المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[تطور المصطلح الفقهى بانتشار فقه الإمام مالك]: - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيفِقْهُ النّبوَّة وَالسِّيرَة

- ‌نسب الرسول صلى الله عليه وسلم ومناسبته لعليِّ ذلك المقام

- ‌سلسلة النسب النبوي

- ‌شرف هذا النسب:

- ‌طهارة هذا النسب:

- ‌زكاء هذا النسب:

- ‌قصة المولد [والمبعث والرسالة]

- ‌نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌طهارة النسب الشريف:

- ‌مولده صلى الله عليه وسلم

- ‌نشأته صلى الله عليه وسلم

- ‌بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌الهجرة

- ‌ظهور الإسلام في المدينة:

- ‌الغزوات:

- ‌شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناؤه:

- ‌شمائله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه

- ‌أسماؤه الشريفة:

- ‌الشمائل المحمدية

- ‌مقدمة:

- ‌الآثار المروية في الشمائل:

- ‌تفصيل الشمائل:

- ‌من يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة

- ‌إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن الاهتمام بتناول الطعام

- ‌الطعام مادة جسدية ولذة حيوانية:

- ‌المدد الروحاني:

- ‌جوع الرسول صلى الله عليه وسلم[والحكمة منه]:

- ‌توجع بعض السلف عند ذكر ذلك:

- ‌تنافس آل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الاقتداء به:

- ‌معجزة الأمية

- ‌المعجزات الخفية للحضرة المحمدية

- ‌ما هي المعجزات وأي شيء هي المعجزة الخفية

- ‌أصناف المعجزات الخفية:

- ‌المقصد العظيم من الهجرة

- ‌الكتاب الذي هم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته

- ‌مشكلات:

- ‌الحكم المتجلية من هذا المقام الجليل:

- ‌مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌[مقدمة]

- ‌صفة مجلس الرسول عليه السلام

- ‌كيفية التئام مجلس الرسول وخروجه إليه:

- ‌هيئة المجلس الرسولي:

- ‌ما كان يجري في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌وقت المجلس الرسولي:

- ‌آداب مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة

- ‌ الحرية

- ‌المقام الأول: في الحرية والمساواة في الشريعة المحمدية:

- ‌دعوة الإسلام إلى الحرية:

- ‌مظاهر الحرية

- ‌حرية العبيد:

- ‌سد ذرائع انخرام الحرية:

- ‌تحصيل:

- ‌المساواة:

- ‌ موانع المساواة

- ‌المقام الثاني: أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة بين الأمم غير أتباع الإسلام:

- ‌المدينة الفاضلة

- ‌[تمهيد]

- ‌[الفطرة وأصول الاجتماع الإنساني]:

- ‌[سعي الأنبياء والحكماء لتأسيس المدينة الفاضلة]:

- ‌[الإسلام وتأسيس المدينة الفاضلة]:

- ‌[قوام المدينة الفاضلة وخصائصها وصفاتها]:

- ‌المحْوَر الثَّالِثفِي الأُصُولِ وَالفِقْهِ وَالفَتْوى

- ‌الفَرْع الأَوّلالأصُوْل

- ‌حكمةُ التشريع الإسلامي وأثره في الأخلاق

- ‌المحكم والمتشابه

- ‌بيان وتأصيل وتحقيق لحكم البدعة والمنكر

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيالفِقْهُ وَالفَتْوَى

- ‌حكم قراءة القرآن على الجنازة

- ‌قراءة القرآن في محطة الإذاعة

- ‌السؤال:

- ‌الجواب

- ‌[تمهيد: استحباب سماع القرآن]

- ‌ في حكم تصدي القارئ للقرآن بمركز الإذاعة

- ‌في حكم سماع السامعين قراءة القرآن من آلة الإذاعة:

- ‌ثبوت الشهر القمري

- ‌الجواب:

- ‌ثبوت شهر رمضان بالهاتف أو المذياع

- ‌النسب [في الفقه الإسلامي]

- ‌القسم الأول: معلومات تمهيدية

- ‌أهمية النسب في مباحثات الفقه:

- ‌اقتضاء الفطرة العناية بالنسب:

- ‌الأوهام التي علقت بالنسب:

- ‌عناية الشريعة بحفظ النسب:

- ‌القسم الثاني:‌‌ معنى النسبلغة، وحقيقته الشرعية، وأنواعه

- ‌ معنى النسب

- ‌حقيقة النسب:

- ‌أصناف النسب وأسماؤها الجارية في كلام الفقهاء:

- ‌القسم الثالث: طريقة ثبوت النسب

- ‌مصادر استنباطها:

- ‌مبنى النسب:

- ‌الطريق الأول: الفراش:

- ‌الثاني: الحمل:

- ‌الطريق الثالث: البينة:

- ‌الطريق الرابع: الدعوة:

- ‌الطريق الخامس: الإقرار بالنسب:

- ‌الطريق السادس: حوز النسب:

- ‌الطريق السابع: شهادة السماع

- ‌الطريق الثامن: القافة:

- ‌الطريق التاسع: حكم القاضي:

- ‌القضاء بالقرعة في النسب وغيره:

- ‌القسم الرابع: مبطلات النسب وما لا يبطله

- ‌تمهيد:

- ‌مبطلات النسب:

- ‌ما لا يبطل به النسب:

- ‌ما يتوهم أنه يقطع النسب:

- ‌القسم الخامس: آثار النسب

- ‌ الحفظ

- ‌البر

- ‌الصلة:

- ‌الوقف وآثاره في الإسلام

- ‌[تقديم]

- ‌نص ما به من الاقتراح الذي في جريدة الأهرام

- ‌أصل التملك قبل الإسلام:

- ‌مقصد الشريعة الإسلامية في تصريف الأموال

- ‌الوقف في نظر الشريعة الإسلامية:

- ‌انقسام الحبس:

- ‌هل الوقف من الإسلام

- ‌ليس الوقف حجرًا على الرشداء:

- ‌هل في الوقف مصلحة أو مفسدة

- ‌هل الوقف خرمٌ لنظام الاقتصاد العام

- ‌هل من حق ولاة الأمور منع الناس من الوقف

- ‌هل صدرت الفتوى بإبطال بعض أنواع الوقف؟ وهل إذا أفتى بذلك من أفتى تكون فتواه صحيحة

- ‌الصاع النبوي

- ‌المخالفة في مقادير المكاييل المستعملة في كثير من بلاد المسلمين ومقادير المكاييل الشرعية:

- ‌نشأة الصاع النبوي وما ظهر بعده من الأصواع:

- ‌ضبط مقدار الصاع النبوي بوجه عام:

- ‌ضبط مقدار الصاع النبوي بمكيال تونس الحالي:

- ‌خاتمة

- ‌زكاة الأموال

- ‌زكاة الحبوب

- ‌التعامل بالأوراق المالية

- ‌حكم الربا في التعامل بالأوراق المالية:

- ‌زكاة "تذاكر البانكة" [الأوراق المالية]

- ‌[معنى الأوراق المالية المعروفة بتذاكر البانكة]:

- ‌حكم زكاة الأوراق المالية المعبَّر عنها بتذاكر البانكة:

- ‌لحوق الأوراق النقدية بأصناف الزكاة

- ‌مشروعية الزكاة:

- ‌المعنى الموجب للزكاة:

- ‌جواز تصريف رقاع الديون مع التعجيل بإسقاط

- ‌جواز القرض برهن

- ‌المصطلح الفقهي في المذهب المالكي

- ‌[مقدمة: المصطلح الفقهي وترجمة القوانين الأجنبية]:

- ‌[المصطلح الفقهي بين الوضع اللغوي والنقل الشرعي]:

- ‌[عوامل تكون المصطلح الفقهي في المذهب المالكي]:

- ‌[فقه الإمام مالك في الموطأ وتأسيس المصطلح الفقهي]:

- ‌[تنوع أسلوب مالك في التعبير اللغوي عن مسائل الفقه]:

- ‌[تطور المصطلح الفقهى بانتشار فقه الإمام مالك]:

- ‌[منهجان في الفقه المالكي]:

الفصل: ‌[تطور المصطلح الفقهى بانتشار فقه الإمام مالك]:

[تطور المصطلح الفقهى بانتشار فقه الإمام مالك]:

ومن المعلوم أن المذهب المالكي قد انتشر بتفرق أصحاب مالك في الأقطار، واتخاذهم مراكزَ متعددة في المدينة والعراق ومصر والقيروان والأندلس. فكان تطبيقُ الفقه على أيدي أصحابه في الأقطار المختلفة، ممكِّنًا لكل مركز من تلك المراكز أن يجد من الصور والأسماء وفنون التعبير ما يمتاز به عن المراكز الأخرى. فاتسعت بذلك مادةُ المسائل، واتسعت لغةُ التعبير عنها، وتلاقت الأسماءُ المتعددة والأساليبُ المختلفة وضبطُ الحقائق الفقهية والتعبير عن مواهيها.

وبدأت كتبُ المسائل تتردد بين الأقطار فتصل - في التعبير عن المواهي وتقريبها - بين قطر وقطر. وإذًا نقل عيسى بن دينار ويحيى بن يحيى - وهما أندلسيان - عن ابن القاسم سماعَه وهو مصري، ونقل أسد الفرات وسحنون - وهما من القيروان - سماعَ ابن القاسم أيضًا، ورجع سحنون لسماعه من علي بن زياد بتونس يعرضه على ابن القاسم بمصر، وروى أبو بكر الأبهري - وهو عراقي - سماعَ ابن عبد الحكم - وهو مصري، فكان ذلك كلُّه زيادةً في التحقيق والضبط لعبارات مالك، وزيادةً في إشاعتها، وإحسانًا لتطبيقها على المحال المختلفة من صور الأحوال التي تُحقق باختلافها مقاصدُ العبارات ومدلولاتُ المصطلحات.

وصدرت بهذا العمل الجليل الموسوعاتُ الأولى للفقه المالكي في القرن الثالث: وهي المدونة لسحنون القيرواني، والواضحة لعبد الملك بن حبيب القرطبي، والمستخرجة لأبي الوليد العتبي القرطبي، وهي المشهورة بالعتبية. فجاءت مشتملةً على عشرات آلاف المسائل - إذ في المدونة وحدها أربعون ألف مسألة - تضمنت أكثرَ ما كُتب من السماع من مالك مما دوَّنه سحنون عن ابن القاسم وهو أوسع من ذلك، أو ما جمعه العتبيُّ من شتات الأسمعة غير ما في المدونة، أو ما جمعه ابنُ حبيب في الواضحة من أسمعة خارجة عن المدونة أيضًا.

ص: 1021

وتلاقى في هذه الكتب مع كلام مالك المدوَّن عنه كلامُ تخريج وتوجيهٍ وتفسيرٍ لأصحابه، اكتسب به كلامُ مالك وضوحًا في دلالته، ودقةً في انطباق ألفاظه على معانيها، كما نرى في المدونة في "كتاب حريم الآبار". قال سحنون بن سعيد:

"قلت لابن القاسم: هل للبئر حريم عند مالك، بئر ماشية أو بئر زرع أو غير ذلك من الآبار؟ قال: لا، ليس للآبار عند مالك حريمٌ محدودٌ ولا للعيون إلا ما يضر بها. قال مالك: ومن الآبار آبارٌ تكون في أرض رخوة، وأخرى تكون في أرض صلبة أو في صفًا، فإن ذلك على قدر الضرر بالبئر. قلت: أرأيتَ إن كانت في أرض صُلبة أو في صفًا، فأتى رجلٌ ليحفر قربها فقام أهلها فقالوا: هذا عطنٌ لإبلنا إذا وردت، ومرابض لأغنامنا وأبقارنا إذا وردت، أَيُمنع الحافر من الحفر في ذلك الموضع، وذلك لا يضر بالبئر؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئًا، إلا أنِّي أرى أن يمنع من ذلك؛ لأن هذا حقٌّ للبئر ولأهل البئر إذا كان يضر بمناخهم، فهو كالإضرار بمائهم. قلت: فإن أراد رجلٌ أن يبني في ذلك الموضع، أكان لهم أن يمنعوه كما كان لهم أن يمنعوه من الحفر فيه؟ قال: نعم، ولم أسمع هذا من مالك، ولكن لما قال مالك إذا كان يضر بالبئر منع ذلك، فهذا كله ضرر بالبئر وأهله". (1)

فنرى أن هذا الحوار قد انتهى إلى إعطاء قول مالك: "ما يضر بالبئر يمنع"، دلالةً واسعة على الضرر بأنواعه، سواء أتعلق بالبئر ذاتها، أم بمرافقتها، أم بمصالح مالكيها. وفي العتبية في سماع عيسى بن دينار عن ابن القاسم:

"سألتُ ابن القاسم عن قوم تفوتهم الجمعة فيريدون أن يجمعوا، قال ابن القاسم: كنتُ مع ابن وهب بالإسكندرية في بيت فلم نحضر الجمعة لأمر خفناه، ومعنا ناسٌ كانوا جاؤونا فأردنا أن نصلي، فقال ابن وهب: نجمع، فقلت أنا: لا، فألح ابن وهب فجمع بالقوم، وخرجت أنا عنهم. فقدمنا على مالك، فسألناه عن ذلك، فقال: لا تجمعوا، ولا يَجمع الصلاةَ مَنْ فاتته الجمعة، إلا أهل الحبس

(1) المدونة الكبرى، "كتاب حريم الآبار"، ج 6، ص 199. - المحقق.

ص: 1022

والمسافرين والمرضى، فأما غير ذلك فلا". (1)

فنرى في هذا أن السؤال قد انتهى إلى تحديد كلام مالك عند منطوقه، وأنه لا يرى حالاتِ الاضطرار كلَّها مبيحةً لصلاة الظهر جماعةً يوم الجمعة إلا الأعذار الثلاثة التي حصر الأمر فيها.

ولقد انتشر المذهب المالكي وتفرع في هذا الدور، وكثرت فيه التخاريج والآراء، وتعددت الاصطلاحات وتداخلت بين المدوَّن من كلام مالك واللاحق به من تفسير وبيان أو اجتهاد مخالف لاجتهاده، فاحتاج إلى مزيد الضبط وتجديد التخليص والتهذيب، حتى تتحد الصور، وينسجم التعبير، ويتألف ما تفرق بين الأسمعة، ويجتمع ما تشتت من الأقوال. فكانت القيروان في القرن الرابع هي التي وفت للمذهب المالكي في عامة مراكزه شرقًا وغربًا بهذه الحاجة، وكان الذي تولى إمامة المذهب في هذا الدور الهام هو الشيخ أبو محمد عبد الله ابن أبي زيد القيرواني. فلقد قال القاضي عياض في ترجمته لترتيب المدارك:"إمام المالكية في وقته، وقدرتهم، وجامع مذهب مالك، وشارح أقواله". (2)

فكان ابن أبي زيد - بسعة فقهه، وفصيح بيانه، وقوة تحريره - هو الذي ضبط المصطلح الفقهي في المذهب المالكي الضبطَ الدقيق المتين. وفي مقامه الأدبي يقول عياض:" [وكان] فصيحَ القلم، ذا بيان ومعرفة بما يقوله. . . يقول الشعر ويجيده"، فكان أثره من فقه الأدباء لا من أدب الفقهاء، فهو كما يقول عياض:"الذي لخص المذهب وضم كسره". (3) فعمد إلى تلخيص المستخرجة، وألف كتاب النوادر والزيادات على المدونة، وألف كتابه الشهير السائر في الأمصار والأعصار: كتاب الرسالة.

(1) ابن رشد: البيان والتحصيل، "كتاب الصلاة الرابع"، ج 2، ص 60. - المحقق.

(2)

اليحصبي: ترتيب المدارك، ج 2، ص 492. - المحقق.

(3)

المرجع نفسه، ص 492 - 493. وما بين حاصرتين من كلام عياض ولم يورده المصنف. - المحقق.

ص: 1023

فشاعت كتبه، وأقبل الناس عليها، وتناولوها بالشرح، حتى كان من شراح الرسالة معاصره بالعراق: القاضي عبد الوهاب. وكان من أعظم آثار ابن أبي زيد في المصطلح الفقهي أنه ردَّ إلى الفقه لغةَ الموطأ، بعد أن انصرفت عنها المدونات. فتحرَّى في الرسالة عباراتِ الموطأ وجعلها الأصل، ولخص الأحاديث. وقد نبه على ذلك شراحُ الرسالة في كثير من مواضعها، وأنه الذي لَخَّص المسائلَ التي كانت مبسوطةً بطريقة الحوار والتصوير الجزئي في الكلمات الجامعة المحدودة الدلالة، كما يستعمل كلمة "الصفة" لما يقابل "العين". فيريد بالصفة ما يشمل الجنس والمقدار، كما عبر بذلك في السلف وفي السلم، وأنه يضبط النظريات الشاملة للصور الكثيرة فيعطيها صيغةَ القاعدة الكلية التي ترجع إليها الصورةُ في وضوح، كما يقول مثلًا:"يباع جزاف بمكيل من صفته"، أو يقول:"ولا يجوز سلف يجر منفعة"، أو يقول في الإجارة:"إذا ضربا لذلك أجلًا وسَمَّيا ثمنًا".

وكانت طريقة ابن أبي زيد هي التي ضربت المثل للاختصار، وفتحت الباب للمختصرات التي توالت على تجديد التعبير وضبط المصطلح، فظهر أبو القاسم البراذعي (1) القيرواني تلميذ ابن أبي زيد بتهذيبه للمدونة واختصاره للواضحة. فشاع تهذيبه للمدونة وأقبل الناس على شرحه، وصار المرجع في المذهب، وتُركت المدونة، فأصبحت مسائلها لا تؤخذ إلا من طريقه. وظهر معاصرًا له القاضي عبد الوهاب بالعراق، فألف مختصره الذي سماه "التلقين". وظهر معاصرًا لهما أيضًا أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين ألبيري الأندلسي، فألف مختصره للمدونة الذي سماه "المقرب". وجميع هذه المختصرات رائجة ومعتمد عليها، وعلى تعبيرها تأسست

(1) هو أبو سعيد خلف بن أبي القاسم محمد الأزدي القيرواني، الشهير بالبراذعي، توفِّي سنة 438 هـ. يعد كتابه "التهذيب في اختصار المدونة" من أهم المختصرات لمدونة سحنون، قصد فيه مؤلفه تيسير فهم المدونة وتسهيل حفظها وتدريسها، فقام باختصارها وتقريب مسائلها. وقد صدر هذا الكتاب عن دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث بدبي بتحقيق الدكتور محمد الأمين ولد محمد سالم ابن الشيخ. - المحقق.

ص: 1024

كتبُ المذهب المالكي التي توالت حتى القرن التاسع، من كتب اللخمي والمازري وعياض في الخامس والسادس، وابن الحاجب والقرافي في السابع، وابن عرفة وخليل وابن عاصم في الثامن، وابن ناجي في التاسع.

وإلى جنب هذه الطريقة التي تأصلت ورسخت منذ القرن الرابع، نشأت طريقةٌ أخرى ظهر بها ابن أبي زمنين في الأندلس في كتابه "المنتخب". وهي طريقة التأليف في الأحكام، وإجراءات النوازل، وتحقيق النكت المتعلقة بالأحكام والوثائق والعقود، فزادت في توسيع المعاثي الفقهية من حيث تطبيقها على الحياة العملية، وأحكمت الربط بين الأعراف الجارية في العوائد وفي الأوضاع التجارية والفلاحية والصناعية، وبين مقتضيات الحكم الشرعي في إجراء النوازل.

واستفاد هذا البابُ سعةً زائدة مما في أصل المذهب المالكي من أعمال الخط وقبول الاحتجاج بالشهادة المودعة بالكتابة قبل نشر القضية، بين يدي غير القاضي، وهي "وثيقة الاسترعاء". فتتابع على التأليف في هذه الناحية وتفصيل مسائلها ونظرياتها بعد ابن أبي زمنين: ابن فتوح في القرن الخامس فألف "الوثائق المجموعة"، والمتيطي في القرن السادس فألف "النهاية والتمام في مسائل الأحكام" وتعرف بالمتيطية، والجزيري في القرن السادس أيضًا فألف "المقصد المحمود في أحكام الوثائق والعقود" اختصر فيه وثائق ابن فتوح، وابن هشام في أواخر السادس وأوائل السابع فألف كتاب "مفيد الأحكام"، وابن عات (1) في أوائل السابع كذلك فألف طررًا على وثائق ابن فتوح. وهؤلاء كلهم أندلسيون، وكتبُهم كلُّها توجد محفوظةً بتونس وغيرها.

(1) هو أبو عمر أحمد بن هارون بن أحمد بن جعفر بن عات النفزي الشاطبي، ولد سنة 542. سمع أباه العلامة أبا محمد، وأبا الحسن بن هذيل، والحافظ عليم بن عبد العزيز، والحافظ أبا طاهر السِّلفي بالثغر، وأبا الطاهر بن عوف، وعاشر بن محمد، وعدة. وكان من بقايا الحفاظ المكثرين. كان الحافظ علي بن المفضل يذكره بكثرة الحفظ والميل إلى تحصيل المعارف. كان أحد الحفاظ، يسرد المتون، ويحفظ الأسانيد عن ظهر قلب، لا يخل منها بشيء، موصوفًا بالدراية والرواية، غالبًا عليه الورع والزهد، يلبس الخشن. له تصانيف دالة على سعة حفظه، مع حظ من النظم والنثر. استشهد في وقعة العقاب في صفر سنة 609 هـ - المحقق.

ص: 1025

وتبعهم - من الأندلسيين والتونسيين في القرن الثامن - أمثالُ ابن راشد القفصي (1) الذي ألف كتاب "الفائق في أحكام الوثائق" في أربع مجلدات، وابن هارون وابن يلمون (2) وابن فرحون مؤلف "تبصرة الأحكام"، وهو الجامع لما تفرق في غيره، والمشتمل من دقائق العبارات وبدائع التقاسيم والتصاريف على ما جعله المرجعَ الأعلى في هذا الفن، بما أحكم في ضبط التقاسيم والفروق، وتفصيل الأصناف، وتحقيق محامل الألفاظ.

وجاء قريبًا منه القاضي أبو بكر ابن عاصم الأندلسي، (3) فأظهر في أرجوزته

(1) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن راشد البكري القفصي. فقيه مالكي وأصولي وأديب. ولد بمدينة قفصة في تونس، ونشأ وتعلم بها. ثم رحل إلى حاضرة تونس طلبًا للعلم، وأقام بها زمنًا طويلًا. ثم رحل إلى المشرق ونزل بالإسكندرية، وتفقه على علمائها. من أشهر شيوخه: ابن المنيِّر، والشهاب العراقي، وابن دقيق العيد. له مصنفات كثيرة منها: شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب في أصول الفقه؛ المُذْهَب في ضبط قواعد المذهب في الفقه المالكي؛ الفائق في الأحكام والدقائق؛ النظم البديع في اختصار التفريع؛ تحفة اللبيب في اختصار كتاب ابن الخطيب؛ تحفة الوابل في شرح الحاصل في أصول الفقه؛ المرتبة السنية في علم العربية؛ شرح جامع الأمهات لابن الحاجب وغيرها. توفي بتونس سنة 736/ 1336. - المحقق.

(2)

هو الإمام الفقيه محمد بن هارون الكناني، الحافظ، أحد مجتهدي المذهب عند المالكية، كما حكى ابن عرفة الورغمي. تولى القضاء بغير تونس، وأخذ عنه أئمة علماء منهم المقري، والخطيب ابن مرزوق، وابن عرفة. له شرحان على مختصري ابن الحاجب الأصلي والفرعي، واختصار المتيطية، وشرح المدونة. توُفِّي سنة 750 هـ. قال التنبكتي:"والعجب من ابن فرحون حيث لم يذكره في الديباج أصلًا مع كثرة نقله عنه في تبصرته وشرحه". التنبكتي، أحمد باب: نيل الابتهاج بتطريز الديباج، تحقيق علي عمر (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، ط 1، 1423/ 2004)، ج 2، ص 61 - 62. - المحقق.

(3)

هو أبو بكر محمد بن محمد بن عاصم الغرناطي، الفقيه، الأصولي، المحدث، المحقق المطلع المتفنن في علوم شتى، المرجوع إليه في المشكلات والفتوى. أخذ عن أعلام، منهم أبو إسحاق الشاطبي، وأبو عبد الله القيجاطي، وأبو عبد الله الشريف التلمساني، وأبو إسحاق ابن الحاج، وابن علاق وخالاه أبو بكر ومحمد ولدا أبي القاسم ابن جزي، وأبو سعيد ابن لب، وغيرهم. وعنه أخذ ولده القاضي أبو يحيى وغيره. له تآليف منها:"تحفة الحكام في نُكت العقود والأحكام"، اعتمدها العلماء وشرحها جماعة، واختصار الموافقات. وله أراجيز في وله أرجوزة في الأصول، والنحو، =

ص: 1026