الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذهب، وما يروى في ذلك فهو روايةٌ مقدوحٌ فيها". (1) وقال المازري:"فأما العين فقد حد في نصاب الفضة منه خمس أواقي. وذكر ذلك في الحديث دون الذهب؛ لأن غالبَ تصرفهم كان بها. وأما نصاب الذهب فهو عشرون دينارًا، والمعول في تحديده على الإجماع". (2)
وقد اعتمد الصحابةُ في تقدير نصابه على مقدار صرفه بالفضة، ولذلك أشار في الموطأ بقوله:"كما تجب في مائتي درهم".
المعنى الموجب للزكاة:
وقد أشار المازري إلى شرح معنى النماء هذا في الأجناس المزكاة فقال: "فمن ذلك ما ينمي بنفسه كالماشية والحرث، ومنها ما ينمي بتغيير عينه وتقليبه كالعين"، (3) ويعني بتغيير العين دفع مقدار منه، يعني فيما إذا بيع يأتي بأكثر مما دفع فيه، وذلك بالتقليب والترويج. [وقال: ] "وكما فُهم من الشريعة معنى تحديد النصاب (وهو الغنى)، فُهِم أيضًا أن ضربَ الحول في العين والماشية عدلٌ بين أرباب الأموال والمساكين؛ لأنه أمدٌ الغالبُ حصولُ النماءِ فيه، ولا يجحف بالمساكين الصبرُ إليه. ولهذا المعنى، لم يكن في الثمر والحب حول؛ لأن الغرضَ المقصودَ منه النماء، والنماء يحصل عند حصوله". (4)
(1) تعليق ابن عبد البر على كلام مالك جاء في الاستذكار لا في التمهيد، وقد أورده المصنف باختصار شديد فانظره في: موسوعة شروح الموطأ، ج 8، ص 274. أما الرواية المشار إليها فهي ما رواه الحسين بن عمارة عن أبي إسحاق السبيعي، عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هاتوا زكاةَ الذهب؛ من كل عشرين دينارًا نصف دينار".
(2)
المازري: المعلم بفوائد مسلم، ج 2، ص 5 - 6. هذا وقد أورد المصنف كلام المازري بتصرف واختصار وسقناه كاملًا بلفظه. وقريب منه قولُ ابن العربي:"وإنما خص الورق في الحديث الثاني لأنه كان مالهم، إنما كان التبر عندهم سلعة والمسكوك قليل". كتاب القبس، ج 1، ص 415.
(3)
المازري: المعلم بفوائد مسلم، ج 2، ص 5.
(4)
المصدر نفسه، ص 7. وقد ساق المصنف كلام المازري بتصرف غير يسير، وأوردناه بلفظه.
قلت: وبمقدار تكرر النماء تتكرر الزكاة، ألا ترى الحبَّ والتمر يُزَكَّيان مرةً واحدة، ثم لا تُعاد عليهما الزكاةُ ببقائهما مدخَرَيْن؟ بخلاف الماشية والعين فيزكيان؛ لأنه مظنة تكرر النماء فيهما.
هذا وقد ألْحقوا بهذه الأجناس كلَّ ما شاركها في الوصف، وهو كونُه غنى قابلًا للنماء أو معرَّضًا لذلك، مما لم يُنصَّ عليه في الكتاب والسنة. وذلك بطريق القياس، وسواءٌ في ذلك أكان الوصفُ متحقِّقًا في الخارج أو متحقِّقًا في التقدير، وذلك ديونُ التجارة ونحوها، كما يأتي تفصيلُه في زكاة الدين. (1) قال ابن عبد البر في الكافي:"فمتى عوض بغيرها (الأجناس المتقدمة) من العروض معناها بالتجارة وطُلب بالتصرف فيها النماءُ والزيادة، حُكِم لها بحكمها". (2)
فيُستخلص من جميع ما قدمنا أن الزكاة مشروعةٌ لأجل الغنى الحاصل بالمقدار والنماء، في أجناس يُعد تحصيلُها محصلًا لما يحتاج إليه الإنسان، أو صالِحًا للمعاوضة به مع الغير بما يحصل من الأمور المحتاج إليها، أو بكونه قيمةً لطرد التعامل بها. فكلُّ مال من هذا القبيل يُعَدُّ صاحبُه غنيًّا في مصطلح جمهور البشر، ويجدر بأن يُلحق بأقرب الأجناس لها شبهًا مما ورد النصُّ فيه من الكتاب أو السنة أو أقوال الأئمة، كما ألحق الصحابةُ الذهبَ بالفضة، وألحق الفقهاءُ بعدهم عروضَ التجارة وديونَها لقبولها للنماء. (3)
وقد نبَّهنا الشارعُ الحكيم على صحة هذا المعنى بطريق قياس العكس، حيث أسقط الشارع الزكاة على الذهب والفضة المتخذين حليًّا نظرًا إلى انقطاع معنى قصد النماء. قال ابن العربي في أحكام القرآن عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ
(1) انظر بيان ذلك في مقال سلف بعنوان "زكاة تذاكر البانكة".
(2)
ابن عبد البر: الكافي، ص 88.
(3)
ابن العربي: المسالك، ج 4، ص 22 - 51؛ ابن رشد: المقدمات الممهدات، ج 1، ص 139 وص 149 - 151؛ ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص 245 - 249 وص 259 - 263.
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]: "إن قصدَ التَّملك لمَّا أوجب الزكاةَ في العروض، وهي ليست بمحلٍّ لإيجاب الزكاة، كذلك كان قصدُ قطع النماء في الذهب والفضة باتخاذهما حليًّا يُسقط الزكاة، فإن ما أوجب ما لم يجب يصلح لإسقاط ما وجب، [وتخصيص ما عم وشمل] ". (1) وقال في القبس: "فإذا خرج المالُ عن أصله من النماء إلى القنية، فقد عدل به عن جهة النماء"، (2) فلذلك قلنا بسقوط الزكاة في الحليِّ المتخذ للقنية.
وعليه فلا يبعد أن يقول أحدٌ بمشروعية الزكاة في أوراق البانكة كزكاة النقدين، بأن تكون زكاتُها أوسعَ من زكاة الديون، فتجب فيها في كل عام على قدر قيمة رواجها في الصرف، حيث صار لها من الرواج ما للنقدين، وجُعِلتْ ثمنًا للأشياء، وقُصد بتقليبها النماء، وكان تحصيلُها غنًى معتبرًا. وهي وإن كانت في الأصل حججًا تُحَمِّل البنوك بمقدار ما فيها كما بيناه في غير هذا، (3) ولكن عرض لها من ثقة الناس بملأ المدين بها مع ضمان الحكومة وإجرائها مجرى النقدين في الرواج، كانت لذلك كالنقدين. (4) إلا أن رواجَها خاصٌّ بحكومتها، أو بالبلاد التي
(1) ابن العربي: أحكام القرآن، ج 2، ص 400.
(2)
المعافري: كتاب القبس، ج 1، ص 415 - 416. أورد المصنف كلام ابن العربي بتصرف واختصار، وقد جاء ذلك خلال حديثه عن زكاة الورق والذهب حيث قال: "واجتمعت الأمة على أن الذهب داخلٌ في قوله: خمس أوق، وإنما خص الورق في الحديث الثاني لأنه كان مالهم، إنما كان التبر عندهم سلعة والمسكوك قليل. وإلا فلا خلاف بين الأمة، وإنما اختلفوا في فرع من فروعه وذلك إذا اتخذ منه حليًّا. . . والمعوَّل فيها على نكتة بيناها في مسائل الخلاف أقواها أن النية والقصد المتغلق بالنماء والزيادة إذا أخرج المال من جنسه بسقوط الزكاة، وهو العوض، فيجب فيه إذا قصد به النماء وأخرج عن أصله من القنية لذلك العين إذ عدل بها عن جهة النماء إلى جهة القنية يخرج عن جنسها في وجوب الزكاة بسقوطها". ولا يخفى ما في هذا الكلام من اضطراب وتكرار لعله هو الذي حدا بابن عاشور إلى التصرف فيه.
(3)
انظر مقال: زكاة "تذاكر البانكة"(الأوراق المالية).
(4)
هذا وقد خص الشيخ الساعاتي مسألة زكاة الأوراق المالية ببحث ممتع في شرحه على مسند أحمد بن حنبل (آخر باب زكاة الذهب والفضة من كتاب الزكاة)، ختمه بقوله: "فالذي أراه حقًّا وأدين =
لحكومتها فيها اعتبارٌ قوي.
وهذا تفصيلُ ما ألمحنا إليه فيما كتبناه سلفًا بقولنا: "على أن هذا الرواجَ لا يخرج ماهية الديون عن أصلها الشرعي، وإذا لم يزدها قوة لا يكسبها ضعفًا"، (1) إذ نبهنا بذلك على أنها أجدرُ بالزكاة من أقوى أصناف الديون التي نص عليها المتقدمون؛ لأنها تفوقها في الرواج، لنردَّ بذلك على خطأ مَنِ اعتقد أن ذلك الرواجَ يُخرجها عن صفات الديون المنصوص على زكاتها، ويقربها شبهًا بالجلود التي يضربها السلاطين عند إفلاس خزائنهم، ويظلمون الرعايا؛ يجبرونهم على ترويجها.
وليس يلزم بحسب التعقل انحصارُ ثمنية الأشياء في خصوص الذهب والفضة معدنين يشاركهما في المعدنية الرصاصُ والصُّفْرُ، (2) وبشاركهما في اللون واللمعان الزجاج وغيره، ولذلك لم يكن لهما فضيلة إلا باصطلاح البشر على جعلهما ثَمَنيْن للأشياء من قبل كتابة التاريخ. ولا شك أن ذلك ناشئٌ عن صعوبة التعاوض بالأعيان لما فيها من عسر التجزئة ومن ثقل الحمل، ومن اختلاف الأغراض، مع ما في الذهب والفضة من الرغبة للتجمل بهما من قديم تمدن البشر.
ولا شك أن الذي يستفضل أشياء عن حاجته يميل إلى الترف، فكان من الترف عندهم التجملُ بالذهب والفضة لجمالهما، ولقلة المقدار الموجود منهما في
= الله عليه أن حكم الورق المالي كحكم النقدين في الزكاة سواء بسواء؛ لأنه يُتعامل به كالنقدين تمامًا ولأن مالكه يمكنه صرفه وقضاء مصالحه به في أي وقت شاء. فمن ملك النصاب من الورق المالي ومكث عنده حولًا كاملًا وجبت عليه زكاتُه باعتبار زكاة الفضة؛ لأن الذهب غير ميسور الآن ولا يمكنه صرفُ ورقة بقيمتها ذهبًا. هذا ما ظهر لي، والله أعلم بحقيقة الحال، وإليه المرجع والمآل". الساعاتي، أحمد عبد الرحمن البنا: بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني شرح ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، نشرة بعناية حسان عبد المنان (الرياض/ عمان: بيت الأفكار الدولية، بدون تاريخ)، "كتاب الزكاة"، ص 1292 - 1294.
(1)
انظر المقال السابق.
(2)
الصُّفر: النحاس، ويطلق كذلك على الذهب.
العالم. ولذلك رغب فيهما مَنْ كان متفضلًا، فباع ما فضل عنه بمقدار منهما، فإذا احتاج لأصول الأشياء باع ما لديه من الذهب والفضة للمتفضل بمقدار ما يحصل به على محتاجه.
فبتكرر هذا التعليل تعُورِفَا في التعاوض فصارا الثُمنِيَّيْن، ألا ترى أن المتقدمين كانوا يتعاملون بهما نقارًا ومصوغين، (1) ثم شاع ذلك مع تقادم العصور، حتى تُنُوسِيَ المقصد، وحتى أُشربت نفوسُ الناس حبَّ هذين النقدين لذاتهما، وتنوسي السببُ لكونهما صارا علامة على التفضل والغنى؟ وتعاقدت الضمائرُ على اعتبارهما ثَمنين لسائر الأشياء، وصار التعامل بأعيان الأشياء المعبر عنه بالتعاوض يقل رويدًا رويدًا بمقدار تقدم الحضارة في عصر أو قطر، وكثر التعامل بالنقدين.
وإنما لم يقع التعامل بغيرهما مما هو دونهما - كالرصاص والنحاس - لكثرة وجوده، فلا يمكن حصر مقداره حتى تنضبط الثروة، إذ يمكن لكل أحد أن يقطع منه كميةً فيصبح ذا ثروة وذلك فساد؛ إذ المراد أن تكون الثروةُ حقيقية لا تحصل إلا في مقابلة بذل الأشياء. ولم يقع التعاملُ بما فوقهما كاللؤلؤ والحجارة الكريمة لعز وجودهما، فلا يحصل من الكمية الرائجة منهما ما يسدد أثمانَ الأشياء.
ثم إن للذهب والفضة بعد ذلك خصائصَ مبينة في علم الاقتصاد السياسي: منها سهولةُ التجزئة، ومنها عدمُ قبولهما لاضمحلال عينهما لطول الزمان عند الخزن أو الدفن في الأرض. ومنها اتحادُ جنسهما في الصفة ما لم يُضف إليهما غيرُهما، بخلاف غيرهما فإن منه الجيدَ والرديء. ومنها عسرُ تدليسهما لظهور الغش عليهما بسهولة. وفي هذه الأوصاف ربما فارقتهما تذاكرُ البنوك، إلا أن هذه الأوصافَ يشبه أن تكون أوصافًا طردية لا مدخلَ لَها في التعليل لمشروعية الزكاة. والله أعلم.
(1) النقار: ما ليس مضروبًا من الذهب والفضة، والمصوغ: ما عمل منهما من حلي.