الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمُّ رسول الله هي آمنةُ بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن حكيم، فزهرة أخو قُصي، وهي تلتقي مع رسول الله في حكيم. هذا العِقدُ النفيس ما انتظم في سِمطيه إلا جوهر، ولم يشنه وَكْت، (1) ولم تنخره قادحة. فكانت كلُّ فرائده في الأجيال نيرة واضحة، وما هو إلا نسبٌ شريف العنصر، وكفاه برهانًا أن يسمع واع ويرى مبصر.
وإن الله تعالى كما قَدَّر لمحمدٍ أن يكون أفضلَ رسله، وأن يكون مبعوثًا بما وصل إليه من أقوم سبله، كذلك قَدَّر له إكمالَ الفضائل في ذاته وما يحف به، وجعل أولَ مظهر لذلك أن قدر له طهارة نسبه، حتى لا توضع تلك الجوهرةُ الفذة في غير صدف أمثالها، ولا تزن (2) بنقيصة تتطرق إليها أو إلى مثالها، فإذا نحن غصنا في بحر الأنساب روم استخراجها، ملئت نفوسُنا عجبًا من صفاتها وابتهاجها، فمثلنا حينئذ كمثل قوله:
كَمُضِيئَةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا
…
بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يَهِلُّ وَيَسْجُدِ (3)
شرف هذا النسب:
إن شرف العنصر والنسب في الفضائل معدودٌ في الفضائل الذاتية، ولكن ليس عدُّه في الفضائل من حيث هو كافٍ في تحصيل فضائل الذات؛ إذ قد يخلف للفرع مخيلة الأصل، وينبت في منابت النخيل شجر الأثل. (4) وإنما يُعدُّ فضيلةً من حيث هو وسيلةٌ إلَى نماء الفضائل في النفس المطبوعة على الفضيلة، وقدوةٌ للخلف
(1) الوكت: الأثر اليسير في الشيء.
(2)
زنَّ فلانًا يزنه: اتهمه، والزَّنَّة: التهمة.
(3)
ديوان النابغة الذبياني، ص 92 (نشرة محمد أبو الفضل إبراهيم) وص 96 (نشرة ابن عاشور، وفيها جاء أول البيت بلفظ: "أو درة" بدل "كمضيئة").
(4)
الأثل: شجر من الفصيلة الطرفاوية، طويل مستقيم يُعمَّر، جيد الأغصان متعقدها، دقيق الورق. واحدته: أَثْلة.
يأتسون بها آثارَ أسلافهم في مرتقى الكمال، فيحصل من ذلك كمالان: كمالُ الذات وكمالُ القدوة، ومن حيث هو قاطعٌ لألسنة الحاسدين الذين يحسدون أهلَ الكمال على كمالهم، والمعاندين لكل مَنْ يدعوهم إلى خلع ذميم أعمالهم، فإذا لم يجدوا مغمزًا فيمن حسدوه وعاندوه التمسوا له ما يحفُّ به من العوارض، ولا شيء يحف بالمرء أشدُّ به تعلقًا من حال آبائه.
فمن أجل ذلك شرف الله قدرَ نبيه بأن قدر له في الأزل آباء كانوا في مرتبة السؤدد وأجل، وقد قال الله تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، وقال:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، قرئ في الآيتين بضم الفاء في لفظ أنفس على أنه جمع نفس، فيكون معناه من نسبهم؛ لأن لفظ النفس متعيِّنٌ في هذا المقام لهذا المعنى. ويُفهَم منه أن المقصود به نسبٌ خاص، وهو النسب الرفيع، أي خير أنسابهم بقرينة مقام المدح والمن. وقرئ بفتح الفاء من أنفس، ففُسِّر بأنه اسم تفضيل مشتق من النفاسة، أي من أشرفهم، والمراد شرف النسب. رُوِيَ عن علي بن أبي طالب يأْثُرُه إلى رسول الله أنه قال:"من أَنْفَسِكم نسبًا وصهرًا". (1) وفي صحيح البخاري عن أبي سفيان في حديث هرقل أنه كان من كلامه مع أبي سفيان أنه قال له: "وسألتك عن نسبه (يعني النبي صلى الله عليه وسلم)، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسلُ تُبعث في نسب قومها". (2)
إن شرف النسب يتقوَّم من شرف القوم وشرف العشيرة، ومن نزاهة سلسلة الآباء والأمهات عن أن يلتصق بهما ما يثلم ذلك الشرف، ويعود نقصه بفضاضة في شرف الخلف. فأما شرفُ القوم وشرف العشيرة فحاصلٌ في شرف العرب من بين الأمم، وفي شرف قريش وفي شرف بني هاشم. ولستُ الآن بصدد تفصيل الكلام فيهما؛ لأن ذلك يطول، وأقتنع هنا بما رواه مسلم في صحيحه والترمذي عن واثلة
(1) انظر ذلك مثلًا في اليحصبي: الشفا، ص 13 - 14.
(2)
صحيح البخاري، "كتاب بدء الوحي"، الحديث 7، ص 2 - 3.
ابن الأسقع (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى من ولدِ إبراهيم إسماعيل، ومن ولد إسماعيل كِنانة، ومن كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". (2)
وأما نزاهةُ الآباء والأمهات، فنزاهةُ سلسلة الآباء هي السُؤْدَد، ونزاهةُ سلسلة الأمهات هي الصيانة. فأما سؤدد آبائه صلى الله عليه وسلم، فأولهم إبراهيم رسول الله، ثم ابنه إسماعيل رسولٌ ابن رسول، وهو أفضل أولاد إبراهيم على الصحيح. (3)
ثُمَّ إن جميع آباء رسول الله الذين حُفظت أسماؤهم إلى عدنان كانوا أفضلَ أجيالهم في أقوامهم ومجمعَ مكارمهم، مرموقين بعين الوقار والتعظيم: فأبوه عبد الله فضَّله الله بمنقبة نذر عبد المطلب أبيه أن يذبحه قربانًا لله شكرًا على أن جعله عاشرَ عشرة ذكور من أبنائه، وألهم الله قريشًا فأشاروا بفدائه بمائة من الإبل، فكان ذلك إلهامًا إلَهيًّا ليكون آخرُ آباء رسول الله في ذرية إبراهيم ذبيحًا مفدًّى كما كان أولُهم من تلك الذرية ذبيحًا مفدى، ولذلك وُصف رسولُ الله بأنه ابن الذبيحين. وأبوه عبد المطلب كان أفضلُ قريش، وسيدَ أهل البطحاء، ومُظهِرَ بئر زمزم كما ظهرت لإسماعيل، وأبوه هاشم - واسمه عمرو - كان سيدَ قريش ومُطْعِمَ الناس في المجاعة، قال عبد الله بن جُدعان:(4)
(1) واثلة (بالثاء المثلثة) والأسقع (بقاف)، وهو من بني كنانة، صحابي خدم النبي ثلاث سنين، وتوُفَّي سنة 82 هـ. - المصنف.
(2)
صحيح مسلم، "كتاب الفضائل صلى الله عليه وسلم"، الحديث 2276، ص 897؛ سنن الترمذي، "أبواب المَنَاقِب عَن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم"، الحديث 3614، ص 825.
(3)
قال ابن هشام في خاتمة كلامه على أمهات الرسول عليه السلام: "فرسول الله صلى الله عليه وسلم أشرفُ وَلد آدم وأفضلُهم نسبًا من قبل أبيه وأمه". السيرة النبوية، ج 1/ 1، ص 92؛ السهيلي: الروض الأنف، ج 1، ص 211.
(4)
عبد الله بن جدعان، وكان يسمى "حاسي الذهب"، هو الذي عقد حلف الفضول في داره. كان أغنى أغنياء مكة، وكان يشرب في كؤوس من الذهب الخالص. وكان بنو تميم في حياته كأهل بيت واحد يقوتهم، وكان يذبح في داره كل يوم جزورًا وينادي مناد:"من أراد الشحم واللحم فعليه بدار ابن جدعان". وكان يطبخ عنده الفالوذج فيطعم قريشًا. وبنو تميم - رهط عبد الله بن جدعان - هم في الوقت نفسه رهط أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ
…
قَوْمٍ بِمَكَّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ (1)
وأبوه عبد مناف، كانت قريش تلقبه قمر البطحاء. وأبوه قصي هو سيدُ قريش، ومعيدُ مجدهم، وجامع شتاتهم، وهو الذي استردَّ ولايةَ الكعبة من خُزاعة. ولم يحفظ لنا التاريخُ ما كان من السيادة لحكيم ومرة على قومهم. وكعب كان من أعظمَ سادة قريش والعرب قاطبة. وهو أولُ مَنْ سَمَّى يومَ العروبة بالجمعة؛ لأنه كان يجمع فيه قريشًا ويخطبهم، وقد أَرَّخت قريش بعام موته. (2) ولم يحفظ لنا التاريخُ مما كان من مجد لؤي، وغالب، وفهر الملقب بقريش؛ لأنه كان يقرش عن خلة المحتاج فيسدها بماله. ومالك والنضر طُوِيَ مجدُهما في منسيِّ التاريخ، وكنانةُ كان عظيمَ القدر أعزَّ من دفعت إليه المطي، وخزيمةُ لم يحظ التاريخ بذكر مجده. ومدركة كان في وجهه نور، فكانوا يعلمون به أنه يؤذن بنبي يخرج من نسله.
وإلياس أولُ مَنْ أهدى البُدْنَ إلى الكعبة، (3) وهو الذي ظفر بالحجر الذي قام
(1) هذا البيت هو الرابع من مقطوعة ذكر السهيلي أنها لعبد الله بن الزبعري، يقول فيها:
كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْضَةً فَتَفَقَّأَتْ
…
فَالْمَحُّ خَالِصُهُ لِعَبْدِ مَنَافِ
الْخَالِطِينَ فَقِيرَهُمْ بِغَنِيِّهِمْ
…
وَالظَّاعِنِينَ لِرِحْلةِ الأَضْيَافِ
وَالرَّائِشِينَ وَلَيْسَ يُوجَدُ رَائِشٌ
…
وَالْقَائِلِينَ هَلُمَّ للأَضْيَافِ
عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ
…
قَوْمٍ بِمَكَّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ
وقال ابن إسحاق: "كان هاشم فيما يزعمون أول من سن الرحلتين لقريش: رحلتي الشتاء والصيف. وأول من أطعم الثريد للحجاج بمكة، وإنما كان اسمه عمرًا؛ فما سمي هاشِمًا إلا بهشمه الخبزَ بمكة لقومه، فقال شاعر من قريش أو من بعض العرب:
عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ
…
قَوْمٍ بِمَكَّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ
سُنَّتْ إِلَيْهِ الرِّحْلَتَانِ كِلَاهُمَا
…
سَفَرُ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةُ الإِيلَافِ".
ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 1، ص 112؛ السهيلي: الروض الأنف، ج 1، ص 249 - 250.
(2)
كان موت كعب قبل عام الفيل بخمسمائة وستين سنة. - المصنف.
(3)
كذا قال الزبير بن بكار. السهيلي: الروض الأنف، ج 1، ص 30.
عليه إبراهيم لبناء الكعبة، وهو المسمَّى بمقام إبراهيم. وأبوه مضر كان أفضلَ قومه، وقد رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسبوا مضر، فإنه كان قد أسلم". (1) وأبوه نِزار كان في وجهه نور، وكان واضعَ الكتابة العربية في أحد الأقوال. وأبوه معد كان قائدَ قومه، وكان يحارب بني إسرائيل يدفع غاراتهم عن بلاد العرب. وأبوه عدنان كان أشرفَ العرب، وكان بُخْتَنَصَّر لمَّا غزا بلادَ العرب وغزا أورشليم حمل معه عدنان ومعه النبي إرميا إلى بابل. (2) وبين عدنان وإسماعيل أربعون أبًا أو سبعةٌ وثلاثون، (3) أسدلت العصورُ على مجدهم ستورَ القدم، فحجبت عنَّا مجدًا يملأ ذكرُه السمعَ والفم.
وَهَلْ يُنْبِتُ الْخَطِيَّ إِلَّا وَشِيجُهُ
…
وَتَنْبُتُ إِلَّا فِي مَنَابِتِهَا النَّخْلُ (4)
(1) رواه ابن سعد عن عبد الله بن خالد مرسلًا. وفي الروض الأنف للسهيلي أن الزبير بن بكار روى في مسنده: "لا تسبوا مضر ولا ربيعة؛ فإنهما كانا مؤمنين"، وكلا الحديثين بين مرتبتي الحسن والضعف. - المصنف. الزهري: كتاب الطبقات الكبير، ج 1، ص 40؛ السهيلي: الروض الأنف، ج 1، ص 30؛ وقد رواه البلاذري عن رَوْح بن عَبْدِ المُؤْمِنِ، عَنْ مَحْبُوبٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ البصري، بلفظ:"لا تَسُبُّوا مُضَرَ وَرَبِيعَةَ، فَإنَّهُمَا قَدْ أَسْلَمَا". وفي رواية أخرى عنده: "لا تَسُبُّوا مُضَرَ، فَإِنَّهُ كان مسلمًا". البلاذري: أنساب الأشراف، ج 1، ص 31.
(2)
مع أن الطبري ذكر أن بختنصر هزم عدنانًا بذات عرق، وأنه سار في بلاد العرب حتى بلغ حضور أو حضوراء باليمن، ومع ذكره أن النبيَّيْن برخيا وإرمياء من بني إسرائيل حملا معد بن عدنان إلى حران حمايةً له من الملك البابلي، إلا أنه لَم يذكر أن بختنصر حمل عدنانًا مع إرمياء إلى بابل. الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج 1، ص 559 - 560. ولَم يذكر ابن كثير ذلك أيضًا عند الكلام على فتك بختنصر بالعرب في زمن معد بن عدنان. البداية والنهاية، ج 3، ص 251.
(3)
قال ابن حجر في شرح ما جاء من حديث في نسبة اليمن إلى إسماعيل: "وحكى أبو الفرج الأصبهاني عن دغفل النسابة أنه ساق بين عدنان وإسماعيل سبعةً وثلاثين أبًا فذكرها، وهي مغايرة للمذكور قبل". العسقلاني: فتح الباري، "كتاب المناقب"، ج 2، ص 1610.
(4)
البيت هو الأخير من قصيدة "صحا القلب عن سلمى" التي مدح فيها زهيرُ بن أبي سلمى سنانَ بن أبي حارثة النمري، وهي من بحر الطويل. وقد جاء قبله الأبياتُ الستة الآتية التي يبرز فيها الشاعر خصال ممدوحيه:
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ، حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ
…
وَأَنْدِيَةٌ، يَنْتَابُها الْقوْلُ وَالْفِعْلُ =