في بلوغ كمالها القاصر والمتعدي، عن الحاجة إلى التثقيف بتعليم القراءة والكتابة اللتين هما طريق كمال النفس في متعارف البشر، فكانت نفس الرسول بالغة أرقَى مراتب الكمال بإفاضة ربانية هي آية من آيات الله تعالى.

حقيقة الأمية أنها عدمُ معرفة القراءة والكتابة، وهي صفةٌ مصوغة بصوغ الأخذ من الأمي، وهو الذي لا يقرأ ولا يكتب. والأمِّيُّ منسوبٌ إلى الأم، والمقصود أنه على الحالة التي جُبل عليها حين ولدته أمه، إذ لم يكتسب تعليمًا مكتبيًّا؛ لأن التعليم أمر مكتسب، فالذي لم يتعلم قد بقي على ما وُلد عليه. وقد قال بعضُ علماء اللغة: إن العرب أخذوا الأمي من الأمة، بمعنى العامة؛ لأن معظم العامة في اصطلاح العرب لا يعرف قراءة ولا كتابة. ولذلك وصف العرب بالأميين لغلبة الأمية عليهم إلا قليلًا منهم من أهل المدن والقرى مثل أهل الحيرة والأنبار والطائف ومكة. وحسبك أن خاصة شعرائهم وهم خاصة أقوامهم كانوا لا يحسنون القراءة والكتابة، وقصة المتلمس وطرفة بن العبد حين حملا كتابين من الملك عمرو بن هند إلى عاملة بالبحرين يأمره أن يقتلهما وهما يحسبان أنه أمر لهما بصلة، أكبرُ شاهد على مبلغ الأمية فيهم. (2)

(1) هذا عجز البيت الثاني من بيتين من البسيط للشاعر أبي الفتح البُستي (نسبة إلى مدينة بست الواقعة إلى الغرب من مدينة قندهار بأفغانستان، والمتوفَّى في بخارى سنة 400 أو 401 أو 402)، وهما:

يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ

لِتَطْلُبَ الرِّبْحَ فِيمَا فِيهِ خُسْرَانُ

أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا

فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ

ديوان أبي الفتح البستي، تحقيق درية الخطيب ولطفي الصقال (دمشق: مطبوعات مجمع اللغة العربية، 1410/ 1989)، ص 183.

(2)

انظر مناقشة عميقة ومستفيضة لمسألة الأمية ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بها في: بدوي، عبد الرحمن: دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ترجمه عن الفرنسية كمال جاد الله (الدار العالمية للكتب والنشر، بدون مكان ولا تاريخ النشر)، ص 11 - 19. (هذا وينبغي أن نشير إلى أن الترجمة تشكو من ضعف واضح). وانظر خبر قصة التلمس وطرفة في: الأصفهاني: الأغاني، ج 8/ 24، ص 549 - 550 (نشرة الحسين).

ص: 604

ثبت وصفُ الأمية لرسول الله بالتواتر من القرآن والسنة وإخبار أهل الأخبار من العرب وغيرهم. فالقرآن يقول: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]، {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} [العنكبوت: 48]، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} [الأعراف: 158]. (1)

وجاء في حديث بدء الوحي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله لما جاءه الملَك وهو في غار حراء أنه قال: "قال لي: اقرأْ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني (2) حتى بلغ مني الجهد، (3) ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5] "، فرجع رسول الله يرجف بها فؤاده. (4)

فقول رسول الله: "ما أنا بقارئ" رد لقول الملك له: "اقرأ"، إذ حسِبَ الرسول أن الملك لما أمره بأن يقرأ قد ظن أنه يعرف القراءة والكتابة. وتكريرُ الملك أمره بأن يقرأ أمرُ تكوين من الله تعالى، وغطُّه إياه ثلاثًا مظهر من مظاهر الخلق، أي خلق قوة القراءة في قلب النبي من دون تعلم على سبيل خرق العادة، إذ الشأن أن الأمِّيَّ لا تطاوع نفسُه القراءة، إذ القراءة فن خاص من فنون الكلام مخالف لحفظ الشعر والأمثال، بل القراءة استظهارُ ما يتعلمه المتعلمُ من كتب العلم عن ظهر قلب، وهي

(1) وكذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157].

(2)

الغط - بغين معجمة وطاء مهملة مشددة - هو الضم بشدة. - المصنف.

(3)

الجهد - بفتح الجيم - هو نهاية الوسع والمقدرة حتى يصل التعب. - المصنف.

(4)

صحيح البخاري، "كتاب بدء الوحي"، الحديث 3، ص 1. وقد ساق المصنف الحديث بتصرف.

ص: 605

ملكةٌ خاصة لا تتأتَّى لغير المتعلم بعد ممارسة طريقة التعليم التي يرتاض بها المتعلم تدريجًا من معرفة كتابة الحروف والنطق بالكلام المكتوب ليعاود ما يُملَى عليه، حتى يصير وعي ما يُلقى إليه من العلم وتعلقه بعقله سهلًا عليه. (1)

وقوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 3 - 5]"، تهدئةٌ لروع رسوله واستئناسٌ له؛ لأنه لما استصعب واستعظم تكليفَه بالقراءة في حين أنه أمِّيٌّ ليس بقارئ أعلمه الله بأن الله الذي خلق في الإنسان القابليةَ المادية للعلم بالكتابة ويسَّر له (2) ذلك في أصل الخلقة، هو قد علم الإنسان ما لَمْ يعلم، فحيث أمرك بالقراءة فامتثلْ ولا تستعظم ذلك، إلا أن هذا التعليم جاء على خلاف المعتاد المتعارف. فالكلامُ مسوقٌ مساقَ الاستدلال، مع الإشارة إلى أن المخاطَب ما هو إلا إنسانٌ أراد الله أن يعلمه ما لم يعلم بدون احتياج إلى سبق تعلم الكتابة. وفي تفسير محيي السنة البغوي: "قيل إن المراد بالإنسان في هذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى في الآية الأخرى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} [النساء: 113](3) وهو مَنْزَعٌ حسن.

إن المحاسن الإنسانية المعدودة كمالاتٍ هي ثلاثة أقسام: قسمٌ هو جِبِلِّيٌّ بأصله وأثره، وقسمٌ هو جِبِلِّيٌّ بأصله وكَسْبِيٌّ بأثره، وقسم هو كَسْبِيٌّ بأصله وأثره معًا. فالقسم الأول هو المحاسن الذاتية المحضة التي لا تتعلق بالروح كالصباحة

(1) انظر تحليلًا للدلالة النفسية لأمر النبي الأمي بالقراءة وأهمية تلك الدلالات في تكوين المقياس الوضوعي لظاهرة الوحي في: بن نبي، مالك: الظاهرة القرآنية (دمشق: دار الفكر، ط 4، 1420/ 2000)، ص 150 - 158.

(2)

في الأصل "لهم"، وقد أصلحناها بناءً على معاد الضمير إلى "الإنسان"، وهو مفرد. وإن كان قد يجوز معادُه على جمع مقدر، أي الناس أو بنو آدم على اعتبار أن لفظ الإنسان اسم جنس، والله أعلم.

(3)

أورد المصنف كلام البغوي بتصرف، ولفظه:"وقيل: الإنسان ها هنا محمد صلى الله عليه وسلم، بيانه: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] ". البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود: معالم التنزيل، تحقيق محمد عبد الله وزميليه (الرياض: دار طيبة، 1409/ 1989)، ج 8، ص 479.

ص: 606

والرشاقة وحسن النغمة، وفي القسم الثاني نعد شرفَ النسب وعزةَ القبيلة وكرم الموطن وأمثال ذلك. فهذه صفاتٌ تتفق لِمَنْ تَلَبَّسَتْ به اتفاقًا، فإذا نشأ فيها بعثت فيه صفاتٍ من الكمال كحسن الأسوة بالسلف وكعزة النفس بعزة القبيلة والأريحية لحفظ سمعة الموطن.

فأما القسم الثالث فهو الكمالات الحقة، وهي الصفاتُ التي لا يترقب منها إلا آثارها، لما تحمل عليه موصوفها من اندفاع إلى الفضائل واجتناب للنقائص، مثل العلم والشجاعة والعدالة والعفة وما يتشعب عنها من فروعها وآثارها وتركيباتها من صبر وحلم وعفة ونحو ذلك من مكارم الأخلاق الإنسانية. ويكون حظ الفضيلة لمن اجتمع له نصيب منها بمقدار وفرة ذلك النصيب الكامن فيه حتى يبلغ منتهى صفات الرُّجلة المعبَّر عنها بالمروءة، كما قال الشاعر:

وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوَتَتْ

إِلَى الْفَضْلِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ (1)

فإذا بلغت تلك الفضائل المبلغ الذي الخارق للعادة كان المتصف بها مختارًا لاصطفاء الله إياه. وقد أشار إليه المعنى الجليل الذي في قوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. وأهل هذه الدرجة متفاوتون فيها، كما قال تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253].

وقد كان حظُّ محمد صلى الله عليه وسلم من تلك المحامد أعظمَ الحظوظ وأعلاها، إذ بلغ المنتهى مما يُتمدَّح بكمالها والاعتدالَ في أوساطها مما يُذمُّ طرفاه ويُحمد وسطُه، فكان بذلك أفضلَ الرسل، كما قال تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} [الشرح: 4]، وقال تعالى:{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، إذ المراد به محمد صلى الله عليه وسلم.

(1) البيت هو الثاني والعشرون من قصيدة للبحتري يمدح فيها الفتحَ بن خاقان وابنه أبا الفتح. ديوان البحتري، تحقيق حسن كامل الصيرفي (القاهرة: دار المعارف، ط 2، بدون تاريخ)، ج 1، ص 622 - 626.

ص: 607

الأسباب العادية والعرفية إنما تُعتبر كمالات أو نقائص لما يترتب عليها من المسبَّبات، إذ المنظور إليه هو المقاصد والغايات. فالحواس والجوارح تُعتبر كمالات للإنسان، إذ هي أسباب إدراكه وإتيان أعماله على وفق إدراكه. وإذ قد كان معظمُ ما تندفع إليه تلك الحواس والجوارح يفيد الإنسان كمالًا، اعتبر وجودها وقوتها كمالًا واعتبر عدمها أو ضعفها نقصًا، وكذلك الأمارات العادية تكون كمالًا أو نقصًا بذلك الاعتبار، فالثراء كمال عُرفي لما يتيسر به من الكرم وحفظ المروءة عن الاحتياج إلى الغير، كما قيل:"نعم العون على المروءة الجدة". فإذا شرفت نفس امرئ بالقناعة وعزة كمال الخلق لم يكن الفقر نقصًا فيه، كما قيل:

وَالْفَقْرُ فِي النَّفْسِ لَا فِي المَالِ تَحْسِبُهُ

وَمِثْلُ ذَاكَ الْغِنَى فِي النَّفْسِ لَا المَالِ (1)

وهناك حالة أعجب من ذلك كله، وهي حالة ما إذا تعطلت مسببات الأسباب فتصبح تلك الأسباب معدودة من النقائص لتخلف حصول (أسبابها) مع

(1) البيت للخليل بن أحمد الفراهيدي، وله قصة لعله من المناسب ذكرها ها هنا. كان للخليل راتبٌ على سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي وكان والي فارس والأهواز، فكتب إليه يستدعيه، فكتب الخليل جوابه:

أَبْلِغْ سُلَيْمَانَ أَنِّي عَنْهُ فِي سَعَةٍ

وَفِي غِنًى غَيْرَ أَنِّي لَسْتُ ذَا مَالِ

شُحًّا بِنَفْسِيَ أَنِّي لَا أَرَى أَحَدًا

يَمُوتُ هُزْلًا وَلَا يَبْقَى عَلَى حَالِ

الرِّزْقُ عَنْ قَدَرٍ لَا الضَّعْفُ يَنْقُصُهُ

وَلَا يَزِيدُكَ فِيهِ حَوْلُ مُحْتَالِ

وَالْفَقْرُ فِي النَّفْسِ لَا فِي المَالِ نَعْرِفُهُ

وَمِثْلُ ذَاك الْغِنَى فِي النَّفْسِ لَا المَالِ

فقطع عنه سليمان الراتب فقال الخليل:

إِنَّ الَّذِي شَقَّ فَمِي ضَامِنٌ

لِلرِّزْقِ حَتَّى يَتَوَفَّانِي

حَرَمْتَنِي خَيْرًا قَلِيلًا فَمَا

زَادَكَ فِي مَالِكَ حِرْمَانِي

فبلغت سليمان فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، وأضعف راتبه، فقال الخليل:

وَزَلَّةٍ يُكْثِرُ الشَّيْطَانُ إِنْ ذُكرت

مِنْهَا التَّعَجُّبَ جَاءَتْ مِنْ سُلَيْمَانَا

لَا تَعْجَبَنَّ لِخَيْرٍ زَلَّ عَنْ يَدِهِ

فَالْكَوْكَبُ النَّحْسُ يَسقِي الأَرْضَ أَحْيَانَا

ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 2، ص 245 - 246.

ص: 608

قيام داعي اللائمة والعذل على وجودها مع تخلّف آثارها، كما قال أبو الطيب:

وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِهِ

مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ (1)

فتحقَّقَ أن الأسبابَ لا قيمةَ لها إلا بمقدار ما يحصل من آثارها أو يتعطل منها. ومن أجل هذا، نجد أن كمالاتٍ في بعض الموجودات تُعدُّ نقائصَ في غيرها، فكثرةُ الأكل محمودة في الخيل وهي مذمومة في الإنسان، ووجود الجوارح كمال فينا؛ لأن انعدام شيء منها يُكسبنا عجزًا عن بعض الكمالات، والله تعالى منزه عن الجوارح؛ لأن ما تقصد له الجوارح ثابت لله تعالى بذاته بدون واسطة، فتمحضت في جانب الله لأن يكون تقدير اتصافه بها تعالى الله عن ذلك نقصًا، إذ لم يبق لها من الآثار حينئذ إلا ما فيها من الاحتياج والنقص. وكذلك الولد كمال للإنسان؛ لأنهم سبب الاعتزاز بهم والانتفاع بهم مع أن نسبة الولد إلى الله تعالى نسبة نقصية لثبوت الغنى المطلق له تعالى، فتمحض الولد بتلك النسبة للكون نقصًا لما يحف به من نقيصة الاحتياج إلى التوليد والمشاركة في صفة الألوهية.

فكذلك صفة الأمية تعد في العرف نقصًا في الناس؛ لأنها تحول بين المتصف بها وبين انكشاف حقائق الأشياء له، إذ قد استقر ناموس العادة أن العلم لا يحصل إلا بالتعلم، فالأمِّيُّ بحكم العادة غير واصل إلى العلميات التي بها انكشاف حقائق الأشياء الذي يعقبه اجتناء فوائدها والتمكن من استعمالها فيما تُراد له. وقد يحصل للأمِّيِّ معارف قليلة بالتلقين أو التجربة أو بمخالطة أهل العلم، إلا أن ذلك حظ ضئيل مبعثر ينقرض في تحصيله معظمُ العمر، وهو على ضآلته قابلٌ للتشكك عند أدنى تشكيك، فلا يحصل به الكمال العلمي الحقيقي ولا لذة المعرفة والاطلاع، ولا يُكسب

(1) البيت من قصيدة قالها المتنبي في مدح علي بن أحمد عامر الأنطاكي. ومعناه أن مَنْ يجمع المالَ خوف الفقر فإن ذلك هو الفقر حقيقة؛ لأنه إذا جمع حُرم، والحرمان فقر. وقال الخطيب القزويني معناه: إذا أفنيت عمرك في جمع المال ولم تنفقه، فقد مضى عمرك في الفقر، فمتى يكون غناك؟ وقال العكبري: وهذا البيت من أحسن الكلام وبديعه، وهو من كلام الحكمة. ديوان المتنبي بشرح البرقوقي، ج 2، ص 255.

ص: 609

صاحبه الشجاعة الأدبية في علومه، كما قال تعالى في أهل الكتاب:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)} [البقرة: 78]. فإذا حصل للأمِّيِّ من الانكشافات والعلوم كا جاءه من لدن وحيٍ إلهي غيرِ محتمِلٍ للخطأ في كل نواحي المعرفة التي بُعث لأجلها والتي تتوق نفسُه لعلمها تبعًا لأصلها، فكان على بينة من أمره ويقين من علمه ثابتًا على بثه:{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام: 57].

فقد حصل له من العلم أوثق وأسمى مما يحصل للمتعلمين غير الأميين، ففي تلك الحالة لا تكون أمية ذلك الأمِّيِّ نقصًا، وهو في هذه الحالة وإن ساوى المتعلم في كثير من المعارف، فقد فاقه بكون المعاني الحاصلة له غير معرضة للشك والاختلاف وبظهور كرامته عند الله تعالى إذ خصه بمزية العلم مع الأمية لتكون آية عند أمة الدعوة من الأميين إذ جاءهم بما لا قبل لأفضل عقلائهم بنواله، ومن غير الأميين إذ أوتِيَ من علوم دينهم ما يُعد تحصيله بينهم عزيز الوقوع في خاصة أحبارهم مع ما يزيد من علوم لا قبل لهم بتحصيلها.

وقد تكون معجزةُ الأمية عند غير الأميين أعجبَ وأوضح؛ لأنهم كانوا يُزهون على الأميين ويعدونهم أحطَّ منهم، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، حتى شاع هذا في العرب، فقد ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله لما قال لابن صياد (1) في المدينة: أتشهد أني رسول الله؟ قال ابن صياد: أشهد إنك رسول الأميين". (2)

(1) ابن صياد رجل من اليهود، وقيل هو دخيل فيهم، اسمه صاف. كان قد ناهز الحلم في زمن دخول رسول الله عليه السلام المدينة، وكان ينتحل ضربًا من الكهانة ويدعي أنه يستطلع الضمائر. وقد حسب المسلمون أنه الدجال، ورام عمر بن الخطاب قتله، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله. وفُقد يوم الحرة في المدينة في خلافة يزيد بن معاوية. - المصنف.

(2)

جزء من حديث عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن عمر انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط قبل ابن صياد، حتى وجدوه يلعب مع الصبيان، عند أطم بني مغالة، وقد قارب ابن صياد الحلم، فلم يشعر حتى ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال لابن صياد: "تشهد أني رسول الله؟ "، فنظر إليه ابن صياد فقال: =

ص: 610

اختار الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم صفةَ الأمية إظهارًا لصدق نبوته الكاملة الطافحة بأبلغ الحكم، وأنفع القوانين، وأصدق المعارف. فإن مجيئه بذلك الحق الباهر، وثقته بصحة ما جاء به، ودفاعه عنه، ومجادلته معانديه فيه، ومباهلته إياهم، وإقامة الحجج القاطعة عليهم، كانَ أظهرَ ما جاء به رسولٌ من عند الله. ولقد يكون في بعض المعجزات مقنعٌ للناظر والسامع بصدق ما جاء به.

ولكن الله تعالى لما جعله أفضلَ الأنبياء أراد أن تكون معجزةُ رسالته أوضحَ المعجزات وأجلاها فائدة بمعجزة باقية مستمرة لكل زمان، وجعلها قائمةً بذاته وبنفسه الشريفة. تلك هي معجزةُ القرآن التي نوه بها قولُه عليه السلام في الحديث الصحيح:"ما من الأنبياء نبي إلا أُوتِي من الآيات ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"، (1) وجعل معجزةَ الأمية مكمِّلةً لمعجزة القرآن ومؤسِّسةً لمعجزة الشريعة، فمن أين لأمي أن يأتي بمثل ما أتى به محمد عليه السلام لولا أن ما أتى به وحي من الله عز وجل؟ ولذلك قال الله تعالى:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، قيل الضمير المضاف إليه مثل عائدٌ إلى قوله:"عبدنا"، المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، أي: ائتوا بسورة من رجل مثل محمد في كونه بشرًا أميًّا لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم.

إعجاز القرآن من جهتين: جهة لفظه، وجهة معانيه. فإعجازه من جهة اللفظ ببلاغته وفصاحته اللتين أعجزتا فصحاء العرب وبلغاءهم عن معارضته، وهذه

= أشهد أنك رسول الأميين. فقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه وقال: "آمنت بالله وبرسله"، فقال له:"ماذا ترى؟ . قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خُلِّط عليك الأمر". ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إني قد خبأت لك خبيئًا"، فقال ابن صياد: هو الدخ، فقال: "اخسأ، فلن تعدو قدرك". فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله"". صحيح البخاري، "كتاب الجنائز"، الحديث 1354، ص 216.

(1)

صحيح البخاري، "كتاب فضائل القرآن"، الحديث 4981، ص 893؛ "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة"، الحديث 7274، ص 1252.

ص: 611

الجهةُ أهم جهتي إعجازه لعامة العرب الذين لا يحيطون بعجائب ما حواه القرآن من العلوم، وغير العرب يثبت لديه الإعجاز من هذه الجهة بضرورة عجز العرب عن معارضته. (1)

وإعجازه من جهة معانيه هو:

1 -

بما تضمنه من أخبار الرسل والأمم مما لا يعلمه إلا أحبار أهل الكتاب: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)} [الشعراء: 197].

2 -

بما تضمنه من الحكمة السامية والقوانين الصالحة.

3 -

الحقائق العلمية الجليلة أو الحقائق التي تبينت للناس بعد أن دلهم العلم عليها وشهد العلماء بها.

4 -

الحقائق التي سيشهد بها في مقتبل الأزمان: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53].

فالقرآن في الجهة الأولى من جهتي إعجازه يشابه بلاغةَ أشعر شعرائهم الذين بلغ كلامُهم ما يقرب من حدِّ الإعجاز، بقطع النظر عن أسلوب القرآن الخاص به مما لا يسع هذا المجال للخوض فيه. (2) وهو في الجهة الثانية من جهتي الإعجاز يشبه أقوالَ حكماء الأمم العالمة ومشرعيهم وعلمائهم مما لم يكن للعرب عهد بمثله.

ولقد أراد الله تعالى أن يجعل لرسوله برهانًا على أن القرآن منزَّلٌ إليه من الله فبرَّأ رسوله من صناعة الشعر وفنونه، فتم بتلك البراءة دليل خرق القرآن للعادة من

(1) انظر تفصيل المؤلف في ذلك في: تفسير التحرير والتنوير، ج 1، ص 102 - 120 (المقدمة العاشرة).

(2)

انظر تفصيل المؤلف في ذلك تحت عنوان "مبتكرات القرآن" في: تفسير التحرير والتنوير، ج 1، ص 120 - 130 (المقدمة العاشرة).

ص: 612

جهة الإعجاز الأولَى، وقد شهد أعلم العرب بالشعر بأن القرآن ليس في شيء من الشعر. وجعل الرسولَ أُمِّيًّا لتقوم الحجة بأميته على أن ما حواه القرآن من العلوم والحكمة والقوانين التشريعية ما هو إلا وحيٌ من الله، ويلتحق بالقرآن في هذه الجهة من الإعجاز كلُّ ما صدر عن رسول الله من قول وفعل مما هو هدى محض. فتم بالأمية دليلُ خرق القرآن للعادة من جهة الإعجاز الثانية.

ومن أجل كون الإعجاز الحاصل بالقرآن حاصلًا معظمه للعرب، كان التحدي بإعجازه من الجهة الأولى أكثر وأسير، وإلا ففي القرآن إعجاز معنوي كثير وفي كل أقوال الرسول وهديه إعجاز عظيم بعد تقرر الأمية.

لو شاء المحتج لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على حجة دلالة معجزة الأمية لكفته. ولذلك لم يهمل المعاندون من المشركين أن يطعنوا في معجزة القرآن فاختلقوا معاذير باردة فقالوا إن ما جاء به من القرآن إنما تلقاه من بعض الناس، حكى الله ذلك عنهم بقوله:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل: 103].

ذلك أنهم قالوا: إنه تلقى عن غلام رومي اسمه يعيش، وقيل: بلعام، وقيل: جبر، وقيل: يسار كان عبدًا لحويطب بن عبد العزيز، وكان صيقلًا للسيوف بمكة، وكان رسول الله يجلس إليه بمكة والناس معه وهو أعجمي اللسان غير معدود من أهل العلم، ولكن الناس مولعون بكل غريب. وقالوا: إن الرسول تلقى من سلمان الفارسي، وسلمان إنما ورد بعد الهجرة وأسلم في المدينة بعد أن نزل كثير من القرآن. فأما الغلام الرومي فقد أسلم بمكة، وكان يتلقى الدين عن رسول الله، وسلمان أسلم بالمدينة واهتدى بهدى الإسلام، ولو كانا كما يختلق الملحدون لكانا أولى أن يكونا هما القدوة للناس. (1)

(1) راجع تفاصيل تلك المخاريق فيما جاء في مناسبة نزول الآية في كتب التفسير وكتب أسباب النزول.

ص: 613

على أن كلا الرجلين أعجمي، والقرآن كتابٌ عربي مبين. فالطعنُ بهما من الجهة الأولى لإعجاز القرآن طعن واضح السخافة، إذ كيف يأتي رجل دخيل في العربية بمثل تلك البلاغة؟ والطعن بهما من جهة معاني القرآن وعلومه طعن باطل، إذ كيف يبين أعجميُّ اللسان من العلوم والشرائع مثل ما تضمنه القرآن وهي معان عالية تحتاج إلى فصاحة تقرير كشأن تقرير المعاني الدقيقة، فقوله تعالى:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103]، ردٌّ للطعن بحذافره لا لخصوص الطعن من جهة فصاحة القرآن وبلاغته، وإن اقتصر المفسرون على تفسيره بما يقصره على الطعن طعنهم من جهة لفظ القرآن خاصة. وأما قوله تعالى عقب ذلك:{وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} ، فهو ارتقاء في بيان علو القرآن في ذروة الفصاحة والبلاغة واقع موقع العِلاوة السابق، والله أعلم.

وقالوا في معاذيرهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} [الفرقان: 5]، وقد رد الله ذلك عليهم بقوله في أخرى:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49]. فيؤخذ منه نفيُ أن تكون أساطيرُ الأولين محفوظةً بمكة، إذ لو كانت كذلك لكان لرسول الله شريكٌ في علمها، ولكان لرسول الله سابقيةُ إلمامٍ ببعضها من قبل، فلذلك كان قولُه تعالى:{مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} ، حجتَنا لاختلاقهم (1) من جذوره. وقال الله تعالى:{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)} [يونس: 16]، فقد ظهرت الحجةُ ولاحت المحجة.

هذا واختلف علماء الإسلام في الأمية: أدائمةٌ هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدةَ حياته كلها أو في أحيان منها؟ فالجمهور من العلماء قالوا: إن الأمية وصفٌ لا يتخلف عن

(1) كذا في المطبوع، ولم نتمكن من مقابلته بالأصل (ولا نعلم إن كان ما يزال محفوظًا). ويبدو في الكلام سقط بمقدار كلمة، ولعله يستقيم هكذا:"لنزع (أو لنسف) اختلاقهم من جذوره".

ص: 614

رسول الله؛ لأن الله جعلها معجزةً له فلا تفارقه، كأنهم ينظرون إلى قول الحكمة:"ما بالذات لا يتخلف ولا يختلف". وقالت طائفة من العلماء إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب، فقيل بمعنى علمه الله الكتابة، وقيل: بمعنى جرى القلمُ في يده. ونُسب هذا إلى الشعبي وعون بن عبد الله ومجاهد، وبه قال أبو ذر الهروي وأبو جعفر السمناني وتلميذهما أبو الوليد الباجي الأندلسي، ومال إليه عياض في الإكمال. (1)

واحتجوا لذلك بما وقع في صحيح البخاري في باب عمرة القضاء من حديث أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب "أن علي بن أبي طالب لَمَّا كتب صلح القضية بين رسول الله وقريش كتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل بن عمرو (سفير قريش): لو نعلم أنك رسولُ الله ما منعناك شيئًا، ولكن أنت محمد بن عبد الله، فقال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال لعلي: امحُ رسول الله، فقال علي: لا والله لا أمحوك (أو لا أمحاه) أبدًا، فأخذ رسول الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله"، الحديث. (2) ورواه النسائي وأحمد بن حنبل بمثل ما في صحيح البخاري، (3) وهو أيضًا في صحيح مسلم من حديث أبي إسحاق بلفظ:"فقال رسول الله لعلي: "أرنِي مكانَها"، فأراه مكانها فمحاه، وكتب: ابن عبد الله". (4)

(1) سيأتي كلام القاضي عياض بعد قليل.

(2)

أورد المصنف الحديث بتصرف. صحيح البخاري، "كتاب المغازي"، الحديث 4251، ص 720.

(3)

النسائي، عبد الرحمن أحمد بن شعيب: كتاب السنن الكبرى، تحقيق حسن عبد المنعم شلبي (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1421/ 2001)، "كتاب"، الحديث 8525، ج 7، ص 482 - 483؛ ابن حنبل، أحمد: مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق جماعة من العلماء بإشراف شعيب الأرنؤوط وعبد الله بن عبد المحسن التركي (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1416/ 1995)، الحديث 3187، ج 5، ص 263.

(4)

صحيح مسلم، "كتاب الجهاد والسير"، الحديث 1783/ 92، ص 711.

ص: 615

قال عياض في الإكمال: وظاهرُ قوله في الحديث: ولا يحسن أن يكتب فكتب محمد بن عبد الله، كالنص في أنه هو بنفسه كتب، والعدول إلى غيره تجوُّزٌ في الكلام وحملٌ على ما لا يُفهم منه لغير ضرورة، ولا يقدح هذا في كونه أمِّيًّا إذ ليست المعجزة مجرد كونه أمِّيًّا، وإنما المعجزة أن كان في أول الأمر كذلك ثم جاء بعلوم لا يعلمها الأميون. فكما جعله الله يقرأ ما لم يكن يقرأ من قبل ويتلو ما لم يكن يتلو، فكذلك علمه أن يكتب ما لم يكتب، وإنما قال الله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]، أي من قبل نزول القرآن. فعلمه أن يكتب ويخط بعد النبوة، (1) أي فتحصل له معجزتان مع اختلاف الزمان فلا تعارضَ بينهما، خلافًا لِما توهمه السهيلي في الروض الأنف. (2)

قال عياض في المدارك: "ولمَّا ألف أبو الوليد رسالتَه المسماة بتحقيق المذهب من أن النبي كتب، وكان أصلُ ذلك أنه قُرئ عليه بدانية في صحيح البخاري حديثُ المقاضاة فمر في حديث إسرائيل، فتكلم أبو الوليد على الحديث وذكر قول مَنْ قال بظاهر هذا اللفظ، فأنكره عليه ابن الصائغ وكفره بإجازته الكتابة على النبي الأمي، وأن هذا تكذيب للقرآن وأعلى ما حمل من أشياعه في الإنكار والشناعة، وقبحوا عند العامة ما أتى به، وأكثر القالة فيه مَنْ لم يفهم غرضه، حتى أطلق عليه اللعنة غلاتهم وضمنوا البراءة منها أشعارهم، وحتى قام بذلك بعضُ خطبائهم، وفي ذلك يقول عبد الله بن هند الشاعر:

بَرِئْتُ مِمَّنْ شَرَى دُنْيَا بِآخِرَةٍ

وَقَالَ إِنَّ رَسُولَ الله قَدْ كَتَبَا

(1) ساق المصنف كلام عياض بتصرف زيادة وحذفًا، وهذا هو قول مَنْ جوز أن يكون الرسول عليه السلام قد كتب، ومنهم الباجي. اليحصبي: إكمال المعلم، ج 6، ص 151 - 152.

(2)

السهيلي: الروض الأنف، ج 6، ص 485 - 486.

ص: 616

فألف هذا الكتاب وبين فيه وجوه المسألة لِمَن لم يفهمها وأنها لا تقدح في المعجزة كما لم تقدح القراءة في ذلك بعد أن لَم يكن قارئًا، بل في هذا معجزة أخرى. . . ولم يُنكر عليه أولو التحقيق في العلم والمعرفة بأسراره وخفاياه، وكتب بالمسألة إلى شيوخ صقلية وغيرها فأنكروا إنكارَهم عليه وأثنوا عليه وسوغوا تأويله، منهم ابن الجزار ممن ذكرنا ثناءه عليه". (1)

(1) اليحصبي: ترتيب المدارك، ج 3، ص 805 - 806.

ص: 617