الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين المسلمين، أو بينهم وبين الأمم المرتبطة بهم اختلالًا قويًّا أو قليلا. وذلك الاختلال قد يفضي إلى نقض أصولها، وامتشاق السيوف لتمزيق إهابها.
ومن القواعد المقررة في الحكمة: أن لا عبرة بوجودٍ يفضي إثباتُه إلى نفيه. ومن القواعد في أصول التشريع الإسلامي أن المناسبة التشريعية لا تُعتبر مناسبةً إلا إذا كانت غيرَ عائدةٍ على أصلها بالإبطال، وأنها تنخرم إذا لزمتها مفسدةٌ راجحة أو مساوية. وبقولٍ جامعٍ أقول: إن ما يتجاوز الحدودَ التي حدد الشرعُ بها امتدادَ الحرية في الإسلام لا يخلو عن أن يكون سببَ فوضى وخلع للوزعة بين الأمة، أو موجبَ وهَن ووقوعٍ في أشراك غفلة ومهاوي خطل سياسي. وتفصيلُ ذلك يحتاج إلى تحليل وتطويل لا يُعوز صاحبَ الرأي الأصيل.
المساواة:
نقفّي القولَ في الحرية ببيان المساواة: المساواة مصدر ساواه إذا كان سواءً له: أي مماثلًا، فالسَّواء المِثل. ولا يُتصور تمامُ المساواة بين شيئين أو أشياء في البشر؛ لأن أصل الخلقة جاء على تفاوت في الصفات المقصودة ذاتيةً ونفسية. وذلك التفاوت يؤثر تمَايُزًا متقاربًا، وذلك يقتضي تفاوت معاملة الناس بعضهم لبعض في الاعتبار والجزاء.
فلو دعت شريعةٌ إلى دحض هذه الفروق والمميزات لدعَت إلى ما لا يُستطاع: "وتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ"، (1) فضلًا عما في ذلك من حمل الناس على إهمال المواهب السامية، وذلك فسادٌ قبيح:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} [البقرة: 205].
ويكون الاقترابُ إلى الفساد يفيد الاقترابَ إلى الإفراط في إلغاء المميزات الصالحة، ولا تستقيم شريعةٌ ولا قانونٌ لو جاء بهذا الإلغاء، فإن الذين تطرَّفوا في
(1) هذا عجز بيت للمتنبي من قصيدة من البحر المتقارب قالها في مدح سيف الدولة، وتمام البيت:
يُرادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ
…
وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ
ديوان المتنبي بشرح البرقوقي، ج 3، ص 153.
اعتبار المساواة لا يسيرون طويلًا حتى تَجْبَههم سدودٌ لا يستطيعون اقتحامَها كالشيوعيين؛ فقد وقفوا في حدود عجزوا عن تحقيق مبدأ المساواة فيها، كمساواة أبكم لفصيح ومعتوهٍ لذكي. ومن هذا يتّضح القياس، وتظهر المساواةُ الحقة بين الناس، قال تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)} [فاطر: 19، 20]، وقال الله تعالى:{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44].
إذن فالمساواةُ تعتمد توفرَ شروط وانتفاء موانع. فالشريعة التي تبني المساواةَ على اعتبار الشروط والقيود شريعةٌ مساواتُها ضعيفة، والشريعة التي تبني مساواتها على اعتبار انتفاء الموانع شريعة مساواتها واسعة صالحة. ويظهر أن الدعوة الإسلامية بنت قاعدة المساواة على انتفاء الموانع، وشتّان بين قوة تأثير الشرط وتأثير المانع. والشريعةُ التي لا تقيّد المساواة بشيء شريعة مضلِّلة.
فإذا عددنا المساواة في أصول شريعة الإسلام، فإنما نعني بها المماثلةَ بين الناس في مقادير معلومة وحقوق مضبوطة من نظام الأمة، سواء كان الضبط بكليات ومستثنيات منها، أم كان بتعداد مواقع المساواة. فالمساواة في الإسلام تتعلق بثلاثة أشياء: الإنصاف، وتنفيذ الشريعة، والأهلية.
الأول: المساواة في الإنصاف بين الناس في المعاملات، وهي المعبَّر عنها بالعدل، وهو خصلةٌ جليلة جاءت به جميعُ الشرائع، وبيّنت تفاصيلَه بما يناسب أحوالَ أتباعها. وشريعةُ الإسلام أوسعُ الشرائع في اعتبار هذه المساواة، ففي خطبة حجة الوداع:"وإنّ ربا الجاهلية موضوع؛ وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وأن دماء الجاهلية موضوعة؛ وإن أول دمٍ أبدأ به دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب". (1)
(1) وقد رويت خطبة حجة الوداع باختلافات يسيرة في ألفاظها. انظر في ذلك مثلًا: سنن ابن ماجه، "كتاب المناسك"، الحديث 3055، ص 442؛ ابن هشام: السيرة النبوية، ج 2/ 4، ص 190. =
وفي الصحيح أن الرُّبَيِّع بنت النضر لطمت جاريةً فكسرت ثَنِيَّتَها، فطلب أهلُ الجارية القِصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فجاء أنس بن النضر أخو الرُّبَيِّع - وكان من خاصّة الصحابة من الأنصار - فقال: يا رسول الله، والله لا تُكسر ثنية الرُّبَيِّع، فقال رسول الله:"يا أنس كتابُ الله القِصاص"، ثم إن أهل الجارية رضوا بالأرش. (1)
وقصة الفزاري الذي لطمه جَبَلة بن الأيهم معروفة (2).
الثاني: المساواة في تنفيذ الشريعة وإقامتها بين الأمة، بحيث تجري أحكامُها على وتيرة واحدة، ولو فيما ليس فيه حقٌّ للغير مثل إقامة الحدود. وقد سرقتْ امرأةٌ
= وانظر نصها الكامل ومصادر روايتها مع التحقيق والمقارنة بين تلك الروايات في: حميد الله، محمد: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة (بيروت: دار النفائس، ط 7، 1422/ 2001)، ص 360 - 368.
(1)
صحيح البخاري، "كتاب الصلح"، الحديث 2703، ص 441؛ "كتاب التفسير"، الحديث 4500، ص 765؛ والحديث 4611، ص 788؛ صحيح مسلم، "كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات"، الحديث 1675، ص 662؛ سنن النسائي، "كتاب القسامة والقَوَد"، الحديثان 4766، ص 765 - 766؛ سنن أبي داود، "كتاب الديات"، الحديث 4595، ص 724.
(2)
جَبَلة بن الأيهم ملك غسان بدمشق، أسلم بعد فتح الشام وسكن المدينة، وحج مع عمر بن الخطاب، فبينما هو يطوف إذ وطئ رجلٌ من فزارة إزار جبلة، فانحل إزاره فلطمه جبلة فهشّم أنفه وكسر ثناياه، فاستعدى الفزاري عمر بن الخطاب على جبلة فقال عمر لجبلة: إما أن يعفو عنك الفزاري وإما أن يقتصّ منك؟ فقال جبلة: أيقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟ ! قال عمر: شملك وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعافية والتقوى. قال جبلة: ما كنت أظن إلا أن أكون في الإسلام أعزّ مني في الجاهلية. قال عمر: دع عنك هذا. فلما رأى جبلة الجدّ من عمر قال له: أنظر في أمري الليلة. فرحل جبلة بخيله ورواحله ليلًا ولحق بالشام ثم بالقسطنطينية فتنصر وبقي عند قيصر. - المصنف. هذا وكان جبلة بن الأيهم الذي حكم بين سنتي 632 و 638 للميلاد آخر ملوك الغساسنة في الشام، وهو الملك السادس والثلاثون في سلالة الغساسنة، وكان حليفًا للروم. انظر قصته مع اختلاف في تفاصيلها في: ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق محمد عبد القادر عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، 1412/ 1992)، ج 5، ص 256 - 260؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 263 - 269.
من بني محزوم من قريش حُليًّا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة الحدّ عليها، فقالوا:"من يشفع لها عند رسول الله؟ فقال قائل: ومن يجترئ عليه غيرُ أسامة بن زيد؟ فكلموا أسامة، فكلم أسامةُ رسول الله في شأنها؛ فغضب رسول الله وقال: "أتشفع في حدّ من حدود الله؟ "، [ثم قال: ] "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدّ. والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها"، (1) أشار كلامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما كان في الأمم السالفة من التفاضل في إقامة الشريعة. وقد كان ذلك في بني إسرائيل، كما ثبت في بعض طُرق هذا الحديث في الصحاح. (2) وثبت أن الرومان كانت عقوباتُ الجنايات المتماثلة تختلف عندهم على حسب اختلاف حالات المجرمين ووسائلهم.
الثالث: المساواة في الأهلية، أي في الصلوحية للأعمال والمزايا، وتناول المنافع بحسب الأهلية لذلك. وهذه قد تكون بين جميع مَنْ هم داخلون تحت سلطة الإسلام، وتكون بين المسلمين خاصة، وتكون بين أصناف المسلمين من الرجال أو من الأحرار أو من النساء.
والأصل في هذه الأهلية في الإسلام هو المساواةُ بين الداخلين تحت حكم الإسلام كلهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في أهل الذمة: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"، (3) ثم المساواة
(1) انظر عدة روايات للحديث مع اختلاف في بعض ألفاظها في: صحيح البخاري، "كتاب أحاديث الأنبياء"، الحديث 3475، ص 586؛ "كتاب المغازي"، الحديث 4304، ص 728؛ "كتاب الحدود"، الحديثان 6787 - 6788، ص 1170؛ صحيح مسلم، "كتاب الحدود"، الحديث 1688، ص 668؛ سنن الترمذي، "كتاب الحدود"، الحديث 1430، ص 367؛ سنن النسائي، "كتاب قطع السارق"، الحديث 4909، ص 787؛ سنن أبي داود، "كتاب الحدود"، الحديث 4373، ص 687.
(2)
صحيح البخاري، "كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"، الحديث 3733، ص 629. وفيه أنه عليه السلام قال:"إن بني إسرائيل كان إذا سرق فيهمُ الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضعيف قطعوه، لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها".
(3)
جاء تحت عنوان "حقوق أهل الذمة" في الموسوعة الفقهية: "القاعدة العاملة في حقوق أهل الذمة: أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهذه القاعدة جرت على لسان فقهاء الحنفية، وتدل عليها =
بين المسلمين في أحكام كثيرة بحكم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فقد جمع حكم الأُخوة باطّراد المساواة فدخل الرجال والنساء والأحرار والعبيد، إلا فيما دلت الأدلة على تخصيصه بصنف دون آخر تخصيصًا اقتضاه حالُ الفطرة أو مصلحة عامة. وفي الحديث:"الناسُ كأسنان المشط"، (1) فلم يقصر المساواةَ على
= عبارات فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة. ويؤيدها بعضُ الآثار عن السلف، فقد رُوِيَ عن علي بن أبي طالب أنه قال: إنما قبلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا". وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: الموسوعة الفقهية (الكويت: ذات السلاسل، ط 2، 1404/ 1983)، ج 7، ص 127. وانظر الكاساني: بدائع الصنائع، ج 9، ص 376 - 384؛ وكذلك زيدان، عبد الكريم: أحكام الذميين والمستأمنين (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1988)، ج 2، ص 70. هذا وقد اشتهر على الألسنة حديث "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"، إلا أن الألباني حكم بأنه "باطل لا أصل له". الألباني: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، الحديث 1103، ج 3، ص 222.
(1)
جزء من حديث عن سهل بن سعد أخرج بعضه الديلمي بلفظ: "الناس كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية، فلا تصحبن أحدًا إلا يرى لك من الفضل مثلَ ما ترى له". الديلمي: الفردوس بمأثور الخطاب، الحديث 6882، ج 4، ص 300. وقد استقصى الألباني طرقه وأسانيده في سلسلة الأحاديث الضعيفة، الحديث 596، ج 2، ص 60 - 62. وأخرجه ابن عدي في الضعفاء بلفظ: "الناس سواء كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية، والمرء كثير بأخيه، يرفده ويحمله، ولا خيرَ في صحبة مَنْ لا يرى لك مثلَ ما ترى له"، ثم قال بعد أن ذكر إثره حديثًا آخر:"وهذان الحديثان وضعهما سليمان بن عمرو على إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة". وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات. ابن عُدي الجرجاني: الكامل في ضعفاء الرجال، ج 4، ص 225؛ ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن جعفر: كتاب الموضوعات، تحقيق نور الدين بن شكري بن علي بويا حيلار (الرياض: أضواء السلف، ط 1، 1418/ 1997)، "كتاب معاشرة الناس"، الحديث 1508، ج 3، ص 273. وأما روايته بلفظ:"الناس مستوون كأسنان المشط، ليس لأحد على أحد فضل إلا بتقوى الله"، فقد أخرجه كذلك الديلمي (الحديث 6883، ج 4، ص 301). ويغني عن هذا الحديث ما جاء في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى". مسند أحمد بن حنبل، الحديث 23489، ج 38، ص 474؛ وأخرجه أبو نعيم بسنده عن جابر بن عبد الله. الأصفهاني: حلية الأولياء، ج 3، ص 119.
جنس أو قبيلة، ولم يقدم عربيًّا على عجمي، ولا أبيضَ على أسود، ولا صريحًا على مولَى، ولا لصيقًا ولا معروف النسب على مجهوله. وفي خطبة حجة الوداع:"أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلُّكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضلَ لعربي على عجمي إلّا بالتقوى". (1)
وقد كان تمايزُ الأجناس أو القبائل في القوانين والشرائع السالفة أصلًا في الأحكام؛ ففي التوراة سفر لخصائص اللاويين. (2) وعند الرومان والفرس وبني إسرائيل لم يكن للدخيل في الأمة مثلُ ما للأصيل. وعند العرب لم يكن للصريح ما للّصيق، بله الغريب عن القبيلة. والإسلامُ أبطل ذلك: أمَّر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وهو من موالي قريش، وأمَّر ابنَه أسامة بن زيد على جيش فتكلم في المرتين بعضُ العرب، فخطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إن تطعنوا في إمارته - يعني أسامة - فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل. وايم الله إن كان (أي زيد) لَخَليقًا بالإمارة، وإن هذا (أسامة) لمن أحبّ الناس إلَيّ". (3) فنبّه بقوله: "إن كان لخليقًا بالإمارة" على أن الاعتبار بالكفاءة، ونبّه بقوله:"لمن أحبّ الناس إلَيّ" على أنه إنما اكتسب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لفضله وكفاءته؛ إذ بذلك تُكتسب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
كذلك لم يختص الإسلامُ بالمساواة طبقة، وقد كان نظامُ الطبقات فاشيًا بين الأمم؛ فكانت الفرسُ والروم يعدّون الناس أربع طبقات: أشرافًا، وأوساطًا،
(1) حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية، ص 362 و 364 و 367).
(2)
وهو الذي يلي سفر الخروج ويسبق سفر العدد، يسمى كذلك بسفر الأحبار في بعض الترجمات العربية للعهد القديم. نظر مثلًا الكتب المقدسة: كتب العهد القديم، ص 138 - 182.
(3)
عن ابن عمر قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناسُ في إمرته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن تطعنوا في إمرته، فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل. وايْمُ الله، إن كان لخليقًا للإمرة، وإن كان لَمِن أحب الناس إلَيَّ، وإنَّ هذا لَمِنْ أحبِّ الناس إلَيَّ بعده"". صحيح البخاري، "كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"، الحديث 3730، ص 628؛ "كتاب الأيمان والنذور"، الحديث 6627، ص 1145؛ صحيح مسلم، "كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم"، الحديث 2426، ص 947.
وسفلة، وعبيدًا. وكان العرب يعدون الناس طبقاتٍ ثلاثًا: سادة، وسوقة، وعبيدًا. وكان الفُرس يخصون كلَّ طبقة بخصائص لا تبلغ إليها الطبقةُ التي دونها: سأل رستمُ قائد جيوش الفرس في حرب القادسية زُهرةَ بن حَوِيّة (1) عن الإسلام، فكان من جملة ما قاله زُهرة لرستم:"إن الناس بنو آدم، إخوة لأب وأم. فقال رستم: إنه منذ وَلِيَ أردشيرُ لَمْ يدَع أهلُ فارس أحدًا من السفلة يخرج من عمله، ورأوا أن الذي يخرج من عمله تعدّى طورَه وعادى أشرافه. قال زهرة: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقول، بل نطيع الله في السفلة ولا يضرُّنا مَنْ عصى الله فينا". (2) وكان العرب يفرقون في الدية بين السادة والسوقة، وفي الاقتصاص في الدماء، ويسمون ذلك بالتكايل، فيقدَّر دمُ السيد أضعافَ دم السوقة. فجاء الإسلام بإبطال ذلك، ففي الحديث:"المسلمون تتكافأ دماؤهم". (3)
ولم يعتبر الإسلام للطبقات أحكامًا في الأهلية للكمال إلّا في جعل الناس قسمين: أهل الحل والعقد، والرعية. فأهلُ الحل والعقد هم ولاةُ الأمور، وأهل
(1) زُهرة بن حَويّة - بضم الزاي من الاسم الأول وبفتح الحاء وكسر الواو وتشديد الياء من الاسم الثاني - تميمي صحابي، أسلم في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتُوفِّي سنة 77. - المصنف.
(2)
الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج 3، ص 518.
(3)
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم يردُّ مشدهم على مضعفهم، ومتسرِّيهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمنٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده". سُنَنُ أبي دَاوُد، "كتاب الجهاد"، الحديث 2751، ص 440؛ وعند النسائي روايتان ثانيتهما بلفظ:"عن أبي حسان الأعرج، عن الأشتر أنه قال لعلي: إن الناس قد تفشَّغ بهم ما يسمعون، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك عهدًا فحدثنا به، قال: ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدًا لم يعهده إلى الناس، غير أن في قراب سيفي صحيفة، فإذا فيها: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، لا يُقتل مؤمنٌ بكافر، ولا ذو عهد بعهده". "سنن النسائي، "كتاب القسامة والقود"، الحديثان 4754 - 4755، ص 764 (وتفشَّغ بهم: تفرق بهم وشوش عليهم، أو أدخل عليهم اضطرابًا)؛ وهي كذلك عند الحاكم: المستدرك على الصحيحين، "كتاب قسم الفيء"، الحديث 2680، ج 2، ص 167 - 168. وهو كذلك في سنن ابن ماجه، "كتاب الديات"، الحديث 2685.