الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويُعبَّر عن هذا النفوذ بأنه حكم على الكافّة، أي أنه لا يقتصر على المضيِّ عليه (أي ولا على مجرد ثبوت الحق للمقضِىِّ له، إن لم يكن له خصم ولا منازع)، بل يتعدى إلى كافة الناس (ممن يريد معارضةَ ذلك الثبوت)(1)
والمراد بالغائب مَنْ لم يخاصم في النازلة المقضي فيها أصلًا، أو لم يحضر عند صدور الحكم من القاضي. وفسروه بأنه مَنْ ثبتت غيبتُه بالبينة، سواء كان غائبًا وقت إقامة الشهادة أو بعدها وبعد التزكية، وسواء كان غائبًا عن المجلس أو عن البلد. وأما إذا أقر عند القاضي، فإنه يقضى عليه وهو غائب؛ لأن له أن يطعن في البينة، وليس له أن يطعَنَ في الإقرار عند القاضي. (2)
القضاء بالقرعة في النسب وغيره:
48 -
لا تُعمل القرعة (3) في إثبات النسب بحال عند أبي حنيفة؛ (4) إذ لا تكون القرعة طريقًا لاستحقاق حق. وقد رُويَ أن عليًّا حين كان باليمن قضى بالقرعة في إثبات النسب، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخْبِر بذلك فلم ينكره. وفي سند هذا الخبر متكلَّم. (5)
وإنما خُصت القُرعة بقسمة الرِّباع (6) بعد تعديل الأقسام وتقويمها، بقصد تطييب قلوب المتقاسمين، وليس الاستحقاق منوطًا بها؛ لأن استحقاق الشركاء
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم، المطبعة الحسينية بمصر 1322 هـ، ص 86 وص 103.
(2)
الدر المختار، ص 520 جزء 4.
(3)
القرعة - بضم القاف وسكون الراء - طريقة تعمل لتعيين ذاتٍ أو نصيبٍ من بين أمثاله إذا لم يمكن تعيينُه بحجة. ويقال لها السُّهمة (بوزن القرعة)، أو المساهمة، قال تعالى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]، مشتقة من السهم الذي يُرمى به؛ لأنهم كانوا يجرون القرعة بسهام على عدد المتقارعين عليها علامات يصطلحون على المراد بها.
(4)
نيل الأوطار للشوكاني، ص 213 جزء 6.
(5)
نيل الأوطار، ص 212 جزء 6؛ والخطابي على سنن أبي داود، ص 276 جزء 3.
(6)
ابن الفرس في أحكام القرآن في سورة آل عمران. (مخطوط). - المصنف. ابن الفرس الأندلسي، أبو محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم: أحكام القرآن، تحقيق طه علي بوسريح وزميليه (بيروت: دار ابن حزم، ط 1، 1427/ 2006)، ج 2، ص 17. - المحقق.
ثابتٌ قبل القسمة، ولذلك لو قسم القاضي بغير قرعة جاز. (1) ويجوز إعمالُ القرعة بالتراضي بين أصحاب الحق عند المشاحة، (2) أي فيما هو حق لهم خاصة.
في المالكي تُعمل القرعة في تمييز من يعتق من أبناء السيد من إمائه أمهات أولاده، إذا أقر بأن أحد أبنائهن ولده وتعذر استفسارُه، فيعتق مَنْ خرجت له القرعة. فإذا كان الأبناءُ أبناء أمة واحدة عُتق الأصغر وثلثَا الأوسط وثلثُ الأكبر وعتقت أمُّهم. (3) واعتُبرت عند مالك (4) والشافعي (5) وأحمد (6) في تعيين ما اشتبه من أبناء سادة الإماء لئلا يبقى الولد عبدًا تابعًا لأمه إذا جُهل أبوه؛ فإن الشريعة متشوفةٌ إلى الحرية. (7)
ويُعمل بالقرعة في السفر بإحدى نسائه، وفيمن أوصى بعتق عدة أعبد من ماله ولم يسع ثلثه عتق جميعهم. (8) وعد في التبصرة المواضع التي تعمل فيها القرعة اثنين وعشرين موضعًا (9) ولا يثبت بها نسب. (10)
في الشافعي (11) والحنبلي (12) موافق المالكي.
(1) شرح كنز الدقائق للزيلعي، ص 271 جزء 5.
(2)
أحكام القرآن للجصاص، ص 15 جزء 2.
(3)
عبد الباقي على مختصر خليل، ص 109 جزء 6.
(4)
عبد الباقي على مختصر خليل، ص 109 جزء 6.
(5)
نقله عن المغني، ص 336 جزء 5.
(6)
المغني، ص 336، وص 338 جزء 5.
(7)
راجع للمصنف كتاب: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 390 - 404. - المحقق.
(8)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، دار الكتب بالقاهرة، ص 125 جزء 10.
(9)
التبصرة لابن فرحون، ص 92 جزء 2.
(10)
عبد الباقي على مختصر خليل، ص 109 جزء 6.
(11)
المهذب للشيرازي، ص 335 وص 354 جزء 2.
(12)
نيل المآرب، ص 269 جزء 2؛ والروض المربع، ص 228 جزء 2.
49 -
فهذه تسعةُ طرق لثبوت النسب شرعًا وفاقًا وخلافًا، وهي متفاوتة في قوة الكشف عن الحق في نفس الأمر بحسب ما يستطاع بجهد الحاكم.
وهي على تفاوتها بريئةٌ عن الوَهَم والصُّنع باليد، إذ الأوهام مدحوضةٌ في اعتبار الشريعة الإسلامية. (1) فإذا لم يُستطع الوصول إلى إثبات النسب من أحد هذه الطرق اعتُبرت دعوى النسب ضائعة، وكانت مما يفصل فيه يوم القيامة.
50 -
فمن أجل هذا لم تُعتبر القرعة في إثبات النسب عند جمهور أهل العلم، (2) وألْغى الشارعُ ما كان قبل الإسلام من جَعْل التبني طريقًا نسبيًّا يوجب الإرث. (3) قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] الآيات، ونُسخ ما كان في صدر الإسلام من اعتبار التآخي طريقًا نَسَبِيًّا، وما كان من التوارث بالولاء بقوله تعالى:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]، نسخها قوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75 والأحزاب: 6].
وجُعل لبعض الأواصر بعضُ آثار النسب لا جميع آثاره، فالرضاعُ مِثْلُ النسب في تحريم التزوج، والولاء مِثْلُ النسب في أنه لا يُباع ولا يوهب، وأمومةُ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين مثلُ النسب في تحريم التزوج وفي وجوب البر.
وأخوةُ المسلمين بعضهم لبعض مثلُ النسب في وجوب البر والنصيحة، قال تعالى:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، وقال:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدُكم
(1) انظر [للمصنف] كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، [ص 52 - 74]، وكتاب مقاصد الشريعة الإسلامية [ص 251 - 258]. - المصنف.
(2)
نيل الأوطار، ص 213 جزء 6.
(3)
الجامع لأحكام للقرطبي، ص 166 جزء 5.
حتى يُحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه". (1) وليس لها حكم الأخوة بما عدا ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لما خطبه في ابنته عائشة: "أنت أخي [في دين الله وكتابه]، وهي حلال لي". (2) فهذه اعتباراتٌ لها بعضُ خصائص النسب شبهت به فيها، وليس لها حكمُ النسب باطراد.
(1) صحيح البخاري، "كتاب الإيمان"، الحديث 13، ص 5؛ صحيح مسلم، "كتاب الإيمان"، الحديث 45، ص 41. - المحقق.
(2)
صحيح البخاري، "كتاب النكاح"، الحديث 5081، ص 909. - المحقق.