الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لحوق الأوراق النقدية بأصناف الزكاة
(1)
أما بعد، حمدًا لله على ما شرع من سننه وأحكامه، وقيض للفقه في الدين من جهابذةِ أعلامه، وكشف لهم مشكلَ المعاني مسفرًا عن لثامه، والصلاة والسلام على رسوله غيث الكون المخمد لقتامه، والمقرب دين الفطرة على أطراف تمامه، وعلى آله وأصحابه الواقفين عند حدوده، المتسمين باتسامه،
فقد كثر في أندية أهل العلم دورانُ الكلام على إجراء الزكاة في الأوراق المالية، وكثر التردُّدُ في إلْحاقها بالأصناف المزكاة أو المعفاة، فتوقف كثيرٌ من الطائفة العلمية في محصولها بإلحاق فروعها بأصولها. وقد تقدم إلينا بعضُ الأصحاب والأبناء الأنجاب في أن نكتب في ذلك ما قررناه لهم غيرَ مرة، فوجب أن نقيِّد لهم ما أحاط به العلم، وبلغ إليه الفهم.
وقد كتبنا في تفريع ذلك ما فيه مقنعٌ لِمَنْ يروم الوقوفَ عند القواعد المسلَّمة في كتب الفروع، ونشر ذلك بجريدة "الوزير" الغراء. (2) وبقيت لنا لمحةٌ شطرَ مقصد الشريعة من الزكاة، أردنا أن نقدمها أيضًا لأهل النظر حتى ينبجس لكلا الفريقين شِرْبٌ محتضر، فنقول:
(1) مجلة الفجر، لصاحبها أحمد الصافي، المجلد الأول، العدد الحادي عشر، تونس: رمضان 1339/ 1921 (ص 603 - 609). حرر المصنف هذا التقرير جوابًا على سؤال: "هل تلحق الأوراق المالية بالأصناف المزكاة أو المعفاة من الزكاة؟ "(وقد نقلنا نصه عن التوزري العباسي: الفتاوى التونسية، ج 2، ص 637 - 645).
(2)
جريدة الوزير، العدد الخامس والعشرون، ربيع الثاني 1339/ 1920.
لا شك أن لهذه الحوادث المكانَ الأسمى لدى علماء الفقه في الدين، لأن عبء الخطأ فيها محمولٌ على عواتقهم. كيف وقد أُودعت لديهم أمانةُ حفظ الدين وفهمه ليؤدوها في أمثال هذه الأحوال؟ ! وهل يظهر مصداقُ كونِ الشريعة الإسلامية صالحةً لكل زمان ومكان إلا لما تستنبطه أفهامُ علمائها؟
فإن الفقيه في الدين هو أحقُّ الناس بأن يكون عالِمًا بحاجات أهل زمانه ومصالحهم، والحريص على حفظ مقاصد الشريعة بتفصيل مجملاتها؛ لأن أسس الدين قد أحكمها الله تعالى يوم قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وتفاريع قواعد الأحكام قد كفانا مهمَّها الأئمة رضي الله عنهم، وتعذر أو كاد الالتحاقُ بشأوهم. غير أن هناك مقامًا لا مناصَ للعالم الفقيه من الثبات به، ألا وهو مقام الإلحاقُ المعبَّرُ عنه بتحقيق المناط، المعرَّفُ في أصول الفقه بأنه إثباتُ العلة في آحاد صورها، والمعبَّر عنه عند الفقهاء بتطبيق الكلية على الجزئية، وهو النوعُ من الاجتهاد الذي لا ينقطع ما دام دينُ الإسلام ودامت له علماؤه. (1)
ولقد اشترط الأصوليون في المجتهد أن يكون قد أحاط بمعظم قواعد الشرع ومارسها، بحيث اكتسب قوةً يفهم بها مقصودَ الشارع مما شرعه. ولا يخفى لزومُ اشتراط مقدار من هذا المعنى في الاجتهاد الصغير، أعني تحقيق المناط؛ لأن الأحكام متشابهة، ولا يكاد يميزها إلا مَنْ حصلت له تلك الملكةُ بمقدار الاستطاعة.
ولو أن أهلَ العلم اصطلحوا على الاجتماع عند حلول هذه المشكلات وتدارسوها وتفاهموا فيها، حتى يصير قولُهم فيها سواء، وكلمتهم واحدة، ثم أوقفوا الناسَ عند مرسى سفائن أفهامهم من بحار الشريعة، لكفُوا النَّاسَ همَّ الترداد وأغنوهم عن متابعة من يهيم في كل واد.
(1) راجع تفصيل ذلك في: الشاطبي: الموافقات، ج 2، ص 463 - 484 و 552 - 594.