الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولَمَّا كان فهمُ مثل هذا تصرفًا بالقضاء، إذ يرجع إلى إبطال عقود الناس والتزاماتهم، وإبطالُ العقود من قسم القضاء، فإن المنع من التحبيس لا معنى له إلا القضاء بإبطال ما يقع منه، إذ ليس في قدرة ولِيِّ الأمر منعُ تصريح الناس بصيغ التحبيس والإشهاد به. ولَمَّا آل تصرفُه إلى الحكم بإبطاله صار قضاءً لا محالة، فيلزم أن تتوفر فيه شروطُ القضاء من الدعوى والجواب والثبوت. وإنما يكون تصرفُه سياسةً إذا تعلق بتدابير أحوال عموم الأمة، كزجر العصاة وإسناد الولايات، وتقدير الأمن، وإشهار الحرب، وتنفيذ القانون. أما الحكم بمنع صور من الأحباس مشتملة على شروط مختلف فيها بين مذاهب المقتدى بهم من أئمة الإسلام، فذلك يجري على قواعد التقاضي والنوازل عند المرافعات.
هل صدرت الفتوى بإبطال بعض أنواع الوقف؟ وهل إذا أفتى بذلك من أفتى تكون فتواه صحيحة
؟
قال الفاضل المقترح: "لجأ برقوق إلى علماء المسلمين فأفتوه بحل الوقف الأهلي؛ كما لجأ محمد علي إليهم فأعطوه نفس الفتوى"، إلخ.
أقول: لا شك أن المقرر يشير إلى ما ذكره السيوطي في حسن المحاضرة صحيفة 216 جزء 2: "عقد برقوق أتابك العساكر مجلسًا بالقضاة والعلماء؛ وذكر أن أراضي بيت المال أُخذت منه (أي من بيت المال) بالحيلة، وجعلت أوقافًا من بعد الناصر بن قلاوون؛ وضاق بيتُ المال بسبب ذلك. فقال سراج الدين البلقيني: أما ما وُقف على خديجة وعويشة وفطيمة (يعني ما وقف على مَنْ ليس لهم حقٌّ في بيت المال، وأراد بخديجة وعويشة وفطيمة أسماء مسمياتها مجهولة، كما نقول زيد وعمرو، أي ما وقف على حظايا الملوك والأمراء، ولذلك اقتصر على أسماء النساء) فنعم، وأما ما وُقف على المدارس والعلماء والطلبة، فلا سبيل إلى نقضه؛ لأن لهم في الخمس أكثر من ذلك. [فانفصل الأمر على مقالة البلقيني] ". (1)
(1) السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن: حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: دار إحياء الكتب العربي/ عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط 1، =
فالموضوع هو أن تلك الأوقاف من أراضي بيت المال أُخذت منه بالحيلة، أي أخذها الأمراء ووقفوها. فهي أوقافٌ صادرة من غير مَنْ يملك، فرجعت إلى اعتبار صحة تصرف الولاة في أموال بيت مال المسلمين. ولذلك فما أُعطيَ منها لغير مُستحِقٍّ فهو عطيةٌ باطلة، وما أُعطِيَ منها لِمَنْ يستحقه فهو عطية صحيحة؛ لأنه تصرف بوجه شرعي، ولذا علل البلقيني بقوله:"لأن لهم في الخمس أكثرَ من ذلك".
وبهذا يتضح أن ليس مورد فتوى البلقيني على الأوقاف الأهلية أو العامة. وهذا الذي ذكره البلقيني قدرٌ مشترك يتفق فيه المذهب المالكي والمذهب الشافعي. وقد ذكر المسألةَ صاحبُ المعيار في نوازل الأحباس في مسألة تحبيس السلطان أحمد بن أبي سالم الجنان على ضريح جده، وذكر أن علماء فاس - البجائي والعمراني والمزذغي والعبدوسي والمزجلدي - أفتَوْا ببطلان ما حبسه السلاطين من عقار بيت المال إذا كان على غير المصارف المستحقة في بيت المال من أولادهم وأقاربهم بما هو مبسوط من صحيفة 206 إلى صحيفة 210 من الجزء الرابع من المعيار من الطبعة الحجرية الفاسية. (1)
وأما ما ذكره من أن العلماء أفتوا للمرحوم محمد علي باشا خديوي مصر، فهو يشير إلى فتوى صدرت من مفتي الإسكندرية خاصة. وحاصل تلك الفتوى أن ولِيَّ الأمر له أن يمنع الناس من تحبيس أملاكهم فيما يستقبل سدًّا للذريعة واستنادًا لقول مَنْ قال بمنع الوقف؛ لأن أمر الأمير متى صادف قولًا مجتهدًا فيه نفذ. هذا حاصلها.
= 1387/ 1967)، ج 2، ص 305. وقد ساق المصنف كلام السيوطي بتصرف يسير، وأوردناه بلفظه كاملا.
(1)
انظر الفتاوى المشار إليها في: الونشريسي: المعيار المعرب، ج 7، ص 305 - 310.
وهي فتوى مختلة المبنى من جهتين: إحداهما أن استناده لسد الذريعة باطلٌ لِما ذكرناه آنفًا من أن الذريعة ثلاثةُ أقسام، ولا يشتبه على الناظر أن الحبس إذا كان قد يقصد منه المُحبِّسُ حرمانَ الوارث هو من القسم الثاني من الذريعة المجمع على عدم سده لاتفاق العلماء على قبول الحبس، في حين أن الذريعة المذكورة ملازمة له على رأي هذا المفتي من وقت وجوده. وأما الجهة الثانية، فهي قوله استنادًا لقول مَنْ قال بمنع الوقف، إذ قد علمت أن هذا القول لا يصح الاستنادُ إليه لشذوذه.