الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عند شروطهم، إلا شرطًا أحلّ حرامًا أو حرَّم حلالًا"، (1) فأشار هذا الحديثُ إلى صنفيْ التحديدات، أعني التحديدات الجعلية الناشئة عن الوفاء بالشروط، والتحديدات الناشئة عن التعيينات الشرعية.
ألا ترى أن منعَ المكتري من التصرف في ذات المحل بالهدم والبناء ليس من الحجر، وأن منع الشريك من تغيير المحل المشترك بدون إذن شريكه ليس من الحجر، وأن اشتراطَ المقارض على عامل القراض ضمانَ الخسارة شرطٌ باطل ولو رضِيَ به العامل، ولا يُعدُّ ذلك حجرًا على المتقارضين، وأن اشتراطَ ربِّ الأرض على عامل المغارسة أن يبني جدارًا يسيج به البستان شرطٌ باطل ولو رضيا به، ولا يعد ذلك حجرًا عليهما؟
فمستحق الحبس بمثابة المكتري قد صار إليه حقُّ الانتفاع بريع العقار دون ملك ذاته على شروط مبينة يضعها المحبِّس، فإن رضي المحبَّس عليه بذلك التحبيس قبله، وإلا فليرجعه إلى ربه.
هل في الوقف مصلحة أو مفسدة
؟
المصلحة ما فيه الصلاح العام أو الخاص، والمفسدة ما فيه الفساد أي الضرر العام أو الخاص. فكون الفعل مصلحة أو مفسدة له معنيان:
أحدهما: أن يترتب عليه صلاح خالص أو فساد خالص، أي فيه صلاح حيثما وقع، كالإيمان بالله والرسول، وحماية بيضة الإسلام، ويكون فيه فساد حيثما وقع كالشرك بالله، وتكذيب الرسول عليه السلام، وإهلاك الحرث والنسل.
(1) رواه الترمذي بلفظ: "الصُّلحُ جائزٌ بينَ المسلمينَ، إلَّا صُلحًا حرَّمَ حَلالًا أو أحلَّ حَرامًا، والمسلمونَ على شُروطهِم، إلَّا شَرطًا حرَّمَ حَلالًا أو أحلَّ حراما"، وقال:"هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيح". سنن الترمذي، "كتابُ الأحكام"، الحديث 1352، ص 347؛ وقريب منه رواية الحاكم: المستدرك، "كتاب الأحكام"، الحديث 7138، ج 4، ص 201.
وثانيهما: أن يترتب عليه صلاح مخلوط بالفساد، أو فساد مخلوط بصلاح، للخصوص أو العموم. والأقسام كثيرة، أمثلتهما غير عسيرة كإحراق عمر بيت رويشد الثقفي الذي جعله مأوى للدعارة، فذلك صلاحٌ مخلوطٌ بإفساد مال ينتفع به الناس. وكشرب الخمر والمقامرة، فهما فسادٌ مخلوط بصلاح بشهادة قوله تعالى:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219].
والشرائعُ جاءت لجلب الصلاح ودفع الفساد، فقد حكى اللهُ عن بعض رسله قوله:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} [البقرة: 205]. وإذا تمحضت المصلحة أو المفسدة، فحكم الشريعة جلبُ المصلحة ودرء المفسدة بدون تردد، وإذا اختلطت المصلحةُ والمفسدة فحكمُ الشريعة اعتبارُ الأرجح من الأمرين استنباطًا من قوله تعالى:{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. وربما اعتبرت الشريعةُ جانبَ المفسدة وإن كانت مرجوحة، إذا كان رجحان المصلحة على المفسدة غيرَ قوي، ولذلك قال أئمة الأصول: درءُ المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح. (1)
ثم المصلحة والمفسدة قد تكونان ذاتيتين للفعل، وقد تعرضان للفعل عروضًا. فإن كانتا ذاتيتين، كان للفعل حكمٌ مستمر مناسب لِمَا فيه من قوة المصلحة أو المفسدة، فيكون الفعل ركنًا من الدين أو واجبًا أو مندوبًا، ويكون بالعكس كبيرةً أو
(1) هذه قاعدة عظيمة من قواعد الفقه الإسلامي، تندرج تحت القاعدة الأم المنصوصة في السنة بقوله عليه السلام:"لا ضرر ولا ضرار"، وهي تكشف من خلال تطبيقاتها وما يندرج تحتها من فروع كثيرة عن مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، ألا وهو منع الفعل الضار في جميع صوره؛ قبل وقوعه احترازًا، ومعالجة أثره بعد وقوعه إزالة ودفعًا. وقد عبر العز بن عبد السلام عن هذه القاعدة بقوله:"حفظُ الموجود أولَى من تحصيل المفقود، ودفع الضرر أولَى من جلب النفع". القواعد الكبرى، ج 1، ص 113. كما يُعبَّرُ عنها بعبارة "درء المفاسد أولى من جلب المصالح". انظر: وانظر الزرقا: شرح القواعد الفقهية، ص 205 - 206؛ وانظر بشأن مصادرها في كتب الفقهاء والأصوليين: الندوي: جمهرة القواعد الفقهية، ج 2، ص 733 (القاعدة رقم 891).
حرامًا أو مكروهًا. وإن كانت المصلحة أو المفسدة عارضتين لفعل في بعض الأوقات كان الفعل ذريعة، فيأخذ حكمًا عارضًا مناسبًا لعروض المصلحة أو المفسدة له، وذلك هو الأصل المسمى في أصولنا بسد الذريعة، أي ذريعة الفساد.
والذي استقر عليه أمرُ العلماء أن الذريعةَ إن غلب إفضاؤها إلى الفساد وجب سدُّها، كما عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجديد الكعبة على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة:"لولا حدثانُ قومك بكفر، لبنيتُ الكعبةَ على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين". (1) وإن ندر إفضاؤها إلى الفساد أُلغيت ولا تسد، كما ألغى الشرعُ ذريعةَ زراعة العنب إلى عصره خمرًا، وألغى ذريعةَ حفر الآبار إلى ما قد يسقط فيها من إنسان أو حيوان لندرة وقوع ذلك.
فالحبسُ في حد ذاته - أي: بقطع النظر عما يعرض له من مقاصد المحبسين السيئة - هو مصلحةٌ واضحة، لِمَا فيه من الصلة، وإحداث المودة بين المعطي والمعطى، وإغاثة الملهوف، وإغناء المحتاج، وإقامة كثير من مصالح المسلمين، وتسديد ضرورياتهم العامة. فقد أغنت الأحباسُ خيرَ غناءٍ عن المسلمين في عصور كثيرة، لا سيما العصور التي أساء فيها ولاةُ الأمور التصرفَ في أموال بيت المال وبذورها وأفقروا بيت المال.
فلولا أن وجد المسلمون في تلك الأحوال أوقافَ أسلافهم على إقامة مصالحهم فسددوا بها ضرورياتهم، للحق بهم ضررٌ كثير وفساد كبير. وقد أظهر
(1) لم أجده بهذا اللفظ، وإنما رويَ عن عائشة أنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا حداثة قومك بالكفر لنقضتُ البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإن قريشًا استقصرتْ بناءه وجعلتْ له خلفًا"". صحيح البخاري، "كتاب الحج"، الحديث 1585، ص 257؛ صحيح مسلم، "كتاب الحج"، الحديث 1333، ص 496، ولفظ مسلم: "لولا حداثة قومك بالكفر لنقضتُ البيت، ثم لبنيته على أساس إبراهيم - فإن قريشًا حين بنت البيت استقصرتْ - ولجعلتُ لها خلفًا"".
المسلمون في العصور المظلمة إعراضًا عن الوقوف بأبواب أُناسٍ لا يَعبؤون بمصالحهم، ولا يعدون العدد لنوائبهم، وكرمًا عن مناقشتهم الحساب فيما جالت فيه أيديهم، فاعتبروا بيت المال كالمعدوم، وانبرى أهلُ الفضل منهم لإقامة مصالح العموم. وذلك مما يسجله لهم التاريخُ في مقام السخاء والشمم، والصبر على الأذى، واجتناب أسباب الفتنة والثورة وشق العصا.
فإذا نظرنا إلى الحبس باعتبار ما يعرض له من المقاصد السيئة نجده أنواعًا:
الأول: الحبس على المصالح العامة، المسمى بالحبس العام وبالخيري، وهذا لا يُتَّهمُ فاعلُه على قصد حرمان الوارث، ولا على تغيير المواريث.
الثاني: الحبس على نوع معين من الأجانب عن المحبس، وهذا قريب من الأول.
الثالث: الحبس على بعض الأبناء دون بعض، أو على شروط تخالف الفريضة، كاشتراط التَّأَيُّم في استحقاق الأنثى من البنات، واشتراط أن يكون الذكرُ والأنثى سواء. وهذا قد يُتَّهم فاعلُه بأنه تذَرَّع به إلى تغيير أحكام الميراث، فعاجل بإعطاء ماله لورثته على مقادير مخالفة لما يأخذونه لو مات. وهذه التهمة غير ملتفت إليها شرعًا؛ لأن تحويز العطية في حياته وصحته ينفي عنه قصدَ تغيير الميراث، إلا أناسًا لهم حالاتٌ نادرة لا يُلتفت إليها في التشريع. فليس الحبس مما اشتمل في ذاته على مفسدة معتبرة شرعًا؛ لأنه لو كان مشتملًا على مفسدة في ذاته لما أباحه الإسلام وندب إليه.
فبقي علينا أن ننظر هل طرأت على الحبس عوارضُ في عصرنا جعلته مشتملًا على مفسدة؟ وقد ادعى الفاضل المقترح أن الوقف مشتملٌ على مفاسد. ونحن لا نتكلم على المفاسد التي يؤذن كلامه باعتبارها ذاتية للوقف، مثل كون الوقف حجرًا على المستحق، وحجرًا للعقار الموقوف؛ لأن تلك الصفات ثابتة للوقف من وقت مشروعيته. وقد ألغتها الشريعة، فدل إلغاؤها على أن ما يُتخيل فيها من مفسدة الحجر أمرٌ وهمي، وقد أشرنا إلى إبطاله في كلامنا آنفا. وإنما نتكلم على ما يُشعر به
كلامُه من المفاسد الطارئة على الأوقاف، وهي اضطرابُ هناء عيش مستحقيه، وتجزئة ريع الوقف أجزاء صغيرة، وكثرة الخصومات بين المستحقين، وإجبار المرء على البقاء في الإشاعة، ومخالفة الفرائض الشرعية، ليس كمن يدير لحساب نفسه.
فأما اضطرابُ هناءِ عيش المستحقين للوقف فقد استَدَلَّ عليه بكثرة الأموال المحجوزة تحت يد وزارة الأوقاف عن مستحقي الأوقاف في مصر في سنين حتى بلغت في عام 1327 هـ إلى مليون جنيه. ولم أدر مرادَه بهذا: هل كان هذا الحجز لأجل مطالب على المستحقين؟ فإذا كان كذلك، فكم على الأملاك من عقلة ومن حجز، ولولا أن تلك العقارات وقفٌ لبيعت على المدينين، إذ لا فرقَ بين تداين مالك الرقبة وتداين مالك المنفعة. وإن كان لأجل غيبة بعض المستحقين، فذلك حفظٌ لأموالهم. وعلى كل تقدير لا يستطيع أحدٌ أن يظهِرَ فرقًا من هذه الناحية بين ما يعرض لمالك رقاب العقار وبين ما يعرض لمستحق ريع الوقف.
وأما تجزئةُ الوقف أجزاء، فذاك في أوقاف قليلة، وهي الأوقاف التي ليس فيها ترتيب الطبقات. أما معظم الأوقاف فهي جاريةٌ على شرط ترتيب الطبقات، بمعنى أن الأبناء لا تدخل مع الآباء، وأن مَنْ مات عن أبناء خلفوه في حظه من الوقف. فهذا النوعُ لا يرد عليه المصيرُ إلى أجزاء صغيرة. على أن النوع الآخر - وهو الوقف على الذرية كلهم - لا يخلو عن فائدة؛ لأنه يحصل من أنصباء مجموع أفراد العائلة الواحدة مالٌ له بال.
وأما تصرفُ الناظرين، فهذا خللٌ يمكن تلافيه بأن لا تجعل على الأوقاف نظارٌ إلا في الأحباس الخيرية، أعني العامة، وفي صورة ما إذا أساء المستحقون التصرفَ في الوقف بالإهمال أو إرادة إبطال الوقفية، وفيما إذا اشترط الواقف إسناد وقفه لنظر مَنْ عيَّنه بالشخص أو بالوصف.
وأما الأحباسُ الأهلية فللمستحقين التصرفُ بأنفسهم، أو بإقامة وكلاء عليهم. وذلك هو مقتضى المذهب المالكي، خلافًا للمذهب الحنفي الذي يرى