الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو الأَسْر والسَّبْي، فإذا أمِنوا منهما لم يعبؤُوا بالموت وما دونه. وقد عبر عن ذلك أبو فراس بنزعته العربية بقوله يخاطب سيفَ الدولة:
وَلَكِنَّنِي أَخْتَارُ مَوْتَ بَنِي أَبٍ
…
عَلَى سَرَوَاتِ الْخَيْلِ غَيْرَ مُوَسَّدِ
وَتَأْبَى وَآبَى أَنْ أَمُوتَ مُوَسَّدًا
…
بِأَيْدِي الأَعَادِي مَوْتَ أَكْبَد أَكْمَدِ (1)
وقال النابغة في شأن الأسْر والسَّبْي:
حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مَقَادَتِي
…
وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا (2)
سد ذرائع انخرام الحرية:
جرى الإسلامُ على عادته في التشريع، وهي أن يشرع الوسائلَ ويؤسس القواعدَ المفضية إلى مقاصده، ثم يحيطها بسدّ الذرائع التي قد تتسلل من منافذها مُفْسِداتُ المقاصد فتعود على أصولها بالإبطال، وتلك هي الملقبة في أصول الفقه بسد الذريعة.
وهذه الذرائع إنما تتعلق بالقول والعمل، فأوجب الإسلامُ على المسلم أن يريدَ بكل قول وعمل وجهَ الله والإخلاصَ فيه وتركَ الرياء، وسَمَّى الرياء بالشرك الأصغر، وذلك ليجتنب الناسُ حبَّ المحمدة الباطلة. فإن حب المحمدة قائدٌ إلى الاستعباد الاختياري ومانعٌ للحرية؛ لأن الافتتانَ بحب المحمدة يحتم على صاحبه الخوفَ من الانتقاد وغضبِ الجمهور من الذين لا يفقهون مصلحةً من غيرها، ولا يميزون بين الحق والباطل. فإذا حمدوا ومجدوا أحدًا، حسبوا فعلَهم مزيةً أنالوها
(1) البيتان هما الرابع والخامس من قصيدة قالها أبو فراس أول ما أسر يسأل سيف الدولة أن يفديه، وفيها "النصارى" بدل "الأعادي". ديوان أبي فراس الحمداني، شرح نخلة قلفاط (بيروت: مكتبة الشرق والمطبعة الأدبية)، 1910، ص 31.
(2)
ديوان النابغة الذبياني، ص 70 (نشرة محمد أبو الفضل إبراهيم)؛ ص 118 (نشرة ابن عاشور). والبيت من قصيدة قالها النابغة في مرض النعمان بن المنذر.
إياه، فأصبحوا يمنون عليه، ويترقبون منه أن يطيعَهم في قضاء ما يشتهون مِمَّا يظنونه مصلحة، والغرض أنهم لا يفقهون.
فإذا كان ناصحًا أمينًا لم يستفزه ذلك، إذا علم أن فيه لَهم سيِّئ العواقب، ولم يغترَّ منهم بتلك الظواهر الكواذب، ولم يرقه السيرُ في عراض المراكب. وقد حكى الله من مواقف الرسل والناصحين من ذلك كثيرًا، فحكى عن موسى عليه السلام:{قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)} [الأعراف: 138، 139].
فأما إذا فتنته تلك الظواهرُ الخلابة فانتفخ عجبًا، وخشيَ انْحرافًا منهم وسلبًا؛ خَصَّ في إدراك الحقيقة، وخادعهم وواربَهم، وأضاع مصالِحَهم، وغلَب سفهُهم على رُشده، قال تعالى:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]، وقال:{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران: 146]. وقد سقط في هذه الهواة كثير من زعماء الأمم.
وسدَّ ذرائع قتل الحرية بالقوة المالية؛ إذ قد يعرض الاستعباد من الحاجة إلى المال، وفي الحديث:"تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعطَ لم يرضَ". (1) فلذا أبطل الإسلامُ الربا؛ لأنه طريقٌ واضح لاستعباد المضطرين، وأبطل عقودَ الإكراه، وأبطل معظمَ الشروط التي تُشترط على العامل في القراض والإجارة والمغارسة والمساقاة والمزارعة. وقد أمكن أن تُستخرَجَ قاعدةٌ شرعية لهذه المسائل الممنوعة، وهي:"منع أن يَفْترص الغنِيُّ احتياجَ الفقير إليه، فيعنته لأجل ذلك".
(1) صحيح البخاري، "كتاب الجهاد والسير"، الحديث 2886، ص 477؛ "كتاب الرقاق"، الحديث 6435، ص 1117.