الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليها، وكان وقّافًا عند كتاب الله. وللمرأة حقُّ مطالبة الزوج بحسن المعاشرة وطلب عقوبته على ضدّ ذلك، ويُحكم لها بالطلاق في أحوال معينة، قال تعالى:{لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].
وأما حريةُ العمل المرتبط بعمل الغير، فأصلُه أنه لا يُضَرُّ بأحدٍ لينتفع غيرُه، ولكنه لا يعمل عملًا فيه اعتداء على حق الغير؛ كاحترام الكليات التشريعية. وذلك بالتحقيق من قبيل رعي الحريات المختلفة؛ لأن مرجعَ أحكام المعاملات إلى حفظ مجموع الحريات. وكذلك قد تُراعَى أعمالٌ تجب على المرء لغيره لإقامة المصالح كما تقدم، أو لبث الخير بين الأمة كالإرفاق والمواساة.
حرية العبيد:
سلّط الإسلامُ حقيقةَ الحرية على حقيقة العبودية قصدًا لعلاجها وإصلاح مزاجها. إنّ الرق شيءٌ قديم في المجتمع البشري من قبل التاريخ، وهو أثر تسلط القوي على الضعيف، فكان الرقيقُ معدودين كالحيوان يذيقهم سادتُهم النكالَ فلا يرثي لهم أحد، ولا ينتصف لهم قانون. وقد عذب العرب في الجاهلية بعض الرقيق؛ فعذبت قريش أمَة اتهموها بسرقة وِشاح جويريةٍ، ثم تبين أن الحدأة اختطفته ثم ألقته بمكانٍ، فكان ذلك سببَ إسلام هذه الأَمَةِ وهجرتها إلى المدينة، وكانت تقول:
ويَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا
…
أَلَا إِنَّهُ مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّانِي (1)
(1) وتفصيل القصة كما حكتها عائشة رضي الله عنها "أن وليدةً كانت سوداء لِحَيٍّ من العرب فأعتقوها، فكانت معهم. قالت: فخرجت صبيةٌ لهم عليها وِشاحٌ أحمر من سيور، قال: فوضعته أو وقع منها، فمرت به حُديَّاةٌ وهو ملقًى فحسبته لَحمًا فخطفته. قالت: فالتمسوه فلم يجدوه، قالت: فاتهمونِي به، قالت: فطفقوا يفَتِّشون حتى قُبُلَها. قالت: والله! إنِّي لقائمةٌ معهم إذ مرت الحُديَّاةُ فألقته، قالت: فوقع بينهم. قالت: فقلت: هذا الذي اتهمتمونِي به زعمتم وأنا منه بريئةٌ وهو ذا هو، قالت: فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، قالت: فكانت لها خِباءٌ في المسجد أو حِفش، قالت: فكانت تأتيني فتَحَدَّث عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلسًا إلا قالت: =
وقتلت بنو الحسحاس من بني أسدٍ عبدهم سُحيمًا الشاعر بتهمة تغزله بابنة سيده. (1) فمنح الإسلام من الحرية للعبيد ما لم يمنحهم إياه شرع سابق. ابتدأ الإسلام فأبطل معظم أسباب الرق وهي:
1 -
الاسترقاق الاختياري: كان الأب أو الأم أو الولي يبيع قريبه لمن يصيّره مملوكًا له، وكان هذا الاسترقاق مشروعًا في الشرائع القديمة، وقد ثبت في شريعة التوراة حسبما في الإصحاح 21 من سفر الخروج، والإصحاح 25 من سفر اللاويين. (2)
2 -
والاسترقاق في الجناية: بأن يحكم على الجاني ببقائه رقيقًا، وقد كان هذا مشروعًا حكاه القرآن في قصة يوسف بمصر:{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 75، 76].
= ويَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيب رَبِّنَا
…
أَلَا إِنَّهُ مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّانِي
قالت عائشة: فقلت لها: ما شأنُكِ لا تقعدين معي مقعدًا إلا قلتِ هذا؟ قالت: فحدثتني بهذا الحديث". صحيح البخاري، "كتاب الصلاة"، الحديث 439، ص 76؛ "كتاب مناقب الأنصار"، الحديث 3835، ص 643 - 644.
(1)
هو الشاعر الأسود المسمَّى حية، النوبي، صاحب القصيدة التي مطلعها:"عُميرة ودِّع إن تجهزتَ غاديا". وهذا وإن كان قد وقع في حدود الإسلام في خلافة عمر أو عثمان، إلّا أن حال البادية دام مدةً في صدر الإسلام قريبًا من حالهم في الجاهلية، قال تعالى في الأعراب:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97]. - المصنف.
(2)
جاء في سفر الخروج، الفصل 21، الفقرتان 5 - 6:"فإن قال العبد: إني أحب سيدي وزوجتي وأولادي، فلا أخرج معتوقًا، يقدمه سيده إلى القضاة ويأتي به إلى الباب أو إلى عضادتي الباب، ويخرز سيدُه أذنه بمخرز فيخدمه إلى الأبد". كتب العهد العتيق، ص 106. وانظر كذلك سفر الأحبار (اللاويين)، الفصل 25، الفقرات 47 - 49، ص 178.
3 -
والاسترقاق في الدَّين: وكان مشروعًا عند الرومان أن يأخذ الدائن مدينه إذا عجز عن الدفع فيسترقّه، وكذلك كان في شرائع اليونان في عهد سولون الحكيم.
4 -
والاسترقاق في الفتن والحروب الداخلية، أعني الحروب بين المسلمين فهو ممنوع في الإسلام.
5 -
واسترقاق السائبة: كما استرقّت السيارة من الإسماعيليين يوسف عليه السلام، حيث وجدوه في الجب:{فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف: 19].
وقد عزّز الإسلام ذلك بروافع ترفع حكم الرق، وهي كثيرة:
أ - فمنها: أن جعل من مصارف أموال المسلمين اشتراء العبيد وعتقهم وإعانة المكاتبين بنص قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177، التوبة: 60].
ب - ومنها أن جعل عتق العبيد من خصال الكفارات الواجبة ككفارة قتل الخطأ، وتعمد فطر رمضان، والظهار، والحنث.
جـ - ومنها أن أمر بمكاتبة العبيد، وهي التعاقد معهم على مقدار من المال يؤديه العبد منجمًا فإذا استوفاه صار حرًّا، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33]، حمل كثير من علماء الصحابة ومَنْ بعدهم الأمر في قوله:"فكاتبوهم" على الوجوب، وحمله الجمهور على الندب.
د - ومنها أن مَنْ أعتق جزءًا من عبده أُجْبِر على إكمال عتقه إن كان بقيتُه له، وإن كان لغيره معه فيه شركةٌ قُوِّمَ عليه نصيبُ شريكِه وأُلزم الشريكُ ببيع نصيبه للمعتق بالقيمة وأُعتق جميعه. ومنها أن من أولد أمته صارت في حكم الحرة، بمعنى أنه لا يجوز له بيعها ولا له عليها خدمة ولا استغلال، وتعتق من رأس تركته بعد مماته.
هـ - ومنها أن من عاقب عبده عقابًا شديدًا فمثّل به أعتق عليه جبرًا أو وجب عتقه دون جبر إذا لم يبلغ حد التمثيل كاللّطمة؛ لأن عتقه كفارة الاعتداء عليه كما في الأحاديث الصحيحة وأقوال الأئمة.
و - ومنها كثرة الترغيب في عتق العبيد والإماء.
ي - ومنها: أن جعل الفقهاء دعوى العتق لا يعجَّز مدعيها، ولا يُحْكَمُ عليه إن لم يجد بينةً بحكم قاطع لدعواه، بل له أن يقوم بها متى وجد بيِّنة.
ولقد استخلص فقهاءُ الإسلام من استقرائهم لأدلة الشريعة وتصرفاتها في شأن العبيد قاعدة فقهية جليلة وهي قولهم: "إن الشارع متشوّفٌ إلى الحرية"(1).
ويُضاف إلى هذا تأكيدُ الوصاية بالعبيد، وفي حديث أبي ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عبيدُكم خَوَلكم، (2) إنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جُعل أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، ويُلبسه مما يَلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلّفه ما يغلبه فلْيُعِنْه". (3) وفي حديث آخر، وأحسب أنه موجودٌ في بعض روايات خطبة حجة الوداع:"اتقوا الله في العبيد؛ فإنّ الله ملَّكَكم إياهم، ولو شاء لمَلَّكَهم إيّاكم". (4) وفي الصحيح نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يقول العبد لمالكه:
(1) الشربيني، شمس الدين محمد الخطيب: معرفة ألفاظ المنهاج، تحقيق جوبلي الشافعي (بيروت: دار الفكر، 1419/ 1998)، ج 3، ص 239 (كتاب النكاح).
(2)
الْخَوَل - بفتح الخاء المعجمة وفتح الواو - الذين يتخولون الأمور ويصلحونها. وهذا الوصف لبيان مزيتهم. - المصنف.
(3)
أخرج البخاري عن المعرور قال: "لقيتُ أبا ذر بالربذة وعليه حُلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببتُ رجلًا فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر! أعيرته بأمه؟ إنك امرؤٌ فيك جاهلية، إخوانُكم خولكم جعلهم الله تحتَ أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم". صحيح البخاري، "كتاب الإيمان"، الحديث 30، ص 8؛ "كتاب العتق"، الحديث 2545، ص 411؛ سنن الترمذي، "كتابُ البرِّ والصلة"، الحديث 1945، ص 476.
(4)
قال الحافظ العراقي: "حديث: كان من آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، أطعموهم مما تأكلون، اكسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فما أحببتم فأمسكوا وما كرهتم فبيعوا، ولا تعذبوا خلق الله فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم". قال فيه العراقي: "وهو مفرق في عدة أحاديث، فروى أبو داود من حديث =
"ربِّي أو سيدي، وليقل: مولاي"، ونهى المالكَ أن يقول:"عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي". (1)
فإن قال قائل: لماذا لم يُبطل الإسلامُ أصلَ الاسترقاق، أو يبطل أسبابَ حدوثه بعد الإسلام، فيكون أقطعَ لجرثومته وأنفعَ لتحقيق مقصد الشريعة من التشوف إلى الحرية؟ قلنا: تبين أن الاسترقاقَ قد بُنيت عليه نُظُم المدنية يومئذٍ في الخدمة والعمل والزراعة والغراسة، وأصبح من المتمولات الطائلة والتجارة الواسعة المسماة بالنخاسة. وانعقدت بسبب ذلك أواصرُ عظيمة، وهي أواصر الأمومة بين العائلات وأواصر الولاء في القبائل، فإبطالُه إدخالُ اضطرابٍ عظيم على الثروة العامة والحياة الاجتماعية بأسرها. على أنه ربما يُعرِّض العبيدَ إلى الهلاك، والذهاب على وجوههم في الأرض لا يجدون من يؤويهم. (2)
ثم لو أبطل الإسلامُ أسبابَ الرق في نظامه لكان ذلك ذريعةً إلى جراءة أعدائه من العرب وغيرهم على حربه؛ لأن أعظمَ ما يتوقعه المحاربون من الهزيمة
= علي: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة الصلاة، اتقوا الله في ما ملكت أيمانكم"، وفي الصحيحين من حديث أنس:"كان آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم"، ولهما من حديث أبي ذر: "أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم" لفظ رواية مسلم، وفي رواية لأبي داود: "من يلائمكم من مملوكيكم فأطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون، ومن لا يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله تعالى"، وإسناده صحيح". إحياء علوم الدين، "كتاب آداب الألفة والأخوة"، ج 2، ص 295 (الحاشية رقم 1).
(1)
انظر عدة روايات في هذا المعنى: صحيح البخاري، "كتاب العتق"، الحديث 2552، ص 412؛ صحيح مسلم، "كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها"، الحديث 2249، ص 887؛ سنن أبي داود، "كتاب الأدب"، الحديثان 4975 - 4976، ص 779.
(2)
راجع مزيد وتحليل وتفصيل لهذه المعاني في: بوازار، مارسيل: إنسانية الإسلام، ترجمة عفيف دمشقية (بيروت: منشورات دار الآداب، ط 1، 1980)، ص 116 - 123.