الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيان وتأصيل وتحقيق لحكم البدعة والمنكر
(1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. هذا ما وعدتُ به في آخر جوابي عن سؤال قراءة القرآن على الجنازة من بيان وتأصيل. اعلم أن المُدرَك فيما حواه ذلك الجواب يتوقَّف على تحقيق معنى البدعة والمُحدَث والمنكر، وبيان أحكام هذه الأشياء في نظر الشريعة، إذ قد جرت هذه الألفاظُ في كلام الشارع في سياق الذم. وربما توهّم البعضُ أنها مترادفة، وتخيلوا أن ما ليس بسنة فهو منكَر، فتسمع بعضَهم يقول: إن هذا الفعل غير جائز، ثم يعلل عدمَ الجواز بأن ذلك مخالفٌ للسنة، أو يتعجب ممن يقول: إن هذا مخالفٌ للسنة مع أنه يقول: هو مندوب أو مباح أو مكروه.
فاعلم أنه قد روَى الترمذيُّ عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل بدعة ضلالة"، ورواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله. (2) وفي
(1) نشر منجمًا في جزءين في: الهداية الإسلامية، المجلد 8، الجزء 11، جمادى الأولى 1355 (ص 689 - 698)؛ الجزء 12، جمادى الآخرة 1355 (ص 743 - 753). وقد جاء هذا المقال تقفية لفتوى صدرت عن المصنف بخصوص قراءة القرآن على الجنازة، وهي منشورة في الفرع الثاني من هذا القسم مباشرة بعد هذا البحث.
(2)
جزء من حديث عن العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد صلاة الغداة موعظةً بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل: إن هذه موعظةُ مودع، فبماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدٌ حبشي، فإنه مَنْ يعِشْ منكم ير اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنها ضلالة. فمَنْ أدرك ذلك منكم، فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ"". سنن الترمذي، "أبواب =
حديث الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، (1) وقال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رأى منكم منكرًا فلْيُغيِّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، [وذلك أضعفُ الإيمان] ". (2)
فأما البدعة، فهي أشهرُ الألفاظ المترددة بين الناس في موضوعنا. وأصلُها في اللغة الأمر الجديد الذي لم يسبق بنظير، قال تعالى:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]. فالبدعة في الإسلام تكون إحداثَ شيء في أحوال المسلمين ليس له مساس بأمور الدين، وتكون إحداث شيء يمس أمور الدين. وقد راعى بعضُ علمائنا كلتا الحالتين، وهم الجمهور. وراعى بعضُهم الحالةَ الثانية، ومنهم النووي وأبو إسحاق الشاطبي. وإيفاءً بتقصِّي جذور المسألة، ينبغي شرحُ المعنيين ليكون البحث مستوفًى، وتكون (3) الحجة لنفوس المترددين أشفى.
فعلى رأي الفريق الأول عرف عز الدين ابن عبد السلام في كتاب "القواعد" البدعة فقال: "البدعة فعلُ ما لَم يُعْهدْ في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم"(4) وعلى رأي الفريق
= العلم"، الحديث 2676، ص 629 - 630، سُنَنُ أبي دَاوُد، "كتاب السنة"، الحديث 4607، ص 726 - 727. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، واللفظ له.
(1)
صحيح البخاري، "كتاب الصلح"، الحديث 2697، ص 440.
(2)
صحيح مسلم، "كتاب الإيمان"، الحديث 78، ص 42؛ سنن ابن ماجه، "أبواب الفتن"، الحديث 4013، ص 578. واللفظ لمسلم.
(3)
لعل الأولى أن يقال: "تقوم الحجة"، والله أعلم.
(4)
وبناءً على التعريف المذكور بنى العز تقريره في كون البدعة تعتريها الأحكام الخمسة فقال: "وهي منقسمة إلى بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة. والطريق في معرفة ذلك أن تُعرَضَ البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة". =
الثاني عرَّف أبو إسحاق الشاطبي في كتابه "الاعتصام" البدعة فقال: "هي طريقةٌ في الدين مخترعة تضاهي الشرعيةَ، يُقصد بالسلوك عليها المبالغةُ في التعبد [لله سبحانه] ". (1) فالطريقة هي العمل أو القول، والمخترعة هي التي لا أصلَ لها في الشريعة. ومعنى قوله "تضاهي الشريعة" أنها تشابه الأمورَ المشروعة وليست منها، فأخرج العادات التي أحدثها الناسُ بعد زمن النبوة كاتخاذ المناخل وغسل الأيدي بالصابون.
وقوله: "يقصد بسلوكها المبالغة في التعبد" مُخرِجٌ للأمور التي لا تتعلق بالعبادة مما يدخل في أبواب المعاملات والعادات. فاختصَّتِ البدعةُ - على رأي الشاطبي - بما يحدث في العبادات خاصة، وهي بعض الدين؛ لأن الدين اعتقاداتٌ ومعاملاتٌ وعبادات، وهو اصطلاح جديد. فإن الفقهاء سَمُّوا محدثاتِ الاعتقاد بدعًا، وسَمُّوا أصحابَها بأهل البدع، وسَمُّوا بعضَ أنواع الطلاق بالطلاق البدعي. (2)
وأما المُحدَث فهو مرادفٌ للبدعة لغةً، وأشهرُ منها في التبادر. وكذلك هو مرادف لها في اصطلاح الشرع؛ لأنه لمَّا كان المرادُ به في لسان الشرع ما يحدث من أجناس الأفعال والأقوال آل معناه إلى معنى البدعة، ولكنه أشهر في اللغة. لذلك حسن تفريعُ البدعة على المحدَث في حديث:"وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة". (3) وصح الإخبارُ عن المحدَث بأنه بدعةٌ بما رواه أبو داود في حديث
= ابن عبد السلام، القواعد الكبرى الموسوم بـ قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، تحقيق نزيه كمال حماد وعثمان جمعة ضميرية (دمشق: دار القلم، 1421/ 2000)، ج 2، ص 337. وقد تابعه في ذلك مفصِّلًا وممثِّلًا تلميذُه الإمام القرافي في الفروق، كما سيذكر المصنف لاحقًا.
(1)
الشاطبي: كتاب الاعتصام، ج 1، ص 22. وقد ساق المصنف هذا التعريف للبدعة بلفظ "الشريعة" بدل "الشرعية"، والصواب ما أثبتناه تبعًا لِما ذكره الشاطبي في شرحه إياه حيث قال (ص 23): "وقوله (كذا، ولعلها "وقولي") في الحد: "تضاهي الشرعية" يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة.
(2)
انظر في معنى الطلاق البدعي والفرق بينه وبين الطلاق السني: ابن رشد: بداية المجتهد، ص 501 - 503.
(3)
سبق تخريجه.
العرباض بن سارية: "كلُّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، (1) وكان مالك بن أنس رضي الله عنه كثيرًا ما ينشد:
وَخيرُ أُمُورِ الدِّينِ مَا كَانَ سُنَّةً
…
وَشَرُّ الأُمُورِ المُحْدَثَاتُ البَدَائِعُ (2)
فجمع البيتُ المحدثَ والبدعة بوجه الترادف، وقدم المحدثات.
وأما المنكر فهو الحرام، وهو ما ينكره الشرع ويأباه، وهو يخالف المحدث والبدعة، وبينه وبينهما نسبةٌ سنشير إليها.
هذه معاني هذه الألفاظ الثلاثة. فأما أحكامها، فقد قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "عارضة الأحوذي على سنن الترمذي" عند شرح حديث العرباض بن سارية ما نصُّه:"وليس المُحدَث والبدعة مذمومين للفظ محدث ولفظ بدعة، ولا لمعناهما، فقد قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] "، أي قاله في مقام توبيخ الذين أتاهم الذكر المحدث حيث لم يعملوا به لقوله عقبه:{إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 2، 3]، "وقال عمر (أي في شأن صلاة التراويح):"نِعْمَتِ البدعةُ هذه"، (3) وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة، ويذم من المحدثات ما دعا إلى ضلالة"، وأما ما كان مردودًا إلى قواعد الأصول ومبنيًّا عليها، فليس بدعةً ولا ضلالة، "وهو سنة الخلفاء والأئمة الفضلاء" (4).
(1) سُنَنُ أبي دَاوُد، "كتاب السنة"، الحديث 4607، ص 726 - 727.
(2)
ترتيب المدارك، ج 1، ص 169؛ الشاطبي: كتاب الاعتصام، ج 1، ص 57.
(3)
الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب الصلاة في رمضان"، الحديث 270، ج 1، ص 476 - 477؛ صحيح البخاري، "كتاب صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ"، الحديث 2010، ص 322. واللفظ لمالك، وسياق الكلام هو ما رآه عمر من جمع الناس على قارئ واحد في صلاة التراويح بدل أن يصلوا أوزاعًا متفرقين "يصلي الرجل لنفسه" كما وصفهم الراوي عبد الرحمن بن عبدٍ القاري.
(4)
ابن العربي: عارضة الأحوذي، ج 5/ 10، ص 106 - 107. وقد ساق المصنف كلام ابن العربي بتصرف تقديمًا وتأخيرًا وتعبيرًا.
وظاهرُ كلامه أنه يخص البدعةَ بالابتداع في الدين، ولا يخصها بالعبادات. ومرادُه بالذم في كلامه الذمُّ الشرعي، وهو علامةُ التحريم. وأراد بقوله:"فليس بدعةً ولا ضلالةً" أنه ليس بدعةً هي ضلالة، أي: ليس حرامًا، فمرادُه بالبدعة في عبارته هذه أحدُ إطلاقيها. ودخل تحت قوله:"ومخالفة السنة" ما كان من البدعة مكروهًا، وهو ما شملته قواعدُها ولم تشمله قواعدُ الندب. فإن كونه بدعة مع عدم انتظار فائدة أخروية منه يوجب له الكراهةَ عند مالك؛ لأن المكروه يقال فيه مذموم على الجملة؛ لأنه ليس بحسن، إذ الحسن هو المأذون فيه. وقال إمام الحرمين:"ليس المكروه قبيحًا ولا حسنًا"، (1) ولا شك أن المكروه لا يقال له ضلالة. وأراد بقوله:"وهو سنة الخلفاء" ما كان مردودًا إلى قواعد الأصول في الندب أو الوجوب، وقوله "وهو سنة الخلفاء"، أي إحداث مثل هذا النوع.
وقال الغزالي في آداب الأكل من كتاب "الإحياء": "واعلم أنا وإن قلنا الأكل على السفرة أَوْلَى (أي لأنه الذي كان عليه عملُ السلف)، فلسنا نقول الأكل على المائدة منهيٌّ عنه نهيَ كراهةٍ أو نهيَ تحريم إذ لم يثبت فيه نهي. وما يقال إنه أُبدِعَ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس كل ما أبدع منهيًّا، بل المنهيُّ بدعةٌ تُضادُّ سنةً ثابتة وترفع أمرًا من الشرع مع بقاء علته. بل الإبداعُ قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب [وليس في المائدة إلا رفع الطعام عن الأرض لتيسير الأكل وأمثال ذلك مما لا كراهةَ فيه] ". (2) وظاهرُ كلامه أنه يُطلق البدعةَ على الأمر المحدث، سواء كان في العبادات أم كان في العادات.
(1) قال الزركشي: "المكروه هل هو قبيح أم لا يَلتفت على تفسير الحسن والقبح؟ واختار إمامُ الحرمين وابن القشيري أنه لا يوصف بقبح ولا حسن". الزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله: البحر المحيط في أصول الفقه، نشرة بعناية محمد محمد تامر (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421/ 2000)، ج 1، ص 241. ولكن لم أعثر على هذا الكلام المنسوب للجويني لا في التلخيص ولا في البرهان.
(2)
الغزالي: إحياء علوم الدين، ج 2، ص 5. وما بين الحاصرتين لم يورده المصنف، وجلبناه تطلبًا لمزيد وضوحٍ في مساق الحجة من كلام الغزالي.
واعلم أن كلامَ هذين الإمامين يشير إلى أن الأحكام الشرعية منوطةٌ بالمعاني لا بالألفاظ، فلما وصف في الحديث البدعة بالضلالة ووصف المحدث بأنه ردّ، علمنا أنه لم يقصد إثباتَ هذين الوصفين لهذين اللفظين حيثما وُجِدا، فنحكم بالضلالة وبالرد على كل ما أُطلق عليه هذان اللفظان، إذ لا يسلك هذا النهجَ عالِمٌ متحقِّقٌ في علمه، ولا مطاعٌ في أمره.
كيف وقد تقرر في أصول الفقه أنه لا يصح التعليلُ باللقب لئلَّا يلزم أننا إذا عمدنا إلى بعض أصناف القردة فسميناه إنسانَ الغاب أن نحرم قتله، وأن نطالب قاتلَه عمدًا بالقود وقاتلَه خطأ بالدية، بعلة أننا سميناه إنسانًا، أو أن الشافعي يحرم أكلَ الحوت المسمَّى بكلب البحر؛ لأنه يحرم أكلَ الكلب، ونحن قد سمينا هذا الحوت كلبًا. ولو أن أحدًا قال بمثل هذا، لاتُّخِذ هزؤًا بين أهل العلم. (1) أما إلحاقُ بَوْلِ ما يُؤكل لَحمُه من الحيوان ببول الآدمي في النجاسة في مذهب الشافعي، فذلك من باب إثبات حكم الجنس لواحد من أفراده، بناءً على انتفاء الفارق بين البولين عنده. (2)
وبهذا التحرير يَظهر أن الخلافَ الواقع بين العلماء في صحة التعليل باللقب خلافٌ غير محُرَّر، ولو حُرِّرَ لمَا تُصُوِّر فيه خلاف. فتعين أن لا محيصَ من التدبُّر في المراد من مُسمَّى المحدَث والبدعة الموصوفة بأنها ضلالة وبأنه (3) رد.
(1) وقد سئل مالك: "أيحل خنزير الماء؟ فقال: أنتم تقولون: خنزير"، على سبيل الاستنكار. راجع في هذا الموضوع ابن العربي المعافري، أبو بكر: كتاب القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، تحقيق محمد عبد الله ولد كريم (الرياض: دار ابن الجوزي، ط 1، 1429)، ج 2، ص 1070؛ المسالك، ج 5، ص 281 - 284؛ ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 346 - 349.
(2)
راجع في ذلك الشافعي، الإمام محمد بن إدريس: الأم، تحقيق رفعت فوزي عبد المطلب (المنصورة/ مصر: دار الوفاء، ط 2، 1425/ 2004)، ج 2، (كتاب الطهارة)، ص 21؛ الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد: الوجيز في فقه مذهب الشافعي، تحقيق أحمد فريد المزيدي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1425/ 2004)، ص 26.
(3)
الضمير يعود على "المحدَث".
على أنه كما أُطلق لفظُ المحدَث ولفظ البدعة في مقام الذم، فقد أُطلق لفظُ السنة كذلك في مقام الذم، ففي الحديث الصحيح:"من سن سنةً سيئة، فعليه وزرُها ووِزْرُ من عمل بها إلى يوم القيامة"، (1) وفي الصحيح أيضًا:"لا تُقتَلُ نفسٌ ظُلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، ذلك لأنه أولُ مَنْ سنَّ القتل". (2)
فتعين ردُّ هذه الألفاظ إلى معانيها المقصودة بقرائن سياق الكلام، وإرجاع الآثار الواردة فيها إلى أدلتها الشرعية.
فأما حديث: "مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد"، (3) فقال الإمام المازري في كتاب "المعلم في شرح صحيح مسلم":"والمنهياتُ المحرمات كلُّها ليست من أمره صلى الله عليه وسلم، فيجب ردُّها". (4) وقال الأبي في "إكمال الإكمال": "ما ليس من أمره هو ما لم يسنَّه ولم يشهد الشرعُ باعتباره، فيتناول المنهياتِ والبدعِ التي لم يشهد الشرعُ باعتبارها. وأما التي شهد الشرع باعتبار أصلها، فهي جائزة، وهي من أمره، كالبدع المستحسنة، كالاجتماع على القيام في رمضان، وكالتصبيح اليوم والتأهيب. (5) فإن
(1) عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن سَنَّ سُنَّةً حسنةً فعُمل بها، كان له أجرُها ومثلُ أجرِ من عمل بها، لا ينقص من أجورِهم شيئًا، ومن سَنَّ سُنَّةً سيئةً فعُمِل بها، كان عليه وزرُها ووزرُ من عمل بها، لا ينقصُ مِن أوزارهم شيئًا". سنن ابن ماجه، "كتاب السنة - المقدمة"، الحديث 203، ص 31؛ سنن الترمذي، "أبواب العلم"، الحديث 2675، ص 629.
(2)
صحيح البخاري، "كتاب أحاديث الأنبياء"، الحديث 3335، ص 554؛ صحيح مسلم، "كتاب الأقضية"، الحديث 1677، ص 622.
(3)
صحيح مسلم، "كتاب الأقضية"، الحديث 1718، ص 682؛ صحيح البخاري، "كتاب الصلح"، الحديث 2697، ص 440.
(4)
المازري: المعلم بفوائد مسلم، ج 2، ص 266.
(5)
ورد مصطلح التصبيح بمعنيين: أولهما التزام صبحة القبر، وهو تبكير أهل الميت وأقاربهم ومعارفهم إلى قبر الميت، ومن يتخلف عن ذلك غضبوا عليه كما لو أنه ترك واجبًا متعيِّنًا. ويستمر هذا التصبيح سبعة أيام، وكان قديمًا يُسمَّى المأتم. الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى: فتاوى الإمام الشاطبي، تحقيق محمد أبو الأجفان (الرياض: مكتبة العبيكان، ط 4، 1421/ 2001)، ص 269 - 270؛ ابن الحاج، أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري المالكي الفاسي: =
الشرعَ شهد باعتبار جنس مصلحتها؛ فإن الأذان شُرع لمصلحة الإعلام بدخول الوقت، والإقامة شرعت لإعلام بالدخول في الصلاة. والتحضير والتصبيح والتأهيب من ذلك النوع، ولما في الثلاثة من مصلحة الإعلان بقرب حضور الصلاة، ولما في التأهيب من الإعلام بأنه يوم الجمعة لمن لا عنده شعور من ذلك. ويشهد لذلك زيادة عثمان رضي الله عنه أذانًا بالزوراء يوم الجمعة على ما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن الخليفتين". (1)
وأقول: قال الأئمة هذا الحديث من جوامع الكلم. وأنا أقول إنه من جوامع الكلم، ومن أبلغ الكلام القريب من حد الإعجاز، بحيث لو غُيِّرَ لفظٌ منه إلى غيره لفات معنى عظيم. فإن لكلمة "أمرنا" وكلمة "في" وكلمة "من" خصوصياتٍ هنا بالغة، فالتعبير بأمرنا الذي هو بمعنى شأننا ومجموع أحوالنا، يشمل كلَّ ما يرجع إلى أحكام الإسلام ويدخل تحت معانيه. ولو قيل: من أحدث في سيرتنا، أو في سنّتنا، أو أحدث عملًا لم يكن من عملنا، لم يفد ذلك. كما أنه لو قيل: من أحدث في ديننا، لَظُنَّ أن المنهيَّ عنه هو إحداث دين جديد. ولكلمة "في" خصوصية، وهو أن يكون الإحداث داخلًا في الدين وليس في أحوال المعيشة، ولو لم يؤت بـ "في" فقيل: من أحدث مع أمرنا أو بعد أمرنا، لم يُفِد ذلك.
وكذلك كلمة "من" فإنها مؤذِنَةٌ بأن المحدَث المردود ما كان غيرَ متصل بالدين، ومن المعلوم أن ليس المراد بكون الشيء من الدين أن يكون وقع التنصيصُ
= المدخل (القاهرة: مكتبة التراث، بدون تاريخ)، ج 3، ص 277. أما المعنى الثاني فهو قول المؤذنين بعد أذان الفجر: أصبح ولله الحمد. وقد ذكر ابن الحاج أن هذا كان يفعله بعضُ أهل المغرب، وهو المراد للمصنف هنا. وكذلك التحضير وهو قولهم: حضرت الصلاة، بعد الانتهاء من الأذان. ابن الحاج: المدخل، ج 2، ص 253، 260.
أما التأهيب فهو قولهم: تأهَّبُوا للصلاة، للجمعة، انظر:(مواهب الجليل) للحطاب، ج 1، ص 432.
(1)
الأبي، أبو عبد الله محمد بن خلف: إكمال إكمال المعلم ومعه مُكَمِّل إكمال الإكمال للسنوسي الحسني (بيروت: دار الكتب العلمية، بدون تاريخ)، ج 5، ص 61.
عليه في الدين؛ لأنه لو كان كذلك لم يتصور أن يكون محدثًا، فتعين أن المراد يكون ليس منه أن لا يأوي إليه بوجه. فمَا صِدْقُ "ما ليس منه" أنه أمر ليس من أمر الدين، والمراد بالأمر جنسٌ من أجناس الأفعال ليس موجودًا في الدين، مثل إحداث اعتقاد لا يدخل تحت عقائد السنة، كإحداث القول بأنه لا قدر، والقول بتكفير الصحابة؛ فإن علماء السلف أطلقوا على مَنْ قال بمثل هذه العقائد أنهم أهل البدع والمبتدعة. ومثل إحداث جنس عبادة، كإحداث التعبد بالوقوف في الشمس أو التعبد بتعذيب البدن بالنار أو بالجراحات كما يفعله مجوس الهند، أو إحداث حكم من الأحكام لعمل من أعمال المعاملات.
وليس ذلك العملُ بصالِحٍ للدخول في زمرة أعمال ذلك الحكم، كما لو قال أحدٌ بجواز إحراق مال اليتيم؛ لأن الله تعالى لم ينهنا إلا عن أكله، فإدخال إحراق مال الناس تحت حكم الجواز غلط، فهو بدعة وضلالة ولا يسمَّى اجتهادًا، ولا عُذرَ لصاحبه بخلاف الخطأ عن شبهة في مجال الاجتهاد، فليس ببدعة، ونحن نعرف ذلك بأن نرجع إلى أوصاف الأعمال التي تندرج بسببها في أحد الأحكام الخمسة، بحسب اشتمالها على صفات أمثالها. فمَنْ أحدث من أمر الإسلام ما ليس منه، فهو رد.
ودليلي على هذا التفسير أن الأئمةَ صرَّحوا بأن الحكمَ الثابتَ بالقياس يُقال فيه هو من الدين، (1) مع كونه أمرًا أُحدِث بعد رسول الله، فما قالوا إنه من الدين إلا
(1) قال الشاطبي معرفًا البدعة الحقيقية في مقابل البدعة الإضافية: "إن البدعة الحقيقية هي التي لم يدل عليها دليلٌ شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم، لا في الجملة ولا في التفصيل، ولذلك سميت بدعة كما تقدم ذكره؛ لأنها شيء مخترع على غير مثال سابق، وإن كان المبتدع يأبَى أن يُنسب إليه الخروج عن الشرع". كتاب الاعتصام، ج 1، ص 197. وعرف ابن رجب الحنبلي البدعة بقوله:"المراد بالبدعة ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل من الشرع فليس ببدعة وإن كان بدعة لغة". نقلًا عن: الواعي، توفيق يوسف: البدعة والمصالح المرسلة: بيانها، تأصيلها، أقوال العلماء فيها (الكويت: مكتبة دار التراث، =
لأنه شهد له أصل المقيس عليه بالاعتبار، أي بأنه جديرٌ بأن يساويَه في حكمه لمساواته في علة الحكم. وكذلك القولُ في حديث "كل بدعة ضلالة"؛ أي كل بدعة هي إحداثُ جنسٍ من الاعتقادات أو العبادات أو أصل في التشريع ليس راجعًا لأصول الشريعة فهو ضلالة. والضلالةُ ضدُّ الهداية، وهي في عرف الشرع المعاصي، فالمكروهُ ليس بضلالة.
وعلى هذا التقرير فلفظُ البدعة جارٍ على أصل معناه اللغوي، كما هو الظاهر، ويكون من العام المخصوص، ومخصصاتُه الأدلةُ الكثيرة الدالة على أن كثيرًا من الأفعال التي أحدثها المسلمون بعد رسول الله هي واجبةٌ أو مندوبة أو مباحة أو مكروهة. (1)
ولا يصح أن يكون واحدٌ من هذه الأحكام الأربعة ضلالة، أو يكون من العام الذي أريد به الخصوص، أي كل بدعة جنس ليس من أجناس عبادات الإسلام أو اعتقاداته أو معاملاته. وتكون قرينةُ إرادة الخصوص الأدلةُ الكثيرة الدالة على وجوب أو استحسان أفعال كثيرة حدثت بعد الرسول، أو على كراهية أفعال دون أن تكون ضلالة. وإن كان لفظُ البدعة قد نُقل في اصطلاح الشرع إلى اختراع المحرمات المنافية لِمَا جاء به الدين كما ذهب إليه الشاطبي، (2) كان من
= 1404/ 1984)، ص 105. وقال البدر العيني:"والبدعة في الأصل إحداثُ أمرٍ لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم البدعة على نوعين: إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي بدعة حسنة، وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي بدعة مستقبحة". العيني، بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد: عمدة القاري "شرح صحيح البخاري، نشرة بعناية عبد الله محمود محمد عمر (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421/ 2001)، ج 11، ص 178 (كتاب التراويح).
(1)
وعلى هذا التقدير جرى القرافي في تفصيل القول في معنى الأعمال المبتدعة وأقسامها وتنزيلها حسب الأحكام التكليفية الخمسة. انظر في ذلك: كتاب الفروق، ج 4، ص 1333 - 1335 (الفرق الثاني والخمسون والمائتان). وسيذكر المصنف تفاصيل كلام القرافي فيما بعد.
(2)
قال الشاطبي: "ولمَّا كانت الطرائقُ في الدين تنقسم؛ فمنها ما له أصلٌ في الشريعة ومنها ما ليس له أصلٌ فيها، خُصَّ منها ما هو المقصود بالحد (أي تعريف البدعة المذكور في الحاشية قبل الأخيرة) =
المجمل الذي يحتاج إلى بيان الأفعال التي هي بدعةٌ لتتميز عما عداها، فتكون مبيناتُه جميعَ الأدلة الشرعية - من إجماع أو قياس [وغيرهما]- الدالة على إرجاع الأفعال المحدثة إلى قسم الحرام.
وعلى كل التقادير، فظاهرُ الحديث ليس بمراد فيؤوَّل بما ذكرته، وذلك معنى قول مالك رحمه الله:"مَنْ أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفُها فقد زعم أن رسول الله خان الدين؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينًا لا يكون اليوم دينًا"، (1) فجعل الحجة هي قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} . ومن المعلوم أن الذي أكمله الله هو كلياتُ الدين لا جزئياته، كما بينه أبو إسحاق الشاطبي في "الموافقات"، (2) وإلا لبطل القولُ بالقياس وغيره من
= وهو القسم المخترع، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع، إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع". كتاب الاعتصام، ج 1، ص 22.
(1)
أخرجه ابن حزم عن عبد الملك بن حبيب عن ابن الماجشون. ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد: الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق إحسان عباس مراجعة على نسخة الشيخ أحمد محمد شاكر (بيروت: دار الآفاق الجديدة، بدون تاريخ)، ج 6، ص 58.
(2)
قال الشاطبي بعد أن ذكر أن أصول الفقه في الدين قطعية لكونها راجعة إلى كليات الشريعة من الضروريات والحاجيات والتحسينيات وفي سياق الجواب عن استشكال القاضي أبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني عدَّ تفاصيل العلل وأحكام الأخبار من الأمور القطعية في الأصول: "والجواب أن الأصلَ على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعًا به؛ لأنه إن كان مظنونًا تطرق إليه احتمال الإخلاف، ومثل هذا لا يُجعل أصلًا في الدين عملًا بالاستقراء، والقوانين الكلية لا فرق بينها وبين الأصول الكلية التي نُصَّ عليها؛ ولأن الحفظ المضمون في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9] إنما المرادُ به حفظُ أصوله الكلية المنصوصة، وهو المراد بقوله تعالى: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ". الموافقات، ج 1، ص 30 - 32. ثم قال في بداية "كتاب الأدلة": "لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وكانت هذه الوجوه مبثوثةً في أبواب الشريعة وأدلتها، غير مختصة بمحل دون محل، ولا بباب دون باب، ولا بقاعدة دون قاعدة، كان النظر الشرعي فيها أيضًا عامًّا لا يختص بجزئية دون أخرى؛ لأنها كلياتٌ تقضي على كل جزئي تحتها، وسواء علينا أكان جزئيًّا إضافيًّا =
المحدثات في مصالح الأمة.
وقد اقتفى البخاري في هذا الشأن أثرَ مالك، فإنه افتتح كتاب "الاعتصام بالسنة" من صحيحه بما نصه:"كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة"، فأخرج فيه حديثَ عمر أن يهوديًّا قال له:"لو أن علينا نزلت هذه الآية: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. . ."، وساق الحديث، (1) وهذا التخريج من بدائع البخاري الكثيرة.
ثم إنِّي أعني بالجنس أن يكون الفعلُ أو الاعتقادُ أو القول غيرَ راجعٍ إلى أصل مماثل له مشروع، مثل القول بأن لا قدر، ومثل اعتقاد الجبر والإرجاء والتكفير بالذنب؛ فإن أئمة الدين وصفوا أصحابَ هذه العقائد بأنهم المبتدعة وأهل الأهواء. ومثل ابتداع التعبد بتعذيب النفس، كالوقوف في الشمس المنهي عنه في حديث الموطأ. (2)
فأما الراجع إلى مماثل مشروع، فلا يكون بدعةً مذمومة، سواء كان رجوعُه رجوعَ الجزئي إلى الكلي، كرجوع طرق المتكلمين في الاستدلال على حدوث العالم، فإن ذلك من جزئيات النظر المأمور به شرعًا. وكذلك ضبطُ صفات الله تعالى في
= أم حقيقيًّا؛ إذ ليس فوق هذه الكليات كلِّيٌّ تنتهي إليه، بل هي أصولُ الشريعة، وقد تمت، فلا يصح أن يُفقد بعضُها حتى يُفتقر إلى إثباتها بقياس أو غيره، فهي الكافيةُ في مصالح الخلق عمومًا وخصوصًا؛ لأن الله تعالى قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ". المرجع نفسه، ج 2، ص 5 - 7.
(1)
ونص الحديث بتمامه: "قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين، لو أن علينا نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، لاتخذنا ذلك اليومَ عيدًا. فقال عمر: إنِّي لأعلم أيَّ يوم نزلت هذه الآية، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة". صحيح البخاري، "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة"، الحديث 7268، ص 1251.
(2)
الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب النذور والأيمان"، الحديث 1112، ج 3، ص 68. وانظر كذلك صحيح البخاري، "كتاب الأيمان والنذور"، الحديثان 6701 و 6704، ص 1156 - 1157؛ سُنَنُ أبي دَاوُد، "كتاب الأيمان والنذور"، الحديث 3301، ص 530 (وانظر بقية أحاديث الباب).
أنواع النفسي والسلبي، (1) وصفات المعاني والصفات المعنوية، فإنه من وسائل تنزيه الله وتوحيده، ولذلك لم يصف علماءُ السلف علماءَ الكلام فيما أتوا به بأنهم مبتدعة.
وكرجوع عدد صلاة التراويح في رمضان إلى أصل التنفل بالليل؛ لأن تعيينَ وقت أو عدد أو مقارن للعبادة ليس بدعة مذمومة، ولذلك قال عمر في صلاة التراويح:"نعمت البدعة هذه". (2) وكرجوع تحريم النبيذ إلى أصل تحريم الخمر.
أم (3) كان رجوعَ المماثلِ في الوصف إلى مُمَاثله، ذلك الوصفُ الذي هو موجِب إثباتِ حكمٍ شرعي من الأحكام الخمسة له، كرجوع الأرز إلى القمح والشعير في وصف الاقتيات والادخار الموجب تحريمَ ربا النسيئة من الأصناف الأربعة، فيحكم بتحريمه أيضًا في الأرز. (4)
(1) يقسم المتأخرون من الأشاعرة والماتريدية الصفات الإلهية إلى أربعة أقسام، وهي الصفات النفسية، والصفات السلبية، وصفات المعاني، والصفات المعنوية. فالصفات النفسية هي الوجود والبقاء والقدم ومخالفة الحوادث والقيام بالذات، والوجوب، وتوصف بالصفات القدسية. وصفات المعاني سبع، وهي العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. أما الصفات المعنوية فهي مشتقة من صفات المعاني، وهي كونه تعالى عالِمًا، حيًّا، قديرًا، مريدًا، متكلمًا، سميعًا، بصيرًا. والصفات السلبية هي كل صفة مدلولها عدمُ أمرٍ لا يليق بالله سبحانه. انظر في ذلك مثلًا: النابلسي، عبد الغني بن إسماعيل: رائحة الجنة شرح إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة (وهو شرح على أرجوزة شهاب الدين أحمد المقري) ويليه فيض الشعاع للصنعاني، نشرة بعناية أحمد فريد المزيدي (بيروت: دار الكتب العلمية، بدون تاريخ)، ص 45 - 87؛ البوطي، محمد سعيد رمضان: كبرى اليقينيات الكونية: وجود الخالق ووظيفة المخلوق (بيروت: دار الفكر المعاصر/ دمشق: دار الفكر، 1417/ 1997)، ص 111 - 175.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
تفريع على قوله "فأما الراجع إلى مماثل مشروع" في الصفحة السابقة.
(4)
الأصناف الأربعة هي البُرُّ والشعير والتمر والملح التي جاء ذكرُها في حديثي عبادة بن الصامت وعمر بن الخطاب. فأما حديث عبادة فهو أنه قال: "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربَى". صحيح مسلم، "كتاب المساقة"، الحديث 1587، ص 615 - 616. وهذا الحديث هو الأصل في تحريم ربا البيوع، تفاضلًا كان أو =
وعلى هذا فكلُّ ما جرى فيه المسلمون على ما يدعو إليه الشرعُ من واجب أو مندوب أو على ما يأذن به الشرع من مباح، أو على ما لا يعاقب الشرع على فعله وهو المكروه، ففعلُهم فيه لا يُعَدُّ من الضلالة.
فإن قيل فقد قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، والمكروه ليس بحق، فيلزم أن يكون ضلالًا، قلت: إن كانت الآية مخصوصةً بالغرض المسوقة لأجله كانت خاصة بالاعتقادات كما هو سياق أوائل سورة يونس، فالمعنى ما بعد اعتقاد الوحدانية إلا الضلال وهو الشرك؛ لأن أول الآية هو قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 31، 32].
قال الشيخ ابن عطية المالكي في تفسيره: "وحكمت هذه الآيةُ بأنه ليس بين الحق والضلالة منزلةٌ ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله. وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحقُّ فيها في طرف واحد؛ [لأن الكلام فيها إنما هو في تقرير وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى
= نساء، حيث ذهب جمهور الفقهاء إلى أن ما جاء من ذكر للأصناف الأربعة (البُرُّ والشعير والتمر والملح) هو من باب الخاص الذي أريد به العموم، بحيث يلحق بها في الحكم كلُّ ما اشترك معها في الوصف الذي هو علة الحكم. وقد تباينت منازعُ العلماء في تعيين العلة في تحريم الربا في هذه الأعيان الأربعة بين كونها الطعم والادخار والاقتيات وكونها الكيل والوزن، على اختلاف في تفاصيل العلاقة بين بعضها وبعض. انظر تفاصيل ذلك في: المدونة الكبرى، ج 1، ص 464؛ ابن رشد: بداية المجتهد، ص 558 - 569. وانظر تناولًا تحليليًّا رصينًا لموضوع الربا وأبعاده الفقهية والاقتصادية في: حماد، نزيه: في فقه المعاملات المالية والمصرفية المعاصرة: قراءة جديدة (دمشق: دار القلم، ط 1، 1428/ 2007)، ص 13 - 56 (بحث بعنوان: "المفهوم الاصطلاحي للربا بين دلالات النصوص وتقسيمات الفقهاء)؛ المصري، رفيق يونس: الجامع في أصول الربا (دمشق: دار القلم، ط 2، 1422/ 2001)؛ أبو زيد، عبد العظيم جلال: فقه الربا (بيروت: مؤسسة الرسالة ناشرون، ط 1، 1425/ 2004).
فيها: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]". (1) قلت: وإن كانت غيرَ مخصوصة بذلك بحيث تشمل أحكامَ الأفعال. وبهذا الاحتمال الثاني يُفَسَّر ما وقع في الموطأ من قول يحيى بن يحيى: "سمعت مالكًا ينهى عن اللعب بالشَّطرنج وغيرها، ويتلو قوله تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] ". (2)
وأما المنكر، فقد اتضح بما قررناه الفرقُ بينه وبين البدعة والمحدث لغةً وشرعا. فيظهر أن النسبة بينه وبين المحدث والبدعة هي العموم والخصوص الوجهي:(3) فبعضُ المنكر بدعةٌ ومُحدَث، وبعضُ البدعة والمُحدَث مُنكر، فلا تصير البدعة منكرًا حتى تقوم الأدلةُ على تحريمها.
(1) ابن عطية: المحرر الوجيز، ج 3، ص 118.
(2)
أورد المصنف كلام يحيى بتصرف، ولفظه:"سمعت مالكًا يقول: لا خير في الشَّطرنج، وكرهها. وسمعته يكره اللعب بها وبغيرها من الباطل، ويتلو هذه الآية. . ." الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب الجامع"، الحديث 1925، ج 4، ص 425 - 426. وههنا ينتهي الجزء الأول من المقال، الهداية الإسلامية، المجلد الثامن، الجزء الحادي عشر، جمادى الأولى 1355 (ص 689 - 698). وهنا ينتهي القسم الأول من المقال.
(3)
يندرج مصطلح "العموم والخصوص الوجهي" في المنطق فيما يُعرف بالنِّسب الأربع، ويراد بها النسبة بين الكليين من حيث انطباق كل واحد منهما على مصاديق الآخر، فمثلًا النسبة بين الطائر والحيوان هي أن الحيوان ينطبق على كل مصاديق الطائر، والطائر ينطبق على بعض مصاديق الحيوان (وهي مصاديق الطائر نفسه). والنسب الأربع هي: التباين، والتساوي، والعموم والخصوص المطلق، والعموم والخصوص الوجهي (أو العموم من وجه والخصوص من وجه). 1. فالتساوي أن ينطبق كلٌّ من الكلِّيَيْن على جميع مصاديق الآخر. 2. والتباين أن لا ينطبق أيٌّ من الكلِّيَيْن على أي شيء من مصاديق الآخر. 3. أما العموم والخصوص مطلقًا فهو أن يصدق أحدُ الكلِّيَيْن على جميع ما يصدق عليه الآخر وعلى غيره، ويقال للأول الأعم مطلقًا وللثاني الأخص مطلقًا. 4. وأما العموم والخصوص الوجهي فهو انطباق كلِّ واحد من الكلِّيَيْن على بعض مصاديق الآخر، وافتراقهما في الانطباق على مصاديق أخرى. مثاله: الحيوان والأبيض؛ فإن مفهوم الحيوان ينطبق على بعض مصاديق الأبيض (وهي الحيوانات البيضاء)، ويفترق عن مفهوم الأبيض في انطباقه على الحيوانات غير البيضاء. ومفهوم الأبيض ينطبق على بعض مصاديق الحيوان (وهي الحيوانات البيضاء)، ويفترق عن مفهوم الحيوان في انطباقه على الأشياء البيضاء غير الحيوان. فنقطة الالتقاء بين مفهومي الأبيض والحيوان هي الحيوانات البيضاء.
فقد قسم فقهاؤنا الطلاقَ إلى سني وبدعي، وقسموا البدعي إلى قسمين: قسم محرم وهو الطلاق في الحيض، لورود حديث ابن عمر في النهي عنه، (1) وقسم مكروه وهو ما عداه، كالمملك، والخلعي، والثلاث في كلمة واحدة. (2) وذكروا في باب الطهارة أن السرف في الماء بدعة، (3) ولم يقل أحدٌ إن ذلك حرام، بل هو مكروهٌ أو خلافُ الأولى.
(1) أخرج مسلم عن يحيى بن يحيى التميمي قال: "قرأت على مالك بن أنس عن نافع، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر. ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس. فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يُطَلَّق لها النساء"". صحيح مسلم، "كتاب الطلاق"، الحديث 1471، ص 557؛ صحيح البخاري، "كتاب الطلاق"، الحديث 5251، ص 938.
(2)
راجع في ذلك: المدونة الكبرى، ج 3، ص 5 - 10؛ ابن عبد الرفيع، أبو إسحاق إبراهيم بن حسن: معين الحكام على القضايا والأحكام، تحقيق محمد بن قاسم بن عياد (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1989)، ج 1، ص 297 - 303.
(3)
انظر في ذلك مثلًا: القيرواني: النوادر والزيادات، ج 1، ص 28 - 30؛ ابن العربي: المسالك، ج 2، ص 187 - 191؛ القرافي: الذخيرة، ج 1، ص 288. والأصل في ذلك ما أخرجه مالك عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء - هو الفَرَق - من الجنابة". الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب الطهارة"، الحديث 105، ج 1، ص 303 - 304 (رواية يحيى الليثي). وفي رواية البخاري أنها قالت:"كنتُ أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، من قدح يقال له الفَرَق". صحيح البخاري، "كتاب الغسل"، الحديث 250، ص 46؛ صحيح مسلم، "كتاب الحيض"، الحديث 319/ 40 - 41، ص 132 - 133 (واللفظ للبخاري). والفَرَق إناء كان معروفًا لديهم، قال مسلم:"قال سفيان: هو ثلاثة آصع"(جمع صاع). وما أخرجه أحمد بن حنبل عن عبد الله بن عمرو بن العاص "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد [بن أبي وقاص] وهو يتوضأ، فقال: "ما هذا السرف يا سعد؟ " قال: أفي الوضوء سرف؟ قال: "نعم، وإن كنت على نهر جار"". المسند، الحديث 7065، ج 11، ص 636 - 637. قال ابن العربي بعد أن ساق الروايات والأقوال الواردة في المسألة:"وإنما ذلك إخبارٌ عن القدر الذي كان يكفيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن المد لا يجزئ دونه، وإنما قُصِد به التنبيه على فضيلة الاقتصاد وترك السرف. واستحب لمن يقدر على الإسباع [كذا، ولعلها: الإسباغ] بالقليل ولا يزيد على ذلك؛ لأن السرف ممنوع في الشريعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيكون في هذه الأمة قومٌ يتعدون في الطَّهور والدعاء". وإلى هذا ذهب مالك وطائفة من السلف، وهو قول الشافعي وإسحاق". المسالك، ج 1، ص 190. والحديث الذي ذكره ابن العربي أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة.
وأما حكمه فإنه يجب على المسلم النهيُ عنه؛ قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه". (1) قال عياض في الإكمال: "لا ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يحمل الناسَ على اجتهاده ومذهبه؛ وإنما يغيِّر منه ما اجتمع على إنكاره وإحداثه". (2)
وقال الأبي في إكمال الإكمال: "وشرطُ القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العلم، ثم ما اشتهر حكمُه كالصلاة وحرمة الزنا، يستوي في القيام به العلماء وغيرهم، وما دق من الأعمال والأقوال فإنما يقوم به العلماء. ثم العلماء لا يغيرون إلا ما اتُّفق عليه، ولا يغيرون في مسائل الخلاف؛ لأنه إن كان كلُّ مجتهد مصيبًا فواضح، وكذلك على أن المصيب واحد؛ لأن المخطئ غير آثم. نعم، يندب للخروج من الخلاف للاتفاق على رجحان الخروج منه". (3)
قال فقهاؤنا: يغير المنكرَ باليد كلُّ مَنْ له سلطةٌ كالأمراء وولاة الحسبة، ويغير باللسان مَنْ لا سلطةَ له على الناس، ويغيره بقلبه من خشي ضررًا إذا غيره بلسانه. ومعلومٌ أن المراد بالعلماء في كلام الأبي العلماء الراسخون الذين اطلعوا على مختلف أقوال الأئمة وعرفوا المتعارضات ووجوهَ الجمع بينها، لا الذين تلقفوا كلماتٍ لم يحسنوا تنزيلَها، كما بينه القرافي في الفرق الثامن والسبعين. (4)
(1) سبق تخريجه.
(2)
اليحصبي: إكمال المعلم، ج 1، ص 289.
(3)
الأبي: إكمال الإكمال، ج 1، ص 154.
(4)
القرافي: كتاب الفروق، ج 2، ص 543 - 547 (الفرق الثامن والسبعون)، وقد سبق للمصنف أن أورد زبدة كلام القرافي أثناء بحثه على حديث "من كتم علمًا" في القسم الثاني من هذا المجموع، فانظره هنالك.
فإذا تقرر هذا، عُدنا إلى الكلام على البدعة بالمعنى الأعم، لأنه الذي يناسب إطلاقاتِها في الآثار، وهو المقدارُ المسوق له تعريفُ عز الدين بن عبد السلام. والبدعة بهذا المعنى تنقسم انقسامًا أوليًّا إلى قسمين: قسم يرجع إلى الديانات، وقسم يرجع إلى العادات.
فأما القسم الذي يرجع إلى الديانات، فرجوعُه إليها إما شديد التعلق بها وإما ضعيف التعلق. فأما شديدُ التعلق فمنه ما يكون في العبادات كالتثويب، وهو النداءُ بعد الأذان بنحو "حي على الفلاح" لقصد تنبيه مَنْ يغفل عن الوقت، لا سيما إذا بَعُد ما بين الأذان والصلاة. وكذلك الضحية عن الميت.
ومنه ما يكون في المعاملات، مثل الكراء المؤبَّد المعبَّر عنه بالإنزال أو بالجلسة. (1) ومنه الطلاق البدعي. وقولهم:"تحدث للناس أقضيةٌ بقدر ما أحدثوا من الفجور"، (2) وقد أحدثوا أساليبَ المرافعات المعبَّر عنها بأحكام القضاء. غير أن
(1) قال علامة الزيتونة في القرن الثالث عشر الهجري الشيخ إبراهيم الرياحي (1180/ 1767 - 1266/ 1850): "الإنزال والخلو والجلسة، ألفاظٌ متحدة الذات مختلفة بالاعتبار في الاصطلاح. فذاتها ومعناها: المنفعة التي يملكها دافعُ الدراهم لمالك الأصل مع بقاء ملكه للرقبة، فإن كانت الرقبة التي هي الأصل أرضًا عُبِّر عن تلك المنفعة بالإنزال عند بعض الناس، وإن كانت في حوانيت أو دور عبر عنها بالخلو في غير اصطلاح أهل فاس، وفي اصطلاحهم يعبر عنها في الحوانيت بالجلسة، وإن كانت في دور يسكنها اليهود عبر عنها بالخرقة في تونس". محمد ابن الخوجة: المجموع في مسائل الإنزالات والخلوات والكردار (تونس: المطبعة الرسمية، 1316 هـ)، نقلًا عن التوزري العباسي، محمد بن يونس السويسي: الفتاوى التونسية في القرن الرابع عشر الهجري (تونس: دار سحنون/ بيروت: دار ابن حزم، ط 1، 1430/ 2009)، ج 1، ص 590، الحاشية رقم 1.
(2)
يُنسب هذا القولُ نسبةً مشهورة إلى عمر بن عبد العزيز، وقد عده كثير من الفقهاء - وخاصة المالكية ومنهم المصنف - قاعدةً مهمة من قواعد التفقه في الشريعة، وتنزيل أحكامها على الوقائع. النباهي المالقي، أبو الحسن بن عبد الله بن الحسن: تاريخ قضاة الأندلس المسمى كتاب المراقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي (بيروت: دار الآفاق الجديدة، ط 5، 1403/ 1983)، ص 107؛ الشاطبي: كتاب الاعتصام، ج 2، ص 3؛ الزرقاني، محمد بن =
بِدعَ المعاملات لمَّا كانت مشتملةً على معان وعلل لم تعدم أن تكون ظاهرةَ اللحوق بأحكام أمثالها، فلا تُعطى حكمًا متحدًا من كراهة أو حرمة أو غيرهما.
وأما العباداتُ فلما لم يكن للقياس فيها مدخل، كان حكمُ وقتها ومكانها قريبًا من حكمها. (1) فرأيُ مالك أن حكمها الكراهةُ مطلقًا، ومرادُه بالكراهة أنها يُثاب على تركها ولا يُعاقَبُ على فعلها. فكراهته الضحية عن الميت؛ لأن الشأن أن ذبح الحيوان ونحره ليس بعبادة في ذاته إلا في الضحية والهدي، وفيما عداهما لا يقصد الشارعُ إلا الصدقةَ باللحم أو بغيره، وليس الذبح بمقصود في ذاته. فالهدي عبادةٌ غيرُ خاصة بوقت، ولذلك صح نذره. والضحية سنة خاصة بيوم خاص،
= عبد الباقي بن يوسف: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي (القاهرة: دار الحديث، 1427/ 2006)، "كتاب الأقضية"، ج 4، ص 61. وفي بيان أصل العمل بهذه القاعدة ذكر ابن فرحون أن محمد بن وضاح القرطبي (199 - 287 هـ) قال:"قلت لسحنون: إن ابن عاصم (وكان محتسبًا بالأندلس) يُحلِّف الناس بالطلاق ويغلظ عليهم بذلك (إن ارتاب فيه)، فقال: ومن أين أخذها؟ فقلت له: من الأثر: تحدث للناس أقضية يقدر ما أحدثوا من الفجور، فقال: مثل ابن عاصم يتأول هذا"، "تعظيمًا لشأن ابن عاصم؛ لأنه روى عن ابن القاسم" وعن أشهب من أصحاب مالك. ابن فرحون: تبصرة الحكام، ج 1، ص 158؛ ج 2، ص 126 و 170. وابن عاصم هو أبو الوليد حسين بن عاصم بن كعب، الثقفي القرطبي، من رواة العتبية وغيرها. توُفِّي سنة 218 هـ. وقد شنع ابنُ حزم على هذه المقولة وأنكرها، معتبرًا إياها عظيمة "من توليد مَنْ لا دينَ له، و [أنه] لو قال عمر ذلك لكان مرتدًّا عن الإسلام"؛ لأنه "لا يجيز تبديلَ أحكام الدين إلا كافر". وقد علق الدكتور إحسان عباس على المقولة المذكورة بقوله: "وهي كلمة حكيمة جليلة، لا كما فهم ابن حزم. فإن معناها أن الناس إذا اخترعوا ألوانًا من الإثم والفجور والعدوان، استحدث لهم حكامهم أنواعًا من العقوبات والأقضية والتعازير - مما جعل الله من سلطان للإمام - بقدر ما ابتدعوا من المفاسد، ليكون زجرًا لهم ونكالًا". ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام، ج 6، ص 109.
(1)
راجع مناقشة المصنف لمسألة التعليل ومراتبه ومجالاته في: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 239 - 247 و 346 - 364.
ولذلك لم يصح نذرُ ضحية في يوم آخر. وكذلك كره التثويب، (1) وكره العتيرة - وهي الذبح عن الميت في غير يوم الأضحى - ولم يكره الهدي عن الميت، وأجاز إسحاق بن راهويه التثويب. (2)
وفي التوضيح على مختصر ابن الحاجب عند قول ابن الحاجب: "وكذلك (أي مستحَبٌّ غير مكروه) قراءةُ شيءٍ من القرآن عند رأسه (أي الميت) "، (3) ما نصُّه: "والكراهةُ لمالك في رواية أشهب، [واحتج على ذلك بأن عمل السلف اتصل على ترك ذلك، ذكر ذلك صاحب البيان وغيره، وصاحب الرسالة، فقال: وأرخص بعضُ العلماء في القراءة عند رأسه بسورة يس، ولم يكن ذلك عند مالك أمرًا معمولًا به، انتهى. وهذا هو الظاهر، وفي حمل ابن حبيب نظر]، إذ ليس لنا أن نرتِّبَ الأسبابَ والمسبَّبات (أي بأن نجعل الاحتضار سببًا لاستحباب قراءة يس، قاله الناصر اللقاني في الحاشية على التوضيح). وما حدَّه الشرعُ وقفنا عنده، وما أطلقه ولم يَخُصَّه بسبب أطلقناه. وما تركه السلفُ تركناه، وإن كان أصلُه مشهودًا له بالمشروعية كهذه القراءة. وللشرع حكمةٌ في الفعل والترك، وفي تخصيص بعض الأحوال بالترك، كالنهي عن القراءة في الركوع والأمر بها في القيام. فتمسَّكْ بهذه
(1) التثويب من ثاب يثوب، إذا رجع. فهو بمعنى الرجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة، فإن المؤذن إذا قال:"حي على الصلاة"، فقد دعاهم إليها، فإذا قال:"الصلاة خير من النوم" فقد رجع إلى كلام معناه: المبادرة إليها. وفسّره بعضُ علماء اللغة بمعان منها: الدعاء إلى الصلاة، وتثنية الدعاء، وأن يقول في أذان الفجر "الصلاة خير من النوم" مرتين. ومن العلماء من ميز بين تثويب قديم، وهو قول المؤذن في صلاة الصبح:"الصلاة خير من النوم" مرتين، وتثويب محدَث وهو قوله:"الصلاة الصلاة" أو "قامت قامت". والظاهر أنه غلب استعمالُه بين أئمة الحديث في القول المذكور أثناء الأذان، وربما أطلق على مطلق الدعوة بعد الدعوة، فيعم ما إذا نادى المؤذن بعد تمام الأذان بالقول المذكور أيضًا أو بغيره مما يفيد الدعوة إليها بأي لفظ شاء.
(2)
انظر في ذلك: ابن رشد: البيان والتحصيل، "كتاب الصلاة الثالث"، ج 1، ص 435 - 436.
(3)
ابن الحاجب، أبو عمرو جمال الدين عثمان بن عمر بن أبي بكر: جامع الأمهات أو مختصر ابن الحاجب الفرعي (ومعه درر القلائد وغرر الطرر والفوائد لأبي عبد الله المقري)، تحقيق أبي الفضل بدر العمراني الطنجي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1425/ 2004)، ص 65.
القاعدة، فإنها دستور للتمسك بالسنة وقاعدة مالك". (1)
أقول: مُدرَكُ الخلاف بين مالك وأصحابه وبين من خالفهم هو النظر إلى أن سكوتَ الشريعة وتركها التعرض لحكم شيء هل يُعد موجِبًا لإمساكنا عنه مطلقًا أو أن السكوت لا حجةَ فيه لإقدام ولا إمساك؟ فيُرْجَع بالفعل إلى أصل نظائره من الأفعال، بخلاف ما نهي عنه مثل القراءة في الركوع والدعاء فيه.
أما مذهب ابن حبيب ومَنْ وافقه، فقد خالفوا مذهبَ إمامهم في القراءة على الميت، لِمَا رجح عندهم من الدليل الموجِبِ للخلاف من حيث إن القراءة في ذاتِها عبادة، فهي مشهودٌ لها بالاعتبار. (2) وغايةُ ما في إيقاع القراءة عند الميت أنه تعيينُ حالةٍ تكون كالوقت للعبادة لمقصد حسن، وهو انتفاعُ الميت بثوابها. والشريعةُ مبنيةٌ على الرحمة، فرأوا أن لا مانعَ من تعيين وقت لها، ولذلك لم يخالفوه في كراهة التضحية عن الميت ونحوها.
وأما ضعيف التعلق بالديانات فهو ما ليس قربةً، ولا حقًّا للناس، ولا داخلًا في أحد هذين، ولكنه يتعلق بأمر هو من خصائص الإسلام، وذلك مثل محراب القبلة، وفرش المساجد بالبسط، وإعلاء المنبر، وتفخيم بناء المسجد دون تزويق، وخروج المؤذن بين يدي الإمام يوم الجمعة، وإطلاق المدفع إعلامًا بوقت الغروب في رمضان، وإقامة أعلام لبعض مواضع مناسك الحج كمواضع الجمرات الثلاث، ومثل إحداث نقط حروف المصحف وشكلها. وهذا النحو بالعادات أشبهُ منه بالعبادات؛ لأن مرجعه إلى تسهيل المكلَّف، ومعظم علماء الأمة على الرخصة فيه.
(1) المالكي: التوضيح، "كتاب الصلاة"، ج 2، ص 122 - 123 (وما بين الحاصرتين لم يورده المصنف وجلبناه استكمالًا لمساق الكلام.
(2)
ابن رشد: البيان والتحصيل، "كتاب الصلاة الرابع"، ج 2، ص 234.
وقد اتخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه المصابيح في المسجد النبوي، فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"نور الله مضجعك (قبرك) يا ابن الخطاب كما نورت مسجدنا". (1) ووسع عثمان رضي الله عنه المسجد النبوي، وأدخل فيه بعضَ حجرات أمهات المؤمنين، ولم ينكره عليه أحدٌ من علماء الصحابة، وبنى علي رضي الله عنه السجن. ولا يخالف في هذا النحو إلا غلاةُ المتعمِّقين الذين يذمون كلَّ ما حدث ولو كان مصلحة، وأولئك ليسوا بأحرياء لتدبير أمور الأمة، وضررُهم اللاحق بالأمة أكثرُ من نفعهم.
وأما القسم الراجع إلى العادات، فهو إما راجع إلى عادات تتعلق بالمسلمين بوصف كونهم مسلمين، وهو ما يراد إيجاده في شؤونهم الإسلامية، فإن كان راجعًا إلى أصلٍ كلي من الشريعة بأن يكون جزئيًّا من جزئيات أصل شرعي، فحكمه كحكم أصله، ويكون إدخاله تحت أصله بطريقة تحقيق المناط، أي إثبات العلة في آحاد صورها أو إدخال الجزئيات تحت قاعدتها كجمع المصحف في زمن أبي بكر رضي الله عنه.
وكذلك ما حدث بعد هؤلاء الصحابة من أفعال المسلمين الجارية على المصلحة إلى عصرنا هذا، كجمع الحديث النبويّ في زمن عمر بن عبد العزيز، وتدريس العلوم في المساجد، وكذلك تأليف الجمعيات الخيرية لإغاثة المعوزين واتخاذ الملاجئ لتربية الأيتام. وهذا كله من البدع المحمودة الداخلة تحت حديث:"مَنْ سنَّ في الإسلام سنةً حسنة له أجرُها وأجرُ من عمل بها إلى يوم القيامة". (2)
(1) أورد ذلك الآجري في روايتين بسياقين مختلفين (أحدهما الذي ذكره المصنف) بلفظ "قبرك" بدل "مضجعك". الآجري، أبو بكر محمد بن الحسين: الشريعة، تحقيق الوليد بن محمد بن نبيه سيف النصر (الجيزة: مؤسسة قرطبة، ط 1، 1416/ 1996)، "باب اتباع علي رضي الله عنه في خلافته سنن أبى بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم"، الحديثان 1298 و 1300، ج 3، ص 26 - 28.
(2)
كذا أورده المناوي أثناء شرحه حديث: "إذا مات الإنسان (وفي رواية: ابن آدم) انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، ولم يخرجه. فيض القدير، الحديث 850، ج 1، ص 437 - 438. ومنها ما رواه جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير =
وإن كان الأمر الحادث مشهودًا لأصله بالإلغاء شرعًا فهو كأصله، كابتداع التدخين بالحشيشة المخدرة وامتصاص الأفيون وانتشاق الكوكايين.
وأما الراجعُ إلى العادات المحضة التي لا نظرَ فيها إلى كون أهلها مسلمين أو غير مسلمين، فكلُّ ما حدث أو ظهر وجودُه بعد زمن النبوة في البلاد التي أسلم أهلُها من عوائد لم تكن معروفة في زمن الشارع حتَّى يُسألَ هو عنها. وهذا كاتخاذ المناخل عند العرب، ولبس البرانس للبربر، ولبس [الأثواب] الطويلة في بلاد الفرس. وكذلك ما أحدثه المسلمون، مثل لبس الطيالسة، ولبس الجوخ، واللباس النظامي للجنود ولأهل الدولة في معظم بلاد الإسلام، مثل بلاد الترك وبلاد الفرس ومصر وتونس من القرن الماضي الهجري. وكذلك عوائدُ الناس في حفلاتهم وأعراسهم ومآتِمهم مما ليس بمنهيٍّ عنه شرعًا. فقد بنى الصحابةُ القصور، واستفرهوا المراكب، واستجادوا الطعام واللباس.
وهذا النوع لا يُقْدمُ عالِمٌ على القول بالنهي عنه، إذ لم تجئ الشريعةُ لحمل الناس على لزوم حالة في حضارتهم وأحوالهم، ما دامت أحوالُهم داخلةً تحت قسم المأذون فيه شرعًا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"أنتم أعلم بأمور دنياكم". (1)
ولم يزل المسلمون يتقلبون إلى أحوال لم يكونوا عليها في زمن النبوّة، ولم يروا في ذلك حرجًا، إلا أفرادًا شذوا منهم مثل أبي ذر رضي الله عنه، لم ير الصحابةُ تأييدَهم، وربما أنكروا عليهم.
= أن ينقص من أوزارهم شيئا". وقد أورده بهذا اللفظ ابن حجر حيث قال: "وقد أخرج مسلم من حديث جرير: "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرُها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". فتح الباري، "كِتَاب الدِّيَاتِ"، ج 3، ص 3046.
(1)
صحيح مسلم، "كتاب الفضائل"، الحديث 2363، ص 923. وانظر في تأصيل المصنف لهذا المعنى فصل "مقصد الشريعة من التشريع: تغيير وتقرير"، من كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 340 - 345.
وينشأ من بين القسمين الأصليين قسمٌ وسط، وهو الأمور المحدثة التي لم يشهد الشرعُ باعتبارها ولا بعدمها، وأصلُها أن تكون مباحة، ولكن مقصد الآتين بها هو التقربُ إلى الله والطمع في الثواب مع صحة أسبابها. وهذا القسم منه ما هو في ذاته قربة، إلا أنه كان التقربُ به في مواضع أو أزمنة معينة، فيريد الناس إحداث التنفل بعشرين ركعة بعد العشاء في خصوص ليالي رمضان، ومثل قراءة فاتحة الكتاب عند الفراغ من صلاة الجنازة لإهداء ثوابها إلى الميت. فإن كانت أسبابُها غيرَ صحيحة كان فعلُها عبثًا كإحداث صلاة في يوم الأربعاء الأخير من شهر صفر لدفع البلاء الذي ينزل في صفر في اعتقاد المتطيرين أصحاب الأوهام. (1)
ومنه ما ليس أصله عبادة، وقد اختُرِع للتقرب به إلى الله بعلة إدخاله تحت كلية العبادة إدخالًا قريبًا أو بعيدًا، فالبعيد مثل إحداث لبس الصوف للزهاد لأنه أدخل في الزهد، والإدخال القريب مثل استقبال القبلة بالمحتضر تبركًا، تشبهًا باستقبال القبلة بوجه الميت حين قبره. وهذا القسم بصنفيه كان حقُّه الإباحة نوعًا أو وقتًا أو هيئة، لكنه لما أريدت به القربةُ بنوعه أو وقته أو هيئته صار غير مناسب للبقاء على الإباحة؛ لأنه إن غلب عليه جانبُ قصد القربة فهو جدير بالندب لأجل حسن القصد به. وإن الإقدام على اختراع شيء في العبادات بدون إذن من الشرع كان جديرًا بالالتحاق بالمكروه لما فيه من الزيادة على ما خلفه الشارع لنا، فلزم التفصيل.
ومن هنا قلت في الفتوى: "فتكون قراءة القرآن في تلك المواطن إما مكروهة، وإما مباحة غير سنة، فتكون مندوبة في جميعها إلخ"، (2) فأردتُ من الإباحة ما قابل الكراهة، أي غير منهي عنها. وإذا كانت مباحة وكانت عبادة، لزم أن تخرج من الكراهة
(1)"لا طيرة ولا صفر"، "لا عدوى ولا صفر"، "ولا هامة ولا غول ولا طيرة ولا نوء"، انظر ما كتبه المصنف في ذلك في آخر القسم الثاني.
(2)
راجع النص الكامل للفتوى المشار إليها في هذا القسم، وهي بعنوان:"حكم قراءة القرآن على الجنازة".
إلى الندب، ولهذا لم يقل أحد من أصحابنا (1) بأن قراءة القرآن على الجنازة مباحة.
هذا وقد صرح عز الدين بن عبد السلام في قواعده بأن البدعة تعتريها الأحكامُ الخمسة وأجمَلَ الأمثلة، (2) وفصل ذلك شهاب الدين القرافي في الفرق الثاني والخمسين والمائتين من كتاب "الفروق" بأن أقسام البدعة خمسة: منها واجب وهو ما تناولته أدلةُ الوجوب كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع؛ فإن التبليغ لِمَنْ بَعدنا من القرون واجبٌ إجماعًا. الثاني: محرم وهو ما تناولته أدلةُ التحريم كالمكوس والمظالم. الثالث: مندوب وهو ما تناولته قواعدُ الندب، كصلاة التراويح وإقامة صور الأئمة والقضاة على خلاف ما كان عليه أمر الصحابة، بسبب أن المصالح الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة في نفوس الناس، وكان الناس في زمن الصحابة مُعظمُ تعظيمها إنما هو بالدين، ثم حدث قرنٌ لا يعظمون إلا بالصور. القسم الرابع: بدع مكروهة كتخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادات، كالزيادة في المندوبات مثل الزيادة في التسبيح عقب الصلوات على ثلاثة وثلاثين، والزيادة في زكاة الفطر على الصاع. الخامس: البدع المباحة كاتخاذ المناخل للدقيق. فالبدعة إذا عُرضت على قواعد الشريعة وأدلتها، فأي شيء تناولها من الأدلة والقواعد أُلحقت به، وإن نُظر إليها من حيث الجملة بالنظر إلى كونها بدعة مع قطع النظر عما يتقاضاها كرهت. (3)
وهو كلامٌ نفيس جارٍ على القواعد، وموافق لمذهب مالك. وقد سلمه ابن الشّاط وغيره. فمن العجب محاولة الشاطبي في كتاب "الاعتصام" أن ينقضَه بتطويل لا طائلَ تحته، ولا توافقه نصوصُ أئمة المذهب ولا مداركُه. وقد حاول أن
(1) يعني المالكية.
(2)
ابن عبد السلام: القواعد الكبرى، ج 2، ص 337 - 339.
(3)
القرافي: كتاب الفروق، ج 4، ص 1333 - 1335 (الفرق الثاني والخمسون والمائتان، وقد أورد المصنف كلامه باختصار).
يبين فرقًا بين ما أدخله القرافي من البدع في حكم الواجب والمندوب والمباح والمكروه فحاول عسفًا، وصار استدلالُه فيه خلفًا. (1)
ومن العجب أنِّي رأيتُ مَنْ يعوِّل على كلام الشاطبي ويرد به كلامَ القرافي، وهذا صنع باليد، وهلَّا عَكَسَ أو توقف؟ (2) ثم إن كلام القرافي صريحٌ في أن الكراهة تُوصف بها البدعةُ في العبادة، كما مثل به القرافي، وكما رُوي عن مالك رضي الله عنه من قراءة القرآن على الميت. (3) فمن العجب أن يزعم أبو إسحاق الشاطبي أن البدعة في العبادة لا توصف بالكراهة، وأن مراد مالك بالكراهة هنا الحرمة، فيخالف أصحابَ مالك وأئمة مذهبه قاطبة.
واعلم أن أبا إسحاق الشاطبي ألف كتاب "الاعتصام" في البدع، وحصر البدعة في إحداث ما من شأنه أن يرسمه الشارع للتعبد. وكأن رائده في ذلك أنه يحاول حملَ حديث "كل بدعة ضلالة" على ظاهر عمومه، ليحصر مسمّى البدعة فيما هو حرامٌ ليصح الحكم عليه بأنه ضلالة، ويريد التفصِّي من حمل لفظ البدعة على أصل معناه، وهو ما حدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لم يجد محيصًا من الاعتراف بأن الحادثات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعتريها الأحكام الخمسة، فلا يصح الحكمُ على عمومها بأنه ضلالة، فخصّ لفظَ البدعة بالمحدث في العبادة، وهو صنع باليد. ومن هنالك ترقَّى إلى الجزم بأن حكم هذا النوع التحريم، وأخذ يرتبها في دركات العصيان، وهي طريقة غريبةٌ لم يقل بها أحدٌ من أئمة المذهب. وأراه لا ملجأ له من أحد أمرين:
(1) انظر: كتاب الاعتصام، ج 1، ص 127 - 133.
(2)
أي أنه كان الأجدر ردُّ كلام الشاطبي بكلام القرافي، وإلا فالتوقف وعدم الخوض في الموضوع أَولَى. وقوله "منع باليد"، معناه - والله أعلم - الرد بدون دليل أو برهان، وإنما التعويل على مجرد التحكم.
(3)
قال سحنون: "قلت لعبد الرحمن بن القاسم: أي شيء يقرأ على الميت في قول مالك؟ قال: الدعاء للميت. قلت: فهل يقرأ على الجنازة في قول مالك؟ قال: لا". المدونة الكبرى، "كتاب الجنائز"، ج 1، ص 267.
1 -
إما الاعترافُ بأن بعض البدع داخلٌ تحت المأذون فيه من واجب ومندوب ومباح، أو تحت المنهيِّ عنه نهيًا غير جازم، وهو المكروه كما هو مقتضى اللغة، وكما ورد في كلام بعض السلف ومصطلح الجمهور الذي جرى عليه مالك وأصحابه، وأفصح عنه كلامُ ابن العربي والغزالي وعز الدين ابن عبد السلام والقرافي. وتلك غيرُ داخلة تحت عموم الأحاديث القائلة بأن "كل بدعة ضلالة"، فلزم تخصيصُ هذه الأحاديث.
2 -
وإما إباية ذلك بأن يدعيَ أن اسمَ البدعة لا يُطلق شرعًا إلا على المحدث في العبادة، ولا يُطلق على كلِّ محدث ولا على كل محدث يتعلق بالدين. فيلزمه أن يُخرِجَ من البدعة ما حدث من العقائد الضالة والمعاملات الباطلة، كالطلاق البدعي. فلا يحصل المقصودُ من بقاء حديث "كل بدعة ضلالة" على عمومه، ويلزمه القولُ بأن لفظَ البدعة صار من المنقولات الشرعية، والنقلُ خلافُ الأصل. والتخصيص أوْلَى من النقل، كما تقرر في الأصول. (1)
(1) معنى كون التخصيص أولى من النقل هو أن الشرع تصرف في اللفظ أو الاسم بأن خصه ببعض معانيه أو مسمياته التي له في وضع اللغة أو قصره عليها، لا أنه نقله إلى معنى أو مسمى جديد سواء أكان ذلك لوجود علاقة بين المعنى الأصلي والمعنى الجديد أو لم يكن، ومن ذلك الصلاة والحج والصوم وغيرها. وقد ذهب المعتزلة والخوارج وبعض الفقهاء والأصوليين إلى القول بجواز نقل الشارع ألفاظًا من معانيها اللغوية إلى معان شرعية نقلًا كليًّا بدون وجود علاقة بين الصنفين من المعاني، بحيث تكون المعاني الشرعية أمورًا جديدة مبتكرة. وإذا حصل وجود علاقة بين المعنى اللغوي المنقول منه اللفظ والمعنى المنقول إليه، فإن ذلك ليس مقصودًا وإنما هو مجرد اتفاق. وقد تصدى الباقلاني لرد هذا الرأي مستمسكًا بالقول بأنه لا نقل من أي نوع كان البتة، وأن الألفاظ في لسان الشرع باقية إلى أصل معناها اللغوي، وأن ما قد يحصل فيها من معنى زائد في بعض الأحيان إنما هو من قبيل الشروط، وأن لا تغير في ماهية اللفظ. أما جمهور الأصوليين فذهبوا إلى أن الشرع إنما تصرف في الألفاظ اللغوية كما يتصرف أهل العرف في استعمالهم ألفاظ اللغة بنقل بعضها عن معناه الموضوع له في الأصل إما عن طريق المجاز أو قصر اللفظ على بعض معناه، وهذا هو التخصيص. وقد توقف بعض الأصوليين فلم يقطعوا في المسألة برأي، وأبرزهم الآمدي. انظر في ذلك مثلًا: الباقلاني، القاضي أبو بكر محمد بن الطيب: التقريب والإرشاد =
ثم دعواه أن المحدث في العبادة لا يكون إلا حرامًا كلامٌ لا يستقيم، إلا إذا حمله على إحداث أجناس العبادات. أما إحداثُ مواقيت أو أحوال أو التزام أسباب فلا يسبب له التحريم، وإن أقصى أقوال المشددين فيه مثل مالك رضي الله عنه هو الكراهة. وعلى تسليم هذا، فقد صار الخلافُ في مسمَّى اللفظ، ويلزمه أن يكون إطلاقُ اسم البدعة على غير ذلك إطلاقًا مجازيًا، ويتطرق الاحتمال إلى الإطلاقات فيسقط الاستدلال بكثير من تلك الشواهد التي جلبها من كلام السلف في لفظ البدعة بأنهم أرادوا بها المعنى المجازي. على أن صنيعه وإن انتفع به في حديث "كل بدعة ضلالة" لا ينفعه في حديث "كل محدثة بدعة" إلا إذا لجأ إلى تخصيص العموم بصنف من المحدثات. وقد علمت أنه تجنب طريقةَ التخصيص في نظيره، وبهذا الإلجاء تنحل عُرى كتابه.
فهذا إقليدُ (1) الدخول إلى مباحث البدعة، فشُدَّ به يدًا، ولا تكن كالذين أصبحوا فيه طرائقَ قِدَدًا.
= "الصغير"، تحقيق عبد الحميد بن علي أبو زنيد (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1418/ 1998)، ج 1، ص 387 - 397؛ البصري، أبو الحسين محمد علي بن الطيب: كتاب المعتمد في أصول الفقه، تحقيق محمد حميد الله بتعاون محمد بكر وحسن حنفي (دمشق: المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية، 1384/ 1964)، ج 1، ص 23 - 26؛ الفراء الحنبلي، أبو يعلى محمد الحسين: العدة في أصول الفقه، تحقيق محمد عبد القادر أحمد عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1423/ 2002)، ج 1، ص 126 - 127؛ الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد: المستصفى من علم الأصول، تحقيق محمد سليمان الأشقر، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1417/ 1997)، ج 2، ص 15 - 18؛ المازري: إيضاح المحصول، ص 153 - 158؛ الآمدي، علي بن محمد: الإحكام في أصول الأحكام، علق عليه الشيخ عبد الرزاق عفيفي (الرياض: دار الصميعي للنشر والتوزيع، ط 1، 1424/ 2003)، ج 1/ 1، ص 56 - 67. وانظر بحثًا للأستاذ أبي زنيد استقصى فيه أطراف المسألة في مقدمة تحقيقه لكتاب الباقلاني: التقريب والإرشاد، ج 1، ص 104 - 134.
(1)
الإقليد: المفتاح.