الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جبير كلاهما عن ابن عباس، وفي بعض أسانيده زيادةٌ على بعض، وأنا أجمعها هنا:"قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس! لما حُضِر رسول الله واشتد به وجعه وفي البيت رجال، قال: "ائتوني باللوح والدواة أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أو بعدي أبدًا"، فقال عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله، حسبنا كتاب الله! فاختلفوا واختصموا، فمنهم مَنْ يقول: قرِّبوا يكتب لكم، ومنهم مَنْ يقول غير ذلك. فتنازعوا وكثر اللغط، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما شأنه؟ أَهَجر؟ استفهموه، فذهبوا يردون عليه، فقال: "دعُونِي فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه"، فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه". (1)
مشكلات:
وهذا الحديث معدودٌ في الأخبار والسيرة النبوية، [و] يتلخص إشكالُه في تسعة وجوه:
الأول: أن قول رسول الله: "أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده"، يقتضي أنه قد بقي فيما لم يبلغه الرسولُ إلى الأمة ما فيه عصمة من الضلال.
الثاني: كيف يكون كتابٌ يُكتب في مثل ذلك الوقت محيطًا بدفع كل ضلال يعرض للأمة مع أن أضعاف ذلك الكتاب مما نزل من القرآن وما صدر من الرسول من الأقوال والأفعال لم يكف في دفع الضلال عنهم والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]؟
(1) صحيح البخاري، "كتاب العلم"، الحديث 114، ص 25؛ "كتاب الجهاد والسير"، الحديث 3053، ص 504 - 505؛ "كتاب الجزية والموادعة"، الحديث 3168، ص 527؛ "كتاب المغازي"، الحديثان 4431 - 4432، ص 754؛ صحيح مسلم، "كتاب الوصية"، الحديث 1637، ص 640؛ ابن سعد: الطبقات الكبرى، ج 2، ص 213.
الثالث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على أن يكتب لهم كتابًا، وقد تقرر أنه صلى الله عليه وسلم أمي، فكيف يكتب الكتاب؟
الرابع: إذا كان فيما سيقوله رسول الله ما يدفع عن الأمة الضلال، فما وجهُ توقفه عن الكتابة؟ ولماذا لم يبلغه إليهم الرسول بالقول دون كتابة؟
الخامس: كيف قال رسول الله: "دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه"؟ فإن كان الحال الذي فيه رسول الله من المكاشفات أو الوحي هو خيرًا للرسول من كتابة الكتاب، فقد فات الأمةَ ما كان فيه دفعُ الضلال عنهم، وإن كان خيرًا للأمة من الكتاب فهو أمر لم يبين لهم من بعد.
السادس: كيف أقدم عمر بن الخطاب على صد الناس أن يأتوا رسول الله باللوح والدواة ليكتب لهم؟
السابع: وكيف يقول عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع؟
الثامن: وكيف يقول عمر: حسبنا كتاب الله، مع أن رسول الله يقول: لن تضلوا بعده؟
التاسع: أن بعضهم قال: "ما شأنه؟ أَهَجر؟ استفهموه! " فإن معنى هَجر: قال هجرًا، أي: قال كلامًا غير مقصود كشأن المحموم، فيكون هذا القائل قد جوز أن يكون ما صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامًا لا تعويلَ عليه، فيكون تجويزًا لجريان الخطأ على لسانه. وهذا يدافع اليقين بأن لا ينطق عن الهوى!
وجريًا على السَّنَن الذي سلكناه في الذكريات المولدية السالفة في القصد إلى ناحية من نواحي السيرة النبوية نراها جديرة ببحث أوفَى مما منحها الكاتبون، فنمدها من الفتوح الإلهية بهواطل تنضح قتام الإشكال، وتمد إليه من الحقائق ما يحوك سداها ولحمتها على أتقن منوال، نقول: إن رسول الله قد أرشد أمته في نيف وعشرين سنة إرشادًا لم يغادر دخيلة من دخائل النفوس صالحها وشريرها إلا أتَى
على ما يثبت صلاحها ويهذبه، أو يقتلع شرها ويذهب به، فله إرشاد مستمد من علام الغيوب الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفِي الصدور.
وقد أومأ إلى هذا قولُه تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]، فالمجتبَى هو محمد صلى الله عليه وسلم لتمييز الخبيث من الطيب في سائر الأحوال. وما نزل قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] إلا وقد كمل أمر الإرشاد إلى ما فيه صلاحُ العاجل والمعاد. وقد أرشد رسول الله بالقرآن، وبالخطب والمواعظ، والتعليم البالغ، وغير ذلك من مختلف طرق الإرشاد، في قوله وفعله، وسيرته وسمته، فكلها مفاتح هدى ورشد. وهذا الإرشاد باقٍ ما بقي هذا العالم، وملاكه هو القرآن المكتوب المقروء المحفوظ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكان ذلك مقنعًا للمسلمين إذا دعوا إليه أن يقولوا: سمعنا وأطعنا.
وقد عرضت أحوالٌ كان من المصلحة أن يكتب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبًا، إقامةً للحجة في مظان غلبة الهوى على الوازع الديني، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك من العرب وغيرهم، وكتب إلى بعض أمرائه كتبًا لتكون حجة لدى أقوامهم، وتذكرة لهم عند الاشتباه، مثل كتابه إلى عمرو بن حزم لما بعثه إلى بني الحارث بن كعب، فبين له فيه الفرائض والسنن والصدقات والديات؛ لأن العرب يأنفون من تغير عوائدهم ويشمئزون من دفع أموالهم كالمغارم. وكتب بالإقطاعات وبالعطايا لكي لا يُنازَع المعطَى في عطيته. كلُّ ذلك لمصالح لا تفي بها الأقوال.
فهمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة كتابٍ في آخر أيامه مع أصحابه ليس لقصد التشريع؛ لأن الشريعة قد كملت، ولأنه لو كان لقصد التشريع لما عدل عنه ولما قال:"فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه"، إذ التشريع هو المقصد الأهم من بعثته، وكيف والله تعالى يقول:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]؟ وكذلك ليس هو لبيان ما يحتاج إلى بيانه من المجملات الشرعية؛ لأن ذلك لا يناسب قوله: "ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه"، وإن كان
يجوز للرسول ترك البيان اكتفاءً بالأدلة التي تلوح لمجتهدي الأمة. فتعين أن يكون الكتاب الذي هَمَّ به مقصودًا لأمر غير متعلق بإفادة تكليف ولا بشرع أُنُف، وأنه إنما كان في أمر يرجع إلى تنبيه الأمة أو بعضها إلى شيء من شؤون تدبير أمورهم العامة، وتحريضهم أو تحذيرهم في شيء مما سبق الإشارةُ إليه في القرآن والسنة.
وإن مَنْ مارس السنة النبوية يستيقن أنه قد كثرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الأخير من حياته أقوالٌ مشيرة إلى قرب انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فبعضها صريح، وبعضها دونه، وأن أصحابه كانوا متفاوتين في التفطن إلى الإيماء منها، وقارن معظمَها إيقاظُ الأمة إلى الأخذ بالحزم في شؤون جماعتهم، والتعويل على استخدام مواهبهم في العمل بما سبق إليهم من الإرشاد، وحذرهم من عوارض تعرض للأمم، كقوله في خطبة حجة الوداع:"فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"، وفي حديث الترمذي عن العرباض بن سارية:"وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظةُ مودِّع، فأوصانا، قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، فإنه مَنْ يعش منكم يَرَ اختلافًا كثيرًا. . .""، الحديث. (1) وقال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [المائدة: 54]. وفي حديث الصحيحين: "إني لأرى الفتن من خلال بيوتكم". (2)
(1) أورد المصنف الحديثَ باختصار، وتمام لفظه:"وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظةً بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجلٌ إن هذه موعظةُ مودِّع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبد حبشي، فإنه مَنْ يعش منكم ير اختلافًا كثيرًا. هوإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ"". سنن الترمذي، "أبواب العلم"، الحديث 2676، ص 629 - 630. قال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح".
(2)
عن ابن شهاب قال: "أخبرني عروة: سمعت أسامة رضي الله عنه قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة، فقال: "هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقعَ الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر"". =
فلا جرم أن كان الكتاب المعزوم عليه يتضمن التحذيرَ من شيء سيقع، مثل النص على أن أبا بكر هو الذي يلي أمر المسلمين، أو النص على كيفية تعيين الخلفاء للأمة، وقاعدة البيعة، فإن الخلاف في ذلك قد جر فتنًا على المسلمين نشأت من اختلاف في أدلة الاجتهاد. قال المازري في المعلم:"وقد قال بعضُ العلماء: الأظهر عندي أنه أراد صلى الله عليه وسلم أن ينص على الإمامة بعده لترتفع بنصه عليها تلك الفتن العظيمة التي منها حربُ الجمل وحرب صفين. وهذا الذي قاله غير بعيد". (1) ولا شك أن المهاجرين والأنصار كانوا يومئذٍ في حال حيرة في مصير أمرهم بعد وفاة نبيهم.
ويُحتمل أن يكون أراد أن يكتب لهم كتابًا في إعادة التصريح بأن الإيمان لا ينقضه التقصيرُ في الأعمال البدنية، فإن تكفير المسلمين بعضهم بعضًا قد ابتلاهم بفتن عظيمة، مثل فتن الخوارج والمعتزلة وغيرهم الناشئة عن اعتقاد تكفير مرتكب الكبيرة حتى أفضت إلى الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكفير بعضهم كثيرًا منهم. وآل هذا إلى أن ترمي طائفة مخالفيها بتهمة الخروج عن حظيرة الإسلام، فتستخف بحقوقها ودمائها، ولا تلبث أن تمتشق السيوف بين الطائفتين، حتى كاد أن ينفرط عقد الجامعة الإسلامية. ومني المسلمون بفتن عظيمة عملية وفكرية من جراء مصيبة تكفير بعضهم بعضًا قد شهد بها التاريخ.
أو يكون قد أراد أن يبين للأمة وجوب استمرارهم على ما كانوا عليه في حياة الرسول من الانقياد وإعطاء زكاة الأموال ليسلموا من فتنة الارتداد التي طلع قرنها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتقاد قبائل العرب أن الطاعة لا تجب بعد الرسول، كما قال الحطيئة:
= صحيح البخاري، "كتاب فضائل المدينة"، الحديث 1878، ص 302 (قال البخاري إثر رواية الحديث في هذا الموضع:"تابعه معمر وسليمان بن كثير، عن الزهري")؛ "كتاب المظالم"، الحديث 2467، ص 398؛ "كتاب المناقب"، الحديث 3597، ص 604؛ "كتاب الفتن"، الحديث 7060، ص 1218؛ صحيح مسلم، "كتاب الفتن وأشراط الساعة"، الحديث 2885، ص 1105.
(1)
المازري: المعلم بفوائد مسلم، ج 2، ص 234.
أَطَعْنَا رَسُولَ الله إِذْ كَانَ بَيْنَنَا
…
فَيَا لَعِبَادِ الله مَا لأَبِي بَكْرِ؟ (1)
ومن المحتمل القريب أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب لهم وصية بملازمة كتاب الله وسنة رسوله، وتذكر ما سبق من هديه وإرشاده. فقد ثبت في الصحيح أنه أوصى قبيل وفاته بكتاب الله، وثبت أنه أوصى بالصلاة وما ملكت أيمانهم. ثم قد يكون عزم رسول الله على هذا الكتاب ناشئًا عن إذن إلهي بوحي، وقد يكون عن اجتهاد منه بناءً على المختار من أقوال علمائنا بجواز الاجتهاد للنبي ووقوعه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيًّا ما كان الغرضُ الذي هَمَّ رسول الله بكتابته، وأيًّا ما كان الباعث الذي دعا رسول الله إلى ذلك، فقد عدل عنه وتركه، وقال لهم حين أعادوا عليه:"ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه". فإن كان عزمه الأول ناشئًا عن وحي، يكون قوله الثاني دالًّا على أن الله نقله من ذلك العزم إلى ما هو خير للأمة، فيكون نسخًا للإذن بالكتابة. وإن كان ناشئًا عن اجتهاد مستند إلى ظواهر الأدلة والأحوال، فالله صرفه عنه بوحيه إليه ما هو خير لأمته في علم علام الغيوب، أو غيَّر اجتهادَه بلائحة أدلة أخرى أظهرت لرأيه ما هو خير لأمته في ترك ما عزم عليه.
وجعل الله اختلاف الحاضرين في الأمر سكينة لنفس رسول الله عليه السلام لئلا يبقى له شك في نفع العدول عن ذلك الكتاب. وإن من أول منافعه إزالة الاختلاف بين الحاضرين في شأنه. (2)
(1) ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت، تحقيق نعمان محمد أمين طه (القاهرة: مكتبة الخانجي، ط 1، 1407/ 1987)، ص 195. والبيت من مقطوعة من ثمانية أبيات قالها في الردة يحرض المشركين على قتال المسلمين، وقد جاء في الديوان مختلفًا عما ذكره المصنف هنا، ولفظه:
أَطَعْنَا رَسُولَ الله إِذْ كَانَ بَيْنَنَا
…
فَيَا لَعِبَادِ الله مَا لأَبِي بَكْرِ؟
(2)
هنا ينتهي القسم الأول من المقال حسب تقسيمه في المجلة.
بقي علينا أن نبين وجهَ تفضيل العدول عن الكتاب، وجامع القول في ذلك أن الله في تلك الفترة أوحى إلى رسوله بشارة بأن أمته لا تضل، وأن ما يعرض لها من النوائب إنما هو سنة الله في الأمم، وأن تلك العوارض لا تلبث أن تنقشع، وأن كتابه الذي عزم عليه تحف به مصالح، وأن تركه يجلب مصالح أكثر من مصالح كتابته. فإنه إن كتب لهم بشيء خاص ربما توهموه أولَى من غيره فحرصوا على تحقيقه وفرطوا فيما سواه، فيفضي ذلك إلى تضييع أكثر الواجبات والتهاون فيها.
وهناك حكمةٌ أخرى عظيمة تحصل من مجموع القصة، تبين القصدَ إلى الكتابة والقصدَ إلى الإعراض عنها، حتى لا يُشْكِلَ وجهُ تأخر الأمر الإلهي أو الاجتهاد بالعدول عنه إلى ما بعد التصريح بالعزم عليها. وذلك أن التصريح بالعزم عليها قد أوقع في نفوس الحاضرين ومَنْ يبلغه ذلك من الأمة أن شأنًا مهمًّا توجهت إليه عناية رسول الله في أحرج ساعاته ثم لَم يبينه، فتبقى في نفوسهم لهفةٌ على بيانه لو سمح به، فتنبعث همةُ كل صاحب همة، واجتهادُ كل مجتهد، وتدبيرُ كل مَنْ يلي أمرَ الدعوة، إلى توسم أشد الأمور مصلحة للمسلمين، وأشدَّها درءَ مفسدة عنهم، فيفرغوا في تحصيله وتطلبه جهودهم وتفكيرهم، عساهم أن يصادفوا مرادَ الرسول عليه السلام، فيكون ذلك باعثًا على الاهتمام بمعظم مصالح المسلمين وذودُ معظم ما يُتَّقَى منه تطرقُ الفساد إليهم.
وكلٌّ ينسج على منواله، فالعالِمُ الفقيه يستفرغ جهدَه لاستنباط أحكام أدق الأحوال العارضة للأمة عساه أن يصادف ما عزم رسولُ الله على بيانه من الأحكام. ألا ترى أن ابن عباس كان يقول:"الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم"؟
والجدلي المتكلم ينافح عن عقيدة الإسلام بأوضح الأدلة النافية للشبه خيفة أن تزلزل عقائد المسلمين لعله أن يوافق مرادَ رسول الله مما ينفي الضلالة عن الأمة.
وولاة الأمور ونصحاء الأمة يتوخون في سياسة الأمة أفضلَ المصالح، ويتقون مسارب التأخر والانحطاط خشية إضاعة بعض ما اؤتمنوا عليه من حقوق
الأمة، أو الظهور في مظهر قلة الكفاءة للقيام بأعباء الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل بحسب دائرة تصرفه فيما وكل إليه من مصالح المسلمين.
والوعاظ المرشدون يهيئون للدخول إلى مداخل القلوب أفصحَ الأقوال وأقربها إلى فهم العامة من الموعظة الحسنة. وسائر أفراد الأمة ممن يعلم ذلك يَزِنُون أحوالَ معاملتهم في جماعاتهم بميزان ما حدده لهم الشرع، خشيةَ أن يضلوا في مزالق تفرق كلمة الأمة، فيكونوا ممن أراد الرسولُ التحذيرَ منهم، ويبعثهم على الاستشهاد من أهل العلم فيما يُشكل عليهم وجهُ الْمخلَص منه.
فترى أيها اللبيب كيف يكون التفكُّرُ في تلك الساعة الرهيبة التي بدا فيها عزمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتابة الكتاب وإعراضُه بعد ذلك عنها، دافعًا عظيمًا لقادة الأمة إلى التألب على جلب مصالحها ودرء مفاسدها، وإن اختلفت مناحي قيادتهم، ومظاهر نصيحتهم، وللأمة نفسها بحسب مبالغ علمها في معاملتها، وفي الالتفاف حول علمائها وقادتها.
واستبان لك أنه يحصل من الإيماء إلى أهمية الكتاب الذي يعصم من الضلال، ومن الإعراض عن كتابته، نفسُ الحكمة الحاصلة من عدم تعيين ليلة القدر، وساعة الإجابة يوم الجمعة، والصلاة الوسطى.
ثم إنك تجد نفسَك قد أفضت إلى مرتبة أخرى من العلم، وهو أن كانت وصيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عزم على إثباتها ثم أعرض عنها، مناسِبَةً لعظمة شأنه، وعلوِّ مقداره، وعموم شريعته ودوامها، وهو أن كانت حركةً في سكون، وبلاغةً في سكوت، وإطنابًا في إيجاز، ففاقت بذلك سائرَ وصايا الأنبياء والحكماء، وناسبت عزةَ عنت الأمة عليه، وحرصه عليها، ورأفته ورحمتَه بها. ونجدك الآن قد اندفعت عنك الوجوه: الأول والثاني والرابع والخامس من الإشكال.
فأما قول الرسول عليه السلام: "أكتب لكم كتابًا"، فيجوز أن يكون إسناد الكتابة إليه مجازًا عقليًّا، أي آمر مَنْ يكتب لكم ما أقوله. ويجوز أن يكون الإسناد حقيقيًّا
على ظاهره، ويكون فيه إظهار معجزته وهي صدور الكتابة من الأمي. وقد جوز أبو الوليد الباجي وجماعةٌ من المحققين أن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد كتب في صحيفة صلح القضية بيده حين امتنع علي بن أبي طالب أن يمحو سطر:"محمد رسول الله". واستند الباجي إلى الحديث الذي في صحيح البخاري. ورأوا ذلك لا ينافي الأمية بعد تقررها، إذ يكون صدور ذلك العلم الجم منذ وقت البعثة إلى يوم القضية من أمي معجزة عظيمة، ويكون صدور الكتابة بعد ذلك ممن تحقق الناس أميته معجزة أخرى. وبهذا زال الوجه الثالث من الإشكال. (1)
من أجل ذلك ظن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتجشم الكتابةَ في تلك الحالة ليؤكد شيئًا مما تضمنه القرآن، فأحب عمر أن يكفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلفة، ويسمعه أنهم على العهد في الوقوف عند كتاب الله، فقال:"إن رسول الله قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله". قال عياض في الإكمال: "وقيل قد
(1) اليحصبي: إكمال المعلم، ج 6، ص 151 - 152. أما الحديث الذي ذكر المصنف أن الباجي وموافقيه استدلوا به، فهو ما رواه عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه قال: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا نقر بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمد بن عبد الله، قال: "أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله"، ثم قال لعلي: "أمح: رسولُ الله". قال: لا والله لا أمحوك أبدًا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، فكتب:"هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله: لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع أحدًا من أصحابه أراد أن يقيم بها". فلما دخلها ومضى الأجل، أتوا عليًّا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعتهم ابنة حمزة: يا عم يا عم، فتناولها علي، فأخذها بيدها، وقال لفاطمة عليها السلام: دونك ابنة عمك احمليها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أحق بها، وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لِخالتها، وقال:"الخالة بمنزلة الأم"، وقال لعلي:"أنت مني وأنا منك"، وقال لجعفر:"أشبهت خلقي وخلقي"، وقال لزيد:"أنت أخونا ومولانا"". صحيح البخاري، "كتاب الصلح"، الحديث 2699، ص 440. وانظر كذلك: الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج 2، ص 634؛ السهيلي: الروض الأنف، ج 4، ص 50.
يكون امتناع عمر إشفاقًا على النبي صلى الله عليه وسلم من تكليفه في تلك الحال إملاء كتاب، ولذلك قال: إن النبي اشتدَّ به الوجع، حسبنا كتاب الله"، (1) أي فيكون قوله: "إن رسول الله غلبه الوجع" تعليلًا لقوله: "لا تقربوا إليه اللوح والدواة، وقوله:"حسبنا كتاب الله"، أي: لا يفوت شيءٌ من الهدى بترك هذا الكتاب؛ لأنا معتصمون بكتاب الله. قال المازري في المعلم: "قد فهم عمر أمر النبي أنه أمرٌ غير جازم بقرائن دلت على عدم الوجوب، ثم رأى أن قد يتطرق به المنافقون إلى القدح فيما اشتهر من قواعد الإسلام بكتاب يكتب في خلوة، ويضيفون إليه ما يشبهون به على الذين في قلوبهم مرض، فلذلك قال عمر: "حسبُنا كتابُ الله"، فكان جوابًا للفريق الذين ألَحُّوا في تحصيل الكتاب.
وبهذا حصل انكشافُ الوجهين السادس والسابع من وجوه الإشكال.
ثم إن عمر قد علم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن تضلوا بعده"، ما يريد به إلا نفيَ الضلال في الغرض الذي يتضمنه الكتاب من الأمور التي عسى أن تكون قد بقيت مجملة. فالضلال المنفيُّ هو ضلالُ الحيرة في محمل ذلك المجمل بحيث يصير مبيَّنًا، فرأى عمر أن هذه المصلحة التي تحصل من كتابة الكتاب قد يفي بها اجتهادُ مجتهدي الأمة في تبيين ذلك المجمل بالبحث عن الأدلة المبيِّنة، أو في ترك العمل بالمجمل والمصير إلى دليل آخر يخلفه من نص أو قياس.
فمآل المصلحة الحاصلة من الكتاب أن أراح مجتهدي الأمة من تعب الاجتهاد في محمل ذلك المحمل، فرأى عمر أن تلقي الأمة هذه المزية من رسولهم في حال اشتداد المرض عليه بإراحة الرسول عليه الصلاة والسلام من عناء الكتاب والإملال، أوجب لشكر عنايته صلى الله عليه وسلم بهم، فقال:"إن رسول الله قد غلبه الوجع"، و"حسبنا كتاب الله". وليس في ذلك عصيان لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
(1) اليحصبي: إكمال المعلم، ج 5، ص 381 - 382.
وبذلك ينكشف الوجه الثامن من وجوه الإشكال.
وأما قول بعض الحاضرين: "أهَجَر؟ "، فقد روي بهمزة الاستفهام وبدونها. قال المازري:"النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من أن يكذب على الله عز وجل أو يفسد ما يبلغه عنه، وهو مع هذا غيرُ معصوم من الأمراض وما يكون من بعض عوارضها مما لا يعود بنقص في منزلته، ولا فساد فيما مهد من شريعته. وقد كان صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُحر يُخيل إليه أنه عمل الشيء وما عمله، ولم يجر ها هنا منه عليه السلام من الكلام ما يُعَدُّ مناقِضًا لما قدَّم من الأحكام والشرائع، ولا الكلامُ في نفسه دالٌّ على الهذيان الذي يكون عن الحميَّات". (1)
يريد المازري بكلامه هذا أننا لو سلمنا أن يكون قول القائل: "أهجر؟ " معناه أقال كلامًا غير مراد له، لم يقدح ذلك في تقرر عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم، ولم يوجب طعنًا في قائل هذا الكلام. وقد حقق عياضٌ في الإكمال هذا المقامَ بقوله:"إنما جاء هذا من قائله عن طريق الإنكار على القائلين: لا تكتبوا. يريد هذا القائل: كيف تتركون أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجعلونه كأمر مَنْ هجر في كلامه؟ أي وذلك لا يُظن بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالصورة صورة الاستفهام، والمعنى على النفي المحض". (2)
وتحصل من مجموع كلامَي الإمامين أن القرينة قائمة على قصد إنكار أن يكون قال هجرًا. ويدل لذلك أن عمر لم يُنقل عنه أنه رد على هذا القائل، بل إنه توقف عن الزيادة في الامتناع من طلب الكتابة، وعدم موافقة الراغبين فيها. وقد اندفع الوجهُ التاسع من وجوه الإشكال، وانجلى ما تسابقت فيه فرسانُ ذلك المجال.
(1) المازري: المعلم بفوائد مسلم، ج 2، ص 234. وقد أورد المصنف كلام المازري بتصرف واختصار وسقناه كاملًا. وللمازري بعد ذلك كلام مهم من المفيد جلبه هنا:"وقد بقي كثير من الأحكام عظيم خطرها في الشرع غير منصوص عليها، ولكنه نص على أصولها ووكل العلماء إلى الاستنباط فيقول كل إنسان منهم بقدر ما يظهر له".
(2)
اليحصبي: إكمال المعلم، ج 5، ص 379 - 380 (وقد أورد المصنف كلام عياض بتصرف يسير).