الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم المتجلية من هذا المقام الجليل:
وبعد فحقٌّ علينا أن نبين من حكمة الله تعالى في هذا الحوار الذي جرى بين أصحاب رسول الله بمرأى منه ومسمع، وفي عزمه على الكتابة ثم إعراضه عنها.
الحكمة الأولى: أن عزم الرسول عليه الصلاة والسلام كان مثالًا عظيمًا لمقدار حرصه على أمته ورأفته بهم، ومحبته الخير لهم إلى آخر ساعات بقائه بهذه الحياة الأولى، فكان عليه السلام غير مفيت لحظة من لحظات تمكنه من الإرشاد استكثارًا لهم من الخير، واحتياطًا في تجنيبهم مواقع الفتن. وإن الاعتبار في ذلك يزيد أمته حبًّا فيه، وتعظيمًا لقدره، فيكثرون من الصلاة عليه، وسؤال الله أن يجازيه أحسن ما جازى نبيًّا عن أمته، فيعود ذلك على الأمة بخير عظيم.
الحكمة الثانية: ما حصل من التشاور والاجتهاد في الأمر بين أصحابه بحضرته، فإن ذلك مشهد يسر الرسول بما يرى من تلقيهم الأدلةَ النظرية بجواذب أفهامهم، وأنهم لا يألون جهدًا في العمل بمختلف الأدلة من سوابق أقوال رسولهم ولواحقها.
الحكمة الثالثة: أن رأى مقدار تمسكهم بالقرآن، إذ لم يختلفوا في أن القرآن حسبهم، ولا في أن هذا الكتاب لا يقوم مقام القرآن، وإنما اختلفوا في شدة الحاجة إلى بيانه وعدم شدتها، وفي إيثار راحة الرسول، وسد ذريعة الشك في الدين وعدم ذلك.
الحكمة الرابعة: أن كان مظهرًا من مظاهر رأفة الصحابة بنبيهم، وتطلب ما فيه راحته من الكلف والمتاعب، فإذا كانوا بتلك المثابة في شؤونه الجسدية، أفلا يكونون أحرصَ الناس على حصول اطمئنان نفسه الزكية بعد وفاته في تمسكهم بشرعه ووصاياه؟
الحكمة الخامسة: أن سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سماعه كلام عمر بن الخطاب فيه إقرارٌ لرأيه، وإيماءٌ إلى أنه ممن يُعوَّل على اجتهاده في مضايق الأمة،
فيكون إشارةً إلى الاكتفاء به في فهم أمر الخلافة، إذ كان له ذلك المقام المحمود يوم سقيفة بني ساعدة.
الحكمة السادسة: أنه وقع في بعض روايات الحديث في البخاري أنه لما كثر بينهم اللغط والخلاف، قال:"قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع". فالتنازع قد كان من الذين خالفوا رأي عمر بن الخطاب؛ لأنهم هم الذين نازعوه وجاؤوا يستفهمون رسول الله. فدل ذلك على ترجيح رأي عمر، وعلى تعليم الأمة الاعتراف بمزايا كبرائها وذوي رأيها مِمَّنْ شهد الناسُ بعلمه وفضله، فإن رسول الله كان أخبرَهم أن الله أيد رأي عمر في حوادث عديدة، وأن الشيطان لا يسلك فجًّا سلكه عمر بن الخطاب. (1)
الحكمة السابعة: أن عدول رسول الله عن كتابة الكتاب يعلمهم أن المصلحة إذا عارضتها مصلحةٌ أقوى منها يجب المصيرُ إلى أرجح المصلحتين.
الحكمة الثامنة: أنه أراهم أن أرجح الناس عقلًا، وأسدهم حلمًا، وأعلاهم مقامًا، لا يمنعه ذلك كله من الرجوع عن رأي بدا له إلى رأي آخر يتبين له رجحانه، وأنه لا غضاضةَ عليه في ذلك، إذ الابتداء منه والرجوع منه.
الحكمة التاسعة: أن ذلك كان مظهرًا من مظاهر العروج برسول الله صلى الله عليه وسلم في معارج الكمال في كل آن، فإن الله ألاح لرسوله شيئًا فيه نفع عظيم للأمة، ثم ألاح له عقب ذلك ما هو خير مما بدا له أول الأمر، إذ قال:"فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه".
(1) عن سعد بن أبي وقاص قال: "استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك رسول الله، قال: "عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب". قال عمر: فأنت يا رسول الله كنت أحق أن يهبن، ثم قال: أي عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجك"". صحيح البخاري، "كتاب بدء الخلق"، الحديث 3294، ص 548؛ صحيح مسلم، "كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم"، الحديث 2396، ص 936.
الحكمة العاشرة: أن الله جلَا لرسوله صلى الله عليه وسلم أن عنايته بأمته دائمة مستمرة، وأن الله معهم في شدائد أمورهم، وأنه يتولاهم بلطفه وتوفيقه، فهو يرُبهم ويكفيهم، ويريهم درجات عنايته من درجة إلى أرقَى منها؛ لأنهم نصروا دينه، فذلك عهد بأنه لا يزال ناصرهم ما أقاموا الدين، كان مؤكدًا بمظهره ما تضمنه قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [محمد: 7]، وفيه تلك المشاهدة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه"، قرة عين من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتحقيق لسابق بشارته ووعده في قوله:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5].
الحكمة الحادية عشر: أن جمعًا من الصحابة منهم عبد الله بن عباس رأوا أنهم رزئوا رزيئة عظيمة بعدول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الكتاب، وتوقعوا أن سبب ذلك هو التنازع، كما ورد في حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لهم فقال:"خرجت لأعلمكم بليلة القدر، فتلاحى رجلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم". فدل على أن التنازع يفيت مصالح، وإن كان الله تعالى قد عوضهم عن فواتها مصالح أخرى أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم:"ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه"، فتلك مِنَّةٌ من الله ونعمةٌ بعد حصول الموعظة.