الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في حكم سماع السامعين قراءة القرآن من آلة الإذاعة:
وأمّا المبحث الثاني ففي حكم التصدِّي لسماع قراءة القرآن من آلة المذياع، والسامع لا يخلو عن أن يكون مسلمًا أو غير مسلم: فالسامع المسلم إذا كانت الآلة التي يسمع منها في محل لائق لأَنْ يُقرأ فيه القرآن، فسماعُه أمرُ حسن، كما تقدم. والمسلمون عند سماع القرآن مراتبُ كثيرة متفاوتة في الفضل بمقدار التفاوت في حضور القلب ومراعاة الآداب، وفي تدبر معاني القرآن والاستنباط منها لمن هو أهل لذلك، وفيما يحصل من الخشية والعظة لمن وفّقه الله لذلك.
وقد أشار السائل إلى آيات من القرآن مقصودٌ منها أعلى تلك المراتب، ولا يخلو مسلمٌ من أن يحصل له خيرٌ عند سماع القرآن. فإن كان السامع في محل غير لائق بقراءة القرآن - وعدم اللياقة أيضًا متفاوتٌ بين ما هو على خلافُ الأَوْلَى وبين ما هو على الكراهة وما هو على الحرمة - فينبغي في مواضع الانبغاء، أو يجب في مواضع الوجوب أن يقطع السامعُ الاتصالَ الجوي بينه وبين المركز الذي يأتي منه صوتُ قارئ القرآن إلى أن يتحقق انقضاءُ القراءة أو تبدّل حالة المحل. وأحسب أنّ معظمَ المسلمين يتوقَّون سماعَ قراءة القرآن في هذه الأحوال، فإن كان منهم مَنْ يجهل أو يذهل فيجب على المسلمين أن يذكِّر بعضهم بعضًا.
وأمّا السماع في حالة تقطيع بعض كلمات القرآن أو الفصل بين بعض آياته بسبب غَلَبَة بعض الأصوات، فذلك لا مؤاخذةَ على السامع منه، ولا يوجب منع سماعه؛ لأنه ينتفع بسماع ما سلم من ذلك. ومثلُ هذا ما يعرِض لسامع القرآن من الخروج عن مجلس القراءة، ثم يرجع فيجد القارئ قد تجاوز الآيات التي تركه عندها.
وأما السامع غير المسلم: فإن كان يفهم العربية، فسماعُ القرآن يرشده إلى مزايا الإسلام ويقرِّبه منه. وقد أجاز مالك أن يُقرأ القرآن على غير المسلم، رجاءَ اهتدائه إلى الإسلام. وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على المشركين في مكة وفي المدينة. (1) وليس في
(1) ليست قراءة القرآن على غير المسلم - فيما نرى - مما يحتاج إلى اجتهاد بتجويزها أو حتى إيجابها، فقراءة النبي عليه السلام القرآن على المشركين سواء في مكة أو المدينة إنما هي من مقتضى أمر الله =
القرآن إلا ما هو هدى وتنوير للقلوب التي قُدِّر لها أن تحلّ فيها الهداية، وكله مما يحق للمسلم أن يفتخر به.
فإن فرضنا أن يكون السامعُ غير المسلم مطبوعًا على السُّخرية بما لا موجب فيه، فذلك نزَق منه لا يؤاخذ به غيرُه، ولا يُعتدّ به في تشريع الأحكام. وإن كان غير المسلم لا يفهم العربية، فمرور تلك القراءة على سمعه كمرور الصوت على من يمشي في الطريق لا يعبأ به ولا يفهمه. وهذا في الغالب يعدل عن سماعه إلى سماع ما هو أعنى.
هذا ما لاح لي في جواب سؤال السائل، أفتيتُ به،
وأنا محمد الطاهر ابن عاشور، شيخ الإسلام المالكي، لطف الله به.
في 21 ربيع الثاني، وفي 11 جويلية سنة 1355 هـ/ 1936 م
= له بتبليغ الرسالة في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67]، وكذلك المسلم مطالب بأداء هذه المهمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.