الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نصبَ الناظر على كل وقف. ولكن هذا المذهب لا يلزم الجريُ على مقتضاه، إذا تبينت المصلحة في الجري على غيره من مذاهب الأئمة. وإذا ظهر لزوم بقاء نظار الوقف، فليكَوِّنوا لهم إدارة.
وأما كثرةُ الخصومات، فقدرٌ مشترَك في الحقوق التي فيها شركاء. وأما الإجبار على البقاء على الإشاعة، فليس كذلك؛ لأن لمستحقي الوقف قسمتَه قسمةَ انتفاع. ويُجبر على القسمة مَنْ يأباها على قواعد المذهب المالكي، فيجب إجراءُ أحكام الوقف على مقتضى هذا المذهب.
وإذ قد نفينا عن الوقف الخاص ما يُتوهم منه أنه مشتمِلٌ على مفاسد، فنحن نحيل بيانَ ما فيه من المصالح على ما يشتمل عليه الفصل بعد هذا. وأما مخالفة الفرائض الشرعية، فهذا ما استند إليه شريح، وزيفه جمهرةُ الفقهاء فزاف.
هل الوقف خرمٌ لنظام الاقتصاد العام
؟
قال حضرة النائب المقترح: "إن عدد الأوقاف الأهلية في تزايد، فهو يجري سريعًا نحو الحجر على جميع سكان القطر، وعلى إخراج جميع ثروته من التعامل".
ومرجع هذه النظرية إلى أن الوقف مانعٌ للأمة من التداين، ومن حيث إن الأوقاف لا تصلح لأن تكون رهنًا في البنوك وعند المرابين. ولعل هذا ينقلب تأييدًا لفائدة الوقف، وترغيبًا فيه؛ إذ لا يخفى ما في تداين أمة ضعيفة يداينها أصحابُ رؤوس أموال قوية من الخطر المهدِّد لها بالإفلاس. وقد رأينا ما للأوقاف من الفائدة للأمة في أمثال هاته الأحوال، فإن أرضها لم يسلم منها من مزاحمة المنافسين فيها من أصحاب رؤوس الأموال إلا الأرضون الموقوفة وقفًا أهليًّا، وأما الأرضون المملوكة فقد خرجت من أيدي أربابها اختيارًا بالبيع وبالرهن، مع عدم الوفاء بالدفع المفضي إلى أن يباع المرهون بالاختيار أو بالحكم.
على أن الثقة التجارية قد تحصل بوفرة أموال الأمة بوفاء تجارها بالتزاماتهم، وبإجراء تجارتهم على الأساليب العصرية، فإن كثيرًا من الأمم ذوات الثروة ليس
لتملك الأرض فيها اعتبار قوي. على أن علم الاقتصاد السياسي يصرح بأن الثروة عبارةٌ عن الأشياء النافعة القابلة للتداول، وأن أصول إحداث الثروة هي الأرض والعمل ورأس المال، وأن رأسَ المال هو السلع والأمور الضرورية للأمم، وأن للعمل شروطًا كثيرة، وأن الأرض إنما تُعتبر في إحداث الثروة من حيث إنها مادةُ استثمار طبيعية.
فيتضح من ذلك أن أرض الوقف أصلٌ من أصول الثروة في نظر علم الاقتصاد، وأن وقفيتها لا تحول دون الاستثمار منها، كما سنوضحه في المبحث الآتي.
أما مسألةُ رهن الأملاك عند الحاجة للمال، فهي من توابع مباحث الاقتصاد، غير أنها لا يُنظر إليها في المرتبة الأولى. وقد يرهن الإنسان عند الحاجة معملًا، أو سهام سكة حديدية، أو مقادير من الذهب، أو نحو ذلك من كل ما يمكن الوفاءُ منه.
وذكر السيد المقترِح من المفاسد الراجعة إلى خرم نظام الاقتصاد أن في الوقف تحجيرًا على مستحقيه في تمام التصرف في أملاك مورثيهم، فيصيرون عالة على الهيئة الاجتماعية إلخ.
وجوابه أن من سعة الشريعة ومناسبة عمومها لسائر الأمم، وصلوحيتها لمختلف العصور والأجيال والأحوال، أن تجد في أحكامها ما يلائم تلك المختلفات. والرشداء صنفان: صنفٌ له مقدرة على إدارة أمواله وتنميتها بكده وعمله، وصنفٌ لا يقدر إلا على حفظ ماله من التلف، إلا أن هذا الصنف لم يبلغ بهم الحال إلى السفه أو العجز. فكما أن الأولين من مصلحتهم أن يكونوا ممنوعين من تفويت ما هو لهم؛ لأنهم لو أُطلق لهم التصرفُ لتعرضت أموالهُم للنفاد في ضائقات مالية تمر عليهم، أو نوائب زمنية تعتريهم. ولكنهم إذا لم يجدوا سبيلًا إلى تفويت الأحباس تجلدوا لمعاناة تلك الكوارث بما استطاعوا، ووجدوا من غلق باب الحيلة في وجوههم معذرةً لأنفسهم في الصبر والجلد، فحُفظت ثروتُهم لهم ولأعقابهم.
وكم رأينا من نوائب مرت على بعض العصور، فكان للحبس فيها منافعُ جمعة أبقت على ثروة البلاد. والناس أكيسُ من أن يفكروا في منع أبنائهم وأعقابهم من مطلق التصرف في أموالهم ما لم يكونوا لمَحوا بوارقَ الأخطار تنذرهم بسوء المستقبل، والحبس لا يمنع مَنْ يكون من مستحقيه ذا مقدرة على تنمية المال من أن يكتسب لنفسه ثروةً مما يحصله من حظه من ريع الوقف. على أن هنالك أسبابًا لانتفاع المستحق ذي المقدرة بعقار الحبس:
1 -
منها إمكانُ قسمة الحبس قسمة انتفاع، فإنها مما يُجبَرُ عليه المستحقون في المذهب المالكي، ومما يمكن الاتفاقُ عليه بينهم في نظر المذهب الحنفي، أو تقع المهايأة. (1) فمن سعة الشريعة الإسلامية أن كان التملك فيها نوعين: تملك أعيان بمنافعها، وتملك منافع فقط، لتصلح الشريعة بذلك لأصناف الناس ومختلف الأحوال.
2 -
ومنها أن من الواقفين مَنْ يجعل البيع للمستحقين عند الاحتياج أو عند اجتماع كلمتهم على البيع، فيصير المشتري مالكًا لذلك المناب الذي اشتراه، ويزول عنه وصف الحبسية.
3 -
ومنها أن أرض الوقف إذا لم يقدر المستحق على حرثها يسوغها من يحرثها، وكذلك ريع الوقف.
4 -
ومنها أن أرض الوقف يصح فيها عقدُ المغارسة، فتسلم لِمَنْ يغرسها شجرًا إذا كانت أصلحَ للغرس منها للحرث، وبعد بلوغ الأشجار حدَّ الإثمار تقسم الأرض والشجر بين الواقف والغارس على النسبة التي يغارسها لمثلها على اختلاف عوائد الأقطار.
(1) المهايأة لغة: المناوبة. "وهي عند الفقهاء قسمةُ المنافع على التعاقب والتناوب، وذلك بأن يتواضع المتشاركون على أمر فيتراضوا به، بمعنى أن كلًّا منهم يرضى بحالة واحدة ويختارها". والمهايأة نوعان: زمانية ومكانية. انظر حماد: معجم المصطلحات المالية والاقتصادية (دمشق: دار القلم، 1429/ 2008)، ص 448.