الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة
(1)
قضت الحكمةُ الإلهية أن الواردات اللدنية التي يريد الله إيصالَها إلى الموجودين من خلقه، إنما تَرِد إليهم بالكيفيات والأشكال التي ألفتها مداركُهم ليطيقوا تلقيَها والاستفادةَ منها؛ لأن استفادةَ القابل من المبدأ تتوقف على المناسبة بينهما. لذلك كانت المجرداتُ الملكية تتمثل في الأشكال الجسمانية عندما تظهر للرسل والأنبياء، كما ورد في تمثلهم لإبراهيم وللوط عليهما السلام في صورة الضيف، وتمثل ملك الموت لموسى عليه السلام في صورة رجل، وتمثل الملائكة لداود عليه السلام في صورة الخصمين.
ولذلك لمَّا أراد الله تعالى إرسالَ روحٍ منه إلى الناس كافة بالشريعة العظيمة العامة المهيمنة على ما سبقها، والقائل في شأنها:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] فطر الحقيقةَ المحمدية نورًا خالصًا من الكدرات، وجعله منتقلًا في الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة بتدبير إلهي لا يعلمه إلا الذي قدر اصطفاءه في الأزل، إلى أن سَوَّاه بشرًا فأظهره مولودًا مباركًا. (2)
فكانت تبدو عليه في أطواره كلها دلائلُ المخالفة والارتفاع على معتاد الأطفال ثم الصبيان ثم الفتيان، كما شهدت بذلك الآثارُ الصحيحة المبثوثة في كتب
(1) جوهر الإسلام، العدد 4، السنة 1، 1388/ 1968 (ص 4 - 12). وهذه المجلة أنشأها سنة 1968 وأشرف عليها الشيخ الحبيب المستاوي (1923 - 1975)، ثم خلفه على إدارتها نجله الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي.
(2)
انظر في ذلك مقال "نسب الرسول عليه السلام ومناسبته لعليِّ ذلك المقام" في القسم الثاني من هذا المجموع.
السنة والسيرة البالغ مجموعُها مبلغَ التواتر المعنوي المفيد القطع بنتائج استقرائه، بحيث نحن في غُنية عن جلبها، إذ ليس هو الغرضَ من مقالنا هذا. وإنما أردنا أن نؤسِّسَ له ما نبني عليه جدرَ غرضنا الذي هو ذكرُ انتهائه صلى الله عليه وسلم إلى طور بلوغ الأشد؛ فإن وقت انبثاق ذلك النور الذي أُودعت (1) فيه نفسُه الزكية إذ أوحى إليه الروح العظيم من أمر الله، كما أفصح عنه قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 7]، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
فلا جرم أن ذلك الروحَ الذي أُوحيَ إليه هو روح الرحمة للعالمين. إن لله تعالى الصفةَ الكبرى، وهي صفة الرحمة بخلقه، فلله إرادةُ الرحمة بخلقه، كما قال:{إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)} [الإسراء: 66]. والرحمة اسم لانفعال نفساني يحصل لمن يعلم حاجة مخلوق ذي إدراك على الإسعاف بما ينفعه أو إلى إزالة ما يضره فينشأ عن ذلك الانفعال أثر، وهو إرادةُ صاحبه إيقاع ذلك الإسعاف أو تلك الإزالة بقدر الإمكان مع الحذر من إفضاء ذلك الإسعاف إلى حاجة أشد من التي رحم لأجلها.
والرحمة إذا وُصف بها اللهُ تعالى فإنما تُحمَل على أثر ذلك الانفعال؛ لاستحالة الانفعالات على الله تعالى، ولضيق اللغة عن الوفاء بصفات الله بالكنه. وقد دلنا على سعة تلك الصفة - أي سعة متعلقاتها بأن وصف نفسه العلية بوصفين مشتقين من مادتها جامعًا بينهما - قولُه تعالى:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة: 3]. (2) وقد تعلقت
(1) سقطت تاء التأنيث في الأصل.
(2)
قال المصنف عند تفسير هذه الآية: "وإجراء هذين الوصفين العليين على اسم الجلالة بعد وصفه بأنه رب العالمين لمناسبة ظاهرة للبليغ؛ لأنه بعد أن وصف بما هو مقتضى استحقاقه الحمد من كونه رب العالمين، أي: مدبر شؤونهم ومبلغهم إلى كمالهم في الوجودين الجثماني والروحاني، ناسب أن يُتبَع ذلك بوصفه بالرحمان أي الذي الرحمة له وصف ذاتي تصدر عنه آثاره بعموم واطراد على ما تقدم. فلما كان ربًّا للعالين وكان المربوبون ضعفاء، كان احتياجهم للرحمة واضحًا وكان ترقبهم إياها من الموصوف بها بالذات ناجحًا. فإن قلت: إن الربوبية تقتضي الرحمة؛ لأنها إبلاغُ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، وذلك يجمع النعم كلها، فلماذا احتيج إلى ذكر كونه رحمانًا؟ قلتُ: لأن الرحمة =
رحمته بهم تعلقين:
1 -
تعلقًا مودَعًا في أصل التكوين، إذ جعل خلقهم على نظام ملائم لتكوينهم وبقاء أنواعهم واقتدارهم على دفع المهلكات والغوائل على حسب مقدار ما يقتضيه كلُّ نوع لحفظه من أضداده المخالطة له غالبًا. وهذه رحمةٌ مُودَعةٌ في أصل تكوين عالمهم ومظاهره الطبيعية، وفيما أوجده حولهم من القوى الطبيعية والموجودات الحيوانية والنباتية والمعدنية، وفي تكوينهم وسط ذلك تكوينًا يمكنهم من الانتفاع بآثار هذه الرحمة بما ألهمهم وأودع فيهم من الإرادة عند دعاء ضروراتهم وحاجاتهم. وهذه الرحمة هي المسماة أيضًا باللطف المشار إليها بقوله تعالى:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19]، وبقوله تعالى:{مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} [النازعات: 33].
ومظهر هذا التعلُّق من الرحمة يبدو على الإنسان وعلى العجماوات بقانون وناموس متحد الماهية، وإن كانت ماهيتُه متفاوتةً في القوة بحسب تفاوت أصناف الحيوان في سعة الإلهام وتفاوت أفراد الصنف الواحد في أطوار نمائه الذاتي التابع للسن. وقد أفاض الله تلك القوى على مخلوقاته مقارِنةً لفيض وجودهم ونمائهم، ولم يبلغها إلى مخلوقاته تدريجًا في العصور. فإذا كان تدريج في آثاره، فذلك من اختلاف الحاجات إلى استعمال تلك القوى.
= تتضمن أن ذلك الإبلاغ إلى الكمال لم يكن على وجه الإعنات، بل كان برعاية ما يناسب كل نوع وفرد ويلائم طوقه واستعداده، فكانت الربوبية نعمة، والنعمة قد تحصل بضرب من الشدة والأذى، فأتبع ذلك بوصفه بالرحمن تنبيهًا على أن تلك النعم الجليلة وصلت إلينا بطريق الرفق واليسر ونفي الحرج، حتى في أحكام التكاليف والمناهي والزواجر فإنها مرفوقة باليسر بقدر ما لا يبطل المقصود منها. فمعظم تدبيره تعالى بنا هو رحمات ظاهرة، كالتمكين من الأرض وتيسير منافعها، . ومنه ما رحمته بمراعاة اليسر بقدر الإمكان، مثل التكاليف الراجعة إلى منافعنا، كالطهارة وبث مكارم الأخلاق. ومنها ما منفعته للجمهور، فتتبعها رحمات الجميع، لأن في رحمة الجمهور رحمة بالقية في انتظام الأحوال كالزكاة". ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، ج 1، ص 173.
2 -
وتعلقًا ثانيًا خارجًا عن حدود التعلق الأول، وهو رحمتُهم بحفظ نظامهم الاجتماعي من أن يدخل عليه ما يفضي إلى اختلاله واضطرابه، بحيث يتسرب الانخرام إلى النوع تسربًا خفيًّا لا يُستشعر معه وجوبُ مدافعته. وذلك في أعمالهم التي أوكل التصرفَ فيها وتصريفها إلى كسبهم وقدرتهم، ووضع لهم منبع تصريفها، وهي العقول وسلامة أسباب الأعمال وآلاتها العقلية والجسمانية.
ولم يترك الله تعالى رحمتَه بهم في إقامة تدبير شؤونهم على نظام معصوم من الفساد والاضطراب، فأراد أن يوجِّه إليهم الإرشادَ فيما لا تصل مداركُهم إلى إدراك معموله أصلًا (مثل دقائق المصالح والمفاسد بالنسبة إلى البشر وكثير من الأشياء بالنسبة إلى العجماوات)، أو لا تبلغ مدى ما يفضي إليه من صلاح يلوح في صور مكروهة أو فساد يلوح في صورة محبوبة (وهذا بالنسبة إلى البشر خاصة)، قال تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وما فيه كمال أحوالهم من مجتمعهم وتزكية نفوسهم تقريبًا لهم بالملأ الأعلى. وعظيمُ مظهر هذه الرحمة بادٍ في أحوال الإنسان، وما ينال العجماواتِ منه فإنما هو بواسطة الإنسان.
وكانت إفاضةُ هذه الرحمة على الناس إفاضةً متدرجة بحسب ما اقتضته حكمة الله تعالى من رعي أحوالهم وقابليتهم الصلاح، فساق إليهم الهدى على ألسنة الرسل تأصيلًا وتفريعًا في أطوار عديدة من تاريخ البشرية والحضارة إلى أن بلغت حكمةُ التدبير الإلَهِي بهم طورَ الكمال، هنالك أفاض عليهم الرحمة الكاملة قال تعالى:{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157].
فبنا أن نتعرف كيف وصلت هذه الرحمةُ الكاملة العامة بأنواعها ومظاهرها إلى الإنسان - سلطان هذا العالم (1) - وكيف أبلغها الله إليهم ودلَّهم على أنه ساقها
(1) جرت عادة المصنف في وصف الإنسان على استخدام عبارات مثل "المهيمن على العالَم"، و"سلطان العالَم"، وذلك للإشارة إلى المقام العالي والمكانة الخاصة اللذين يتميز بهما الإنسان من بين سائر =
إليهم من عوالمه اللدنية. لنتبين غرضنا من مقالنا نجد أعظم ما يبين لنا ذلك قولَه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، فنرى أن ما سبق من الشرائع رسالةَ محمد صلى الله عليه وسلم كان هديًا ونورًا، وذلك فيه رحمة. إلا أن الله ادخر وصفَ محمد صلى الله عليه وسلم بالرحمة وبعمومها العالمين لمغزى دقيق، حيث لم تبلغ الرحمةُ من قبله الغايةَ التي أراد الله تأخيرها. فنعلم أن المراد أن رسالته امتازت بكمال الرحمة وأنه منح صفة الرحيم فبلغ كمالَ الرحمة البشرية، وذلك الكمال بوفرة الرحمة إلى الحد الأقصى المناسب الدال عليه التنكير في رحمة، وهو تنكير التعظيم بقرينة تخصيصه بالرسالة المحمدية أو لعمومها العالمين، كما دل عليه تعريفُ الاستغراق في العالمين فيستغرق كلَّ العالمين على اختلاف الاحتمال في معنى العالمين في هذه الآية كما سيأتي.
والاستثناء في قوله: "إلا رحمة" من عموم أحوال محمد صلى الله عليه وسلم، فرحمة حال من ضمير المخاطب فهو وصفٌ له. وكون الوصف بصيغة الصدر يفيد من المبالغة في كون الرحمة حالة متمكنة من خلقه ما يفيده حملُ الاسم على اسم آخر من معنى الاتحاد بين مدلولَيْ ذينك الاسمين، والمقصود أن إرساله مقارنٌ لشدة الرحمة وعمومها. ويدل لهذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما أنا رحمة مهداة"؛ (1) أي مهداة من
= المخلوقات بوصفه المخلوق الذي كرمه الله تعالى بأن سخر له الأرض وحمله أمانة التكليف والخلافة فيها.
(1)
رواه أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي في كتاب "ذخيرة الحفاظ"، وقال رواه مالك بن سعير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ولم يذكر له علامة الضعف. - المصنف. المقدسي، محمد بن طاهر: ذخيرة الحفاظ المخرج على الحروف والألفاظ، تحقيق عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائى (الرياض: دار السلف، 1416/ 1996)، الحديث 2066، ج 2، ص 992. ورواه الحاكم بلفظ:"يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة"، ثم قال:"هذا حديث صحيح على شرطهما، فقد احتجا جميعًا بمالك بن سعير، والتفرد من الثقة مقبول". الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله محمد بن عبد الله: المستدرك على الصحيحين، طبعة متضمنة لانتقادات الذهبي وبعناية أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي (القاهرة: دار الحرمين للطباعة والنشر، ط 1، 1417/ 1997)، "كتاب الإيمان"، الحديث 100، ج 1، ص 82 - 83.
الله تعالى إلى الخلق. وهذا الإهداء هو سر معنى الإرسال في قوله تعالى: {أَرْسَلْنَاكَ} ، فافهم دقة سره. ومن مكمِّلات كون شريعته رحمة كاملة أن الله قدر أن تكون صفةُ المرسل بتلك الشريعة هي صفة الرحمة أيضًا.
وإذ قد كان أصلُ غرضنا الكلامَ على صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصف الرحمة، فلنتبين مظهر تلك الرحمة في مقامين: مقام تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة ومقام إحاطة الرحمة بتصاريف شريعة كلها.
1 -
فالمقام الأول عماده قوله تعالى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. وقال أبو بكر محمد بن طاهر: (1)"زين الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكان كونُه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق"؛ (2) أي أن محمدًا صلى الله عليه وسلم فُطِر على خلق الرحمة في سائر أحوال معاملته للأمة لتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليها من وحي الشريعة التي هي رحمة، حتى يكون تلقيه الشريعةَ عن انشراح وطمأنينة قلب؛ لأنه يجد ما يلقى إليه ملائمًا رغبتَه وخلقه.
ولذلك خص الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بوصف الرحيم، ولم يوصف به أحدٌ من أنبيائه ورسله، إذ قال تعالى:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، وقال:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، أي: برحمة خلقك الله عليها لنت لهم، فمظهر رحمته الذاتية في معاملاته الناس في سائر أحوال المعاملة. فقد قالت عائشة رضي الله عنها:"ما انتقم رسول الله لنفسه"، وقالت: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا
(1) هو أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر القيسي الأندلسي الإشبيلي، من علماء أواخر القرن الخامس، أخذ عن أبيه وعن أبي الغساني، وأجاز له أبو الوليد الباجي. وقوله هذا مرويٌّ في الشفاء لعياض. - المصنف.
(2)
اليحصبي: الشفاء، ص 14.
اختار أيسرَهُما ما لم يكن إثمًا". (1)
وشواهدُ ذلك في سائر تصرفاته صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أنه لمَّا شُج وجهُه الشريف يومَ أحد شقَّ ذلك على أصحابه فقالوا لو دعوت عليهم فقال:"إنِّي لم أُبعث لَعَّانًا، وإنما بُعثت رحمة"، (2) وما في الحديث الصحيح في غزوة ذات الرقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نائمًا في القائلة تحت شجرة وسيفه معلق بها، فانتبه فوجد أعرابيًّا مشركًا اسمه غورث بن الحارث قائمًا عند رأسه والسيف مصلت في يده، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ يمنعك مني؟ فقال: الله، فسقط السيفُ من يد الأعرابي، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للأعرابي:"من يمنعك مني؟ " فقال: كن خير آخذ، فتركه وعفا عنه. (3)
وقد ثبت بمتواتر الأخبار رحمةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمُه في وقائع جمة مروية في كتب الصحيح والسيرة برواية جمع من الصحابة، مثل عمر وعلي وعائشة وأنس بن مالك وزيد بن أرقم وجابر بن عبد الله وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عمرو بن العاص وأُنيس الغفاري وهند بن أبي هالة وجرير بن عبد الله البجلي وأبي سعيد
(1) رواه في الموطأ. - المصنف. هذان جزءان من حديث واحد في الموطأ برواية أبي مصعب الزهري وابن القاسم وسويد بن سعيد، ولفظه:"ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين بين أمرين إلا أخذ (وفي رواية: أحب) أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثْمًا كان أبعدَ الناس منه. وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تُنتهَكَ حُرمةُ الله عز وجل (وفي رواية: حرمةٌ هي لله) فينتقم لله بها". الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب حسن الخلق"، الحديث 1782، ج 4، ص 290. وانظره كذلك في: الجوهري، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد: مسند الموطأ، تحقيق لطفي بن محمد الصغير وطه بن علي بوسريح (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1997)، الحديث 167، ص 164 - 165. وقد خرجه البخاري بلفظ مختلف قليلًا، صحيح البخاري، "كتاب المناقب"، الحديث 3560، ص 597؛ "كتاب الحدود"، الحديث 6786، ص 1170.
(2)
رواه مسلم. - المصنف. صحيح مسلم، "كتاب البر والصلة والآداب"، الحديث 2599، ص 1004.
(3)
انظر تفاصيل هذه القصة في الحاكم النيسابوري: المستدرك، "كتاب المغازي والسرايا"، الحديث 4381، ج 3، ص 34. قال الحاكم:"هذا حديثٌ حسن على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
الخدري وزيد بن سعنة. (1) وأعظم مظهر لرحمته صلى الله عليه وسلم قوله: "لكل نبي دعوة مستجابة، وقد اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة". (2) ولذلك خصه الله بالشفاعة في الخلق في عرصات القيامة تلك الشفاعة التي لم يقدم عليها من سئلها من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، كما ورد في حديث الشفاعة الصحيح. (3)
[2 - المقام الثاني: ] والآن وقد أتينا بلمحة دالة على مظهر الرحمة بما هي خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نبين إلى جانب ذلك مظهرَ الرحمة في المقام الثاني. وهو مقام التشريع الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أي ما فيه من مقوماتِ الرحمة العامة، فنعود إلى قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
فنجد قوله: "للعالمين" متعلِّقًا بقوله: "رحمة" لا محالة، وأن كلمة العالمين جمع يشمل كلَّ ما يصدق عليه اسم العالم بسبب ما دلت عليه لامُ التعريف من الاستغراق، أي عموم جميع الأنواع التي يصدق عليها اسم العالم، وأن إبراز ذلك الاسم المعرَّف باللام في صيغة الجمع قرينةٌ على أن التعريف باللام تعريفُ استغراق، وأن المراد هو العالَم بمعنى النوع من أنواع المخلوقات أو من أنواع
(1) كان زيد بن سعنة - ويقال سعية - أحد أحبار اليهود، ومن أكثرهم مالًا. أسلم وحسن إسلامه، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة. توفي في غزوة تبوك مقبلًا إلى المدينة.
(2)
بقريب من هذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة". مسند الإمام أحمد بن حنبل، الحديث 7700، ج 3، ص 127. وله عدة روايات مختلفة الألفاظ عند غيره. انظر مثلًا: صحيح البخاري، "كتاب الدعوات"، الحديث 6304، ص 1096؛ صحيح مسلم، "كتاب الإيمان"، الحديث 199، ص 99.
(3)
وهو قوله عليه السلام: "أُعْطِيتُ خمسًا لم يعطهن أحدٌ قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مسجدًا وطهورًا، وأُحِلت لِيَ الغنائم، وأُعطيتُ الشفاعةَ، وكان النبيُّ يُبعثُ إلى قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة". "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". صحيح البخاري، "كتاب التيمم"، الحديث 335، ص 58؛ "كتاب المساجد"، الحديث 438، ص 76؛ صحيح مسلم، "كتاب المساجد ومواضع الصلاة"، الحديث 521، ص 194.
وأصناف ذوي العلم، بناءً على احتمالين في المراد من قوله تعالى "العالمين" ناشئين عن إطلاق اسم العالم مفردًا، مرةً على الكل المجموعي الذي يُعلم به الله تعالى، أي على جميع المخلوقات الدالة على وجود خالقها، ومرةً يُطلق على صنف من أصناف أولي العلم، أي المخلوقات أولِي العلم كالبشر والملائكة.
وبذلك كانت صيغةُ جمع العالمين محتمِلَةً لأَنْ يُرادَ بِها جميعُ أصناف أولي العلم، وأن يُرادَ بها جميعُ أصناف الموجودات. فعلى الاحتمال الأول، يختص لفظُ العالمين بالبشر المخاطَبين بالشريعة، فيكون الجمعُ فيه لتأكيد العموم. وعلى الاحتمال الثاني، لقصد أن يعم لفظُ العالمين سائرَ الموجودات، فيكون عمومًا على عموم.
فأما شُمولُه البشرَ فلأنهم المخاطَبُون بالشريعة، وأما شُموله العجماواتِ فلأن البشرَ مخاطَبون بالشريعة بالرحمة بهن، فكانت الشريعةُ رحمةً لهن. ويخرج ما عدا البشر والحيوان، إذ لا تُتصور فيه الرحمة، فيكون خروجُ بقية الأجناس تخصيصًا للعموم بدليل العقل.
وإذ قد تبين هذا، فمِمَّا لا شكَّ فيه أن الشرائعَ الإلهية التي قبل الإسلام مملوءةٌ رحمة، إلا أن الرحمة التي فيها غيرُ عامة، إما بسبب عدم تعلُّقِ بعضها بجميع أحوال المكلَّفين، مثل الحنيفية - شريعة إبراهيم عليه السلام فهي شريعةُ رحمة خاصة بحالة النفس وليس فيها تشريع للأحوال العامة، وشريعة عيسى عليه السلام قريبة من ذلك على شدة في بعض أحكامها.
وإما لأنها قد تشتمل في غير القليل من أحكامها على شدة اقتضتها حكمةُ الله تعالى في سياسة الأمم المشروعة لها، مثل شريعة التوراة فإنها شريعة واسعة تتعلق بأكثر أحوال الأفراد والجماعات، وهي رحمة، كما قال تعالى:{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)} [الأنعام: 154]؛ فإن كثيرًا من عقوبات أمتها جعلت في فرض أعمال شاقة على الأمة بتكليفها بفروض مستمرة، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، وقال:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ} [البقرة: 54]، وقال تعالى:{كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)} [الأعراف: 163]، وقال:{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26]، وقال:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة البقرة:"لو ذَبَحُوا أيَّ بقرة أرادوا لأجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم". (1)
لا جرم أن الله اختص الشريعةَ الإسلامية بوصف الرحمة العامة، وقد أشار إلى ذلك قولُه تعالى خطابًا لموسى عليه السلام:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 156، 157].
ففي قوله: "وسعت كل شيء"، إشارةٌ إلى أن الكلام على رحمة عامة، وفي قوله "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي" تصريحٌ بأنها من خصوصيات الأمة الإسلامية. وكذلك قوله:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157]، تكملةٌ لذلك.
(1) أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما. - المصنف. لم أجده بهذا اللفظ عند ابن منصور، فقد خرجه كما يأتي:"لو أن بني إسرائيل أخذوا أدنى بقرة فذبحوها، أجزأت عنهم، ولكنهم شددوا، ولولا أنهم قالوا: إنا إن شاء الله لمهتدون، ما وجدوها". الخراساني، سعيد بن منصور بن شعبة: كتاب السنن أو سنن سعيد بن منصور، تحقيق سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حُميِّد (الرياض: دار الصميعي، 1414/ 1993)، الحديث 193، ج 1، ص 565. وقد أخرج الطبري عدة رواياتٍ في المعنى نفسه، بعضُها مرفوع وبعضها موقوف، بما في ذلك رواية ابن عباس مع اختلاف يسير في اللفظ. الطبري: جامع البيان، ، ج 2، ص 98 - 100.
فالفرقُ بين شريعة الإسلام وبين غيرها من الشرائع أن الرحمة ملازمةٌ بها للناس في سائر أحوالهم، وأنها حاصلةٌ بها لسائر الخلق لا لأمة خاصة. وحكمةُ تمييز شريعة الإسلام بهذه الخصيصة أن حالةَ النفوس البشرية بعد ما مر عليها من الأطوار والعصور قد تهيأت لأن تُساس بالرحمة، وأن تدفع عنها المشقةُ، إلا بمقادير ضرورية لا تُقام المصلحةُ بدونها، وكلُّ ذلك رحمةٌ من الله تعالى بعباده في إقامتهم على مصالحهم.
فما في الشرائع الماضية من امتزاج الرحمة بالشدة، وما في شريعة الإسلام من تمحض الرحمة لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة. ولكن الله أسعد هذه الشريعةَ وصاحبَها وأمتها بمصادفتها للزمن الذي اقتضت حكمةُ الله في مراعاة تقويم البشر أن يكون التشريعُ لهم تشريعَ رحمةٍ إلى انقضاء العالم. وتلك مناسباتٌ مقدرة في الأزل، يظهر فيها ازدلاب (1) المقامات وتفاوت الكرامات.
من الأصول القطعية في الإسلام أن شريعةَ الإسلام أُقيمت على دعائم الرحمة والرفق واليسر، قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء: 29]، وقال:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)} [النور: 14]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة". (2)
(1) لم يتضح لي وجهُ الدلالة في استخدام هذا اللفظ. هذا وقد قال ابن منظور في فعل زلب ما لعله يساعد على فهم المراد من هذا اللفظ قال: "رأيتُ في أصل من أصول الصحاح، مقروءٍ على الشيخ أبي محمد بن بري رحمه الله: زَلِب الصبيُّ بأمه، يَزْلَب زلبًا: لزمها ولم يفارقها (عن الْجُرَشي). الليث: ازدلب في معنى استلب، قال: وهي لغة رديَّة". ابن منظور: لسان العرب، ج 1، ص 452.
(2)
جزء من حديث طويل عن أبي أمامة قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عثمان بن مظعون فوقف على الباب فقال: "ما لك يا كحيلة متبذلة؟ أليس عثمان شاهدًا؟ " قالت: بلى، وما اضطجع على فراش منذ كذا وكذا، ويصوم النهار فلا يفطر. فقال: "مريه أن يأتيني"، فلما جاء قالت له، فانطلق إليه فوجده في المسجد، فجلس إليه فأعرض عنه، فبكى، ثم قال: قد علمت أنه قد بلغك عني =
إن رحمة الشريعة تظهر في تبليغها وفي تنفيذها، فالأول قد جاء منجَّمًا، والثاني قد جاء مدرجًا. وإليك شاهدًا على الأول، قالت عائشة رضي الله عنها:"إنما نزل أولَ ما نزل من القرآن سورةٌ من المفصل فيها ذكرُ الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناسُ إلى الإسلام نزل الحلال والحرام. ولو نزل أولَ شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)} [القمر: 46]، وما نزلت سورةُ البقرة والنساء إلا وأنا عنده". (1) و [إليك] شاهدًا على الثاني: التدرج في تحريم الخمر، فأول ما بدئ بذمِّ ما فيها من إثم في آية {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ثم نزول آية:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، ثم آية تحريم الخمر. (2)
وقد اختصَّتْ شريعةُ الإسلام برحمةٍ كبرى في التشريع، وهي أن من أصولِها دعوةَ الأمة إلى النظر في أدلة العقيدة وعلل التشريع كل على حسب استعداده، وتدريب الأمة على ذلك. ولذلك لمَّا سأل سائلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة ضالة الغنم
= أمر! قال: "أنت الذي تصوم النهار وتقوم الليل، لا يقع جنبك على فراش؟ " قال عثمان: قد فعلت ذلك ألتمس الخير! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعينك حظ ولجسدك حظ [ولزوجك حظ]، فصُمْ وأَفْطِرْ، ونَمْ وقُمْ، وائتِ زوجك. فإني أنا أصوم وأفطر، وأنام وأصلي، وآتي النساء، فمن أخذ بسنتي فقد اهتدى، ومن تركها ضل، وإن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة فإذا كانت الفترة إلى الغفلة فهي الهلكة وإذا كانت الفترة إلى الفريضة فلا يضر صاحبها شيئًا، فخُذْ من العمل ما تطيق، فإني إنما بعثت بالحنيفية السمحة، فلا تثقل عليك عبادةُ ربك لا تدري ما طول عمرك؟ "". الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر: بغية الرائد في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تحقيق عبد الله محمد الدرويش (بيروت: دار الفكر، 1414/ 1994)، "كتاب الصلاة"، الحديث 3569، ج 2، ص 534. وللحديث رواياتٌ مختلفة اختلافًا يسيرًا، لعل أشهرها قوله عليه السلام: "إن أحبَّ الدين إلى الله الحنيفيةُ السمحة". المرجع نفسه، "كتاب الإيمان"، الحديث 205، ج 1، ص 225.
(1)
صحيح البخاري، "كتاب فضائل القرآن"، الحديث 4993، ص 895 - 896.
(2)
قال له: "هي لك أو لأخيك أو للذئب"، فسأله السائل عن ضالة الإبل، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤاله وقال له:"مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها وتشرب الماء، وترعى الشجر، حتى يأتيها ربُّها"، (1) فما كان غضبُه صلى الله عليه وسلم إلا لأن دليلَ عدم التقاطها قائمٌ وعلته بينة.
وكان من أصول الشريعة في تشريع الأحكام مشروعيةُ الاجتهاد لعلماء الشريعة بنصِّ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد". (2)
أما أحكام الشريعة الإسلامية فتنقسم باعتبار أنواع متعلقاتها إلى أحكام:
أ - تتعلق بذات الفرد من الأمة، وهي أحكام العبادات والحدود. وأعظم ما في هذا النوع من الرحمة التوبة قال تعالى:{فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)} [النساء: 16].
ب - وأحكام تتعلق بأحوال الأفراد بعضهم مع بعض من حيث إنهم أفراد، وتلك أحكامُ المعاملات بإباحة التجارات والترغيب فيها، وأنواع التعاقد، والجنايات بدفع القسوة عن المظلوم، وفي آداب المعاشرة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم من في السماء". (3) وهذا النوع من
(1) أخرجه بهذا اللفظ عبد الرزاق عن زيد بن خالد الجهني. الصنعاني: المصنف، "كتاب اللقطة"، الحديثان 18601 - 18602، ج 10، ص 129 - 130؛ سنن الترمذي، "كتاب الأحكام"، الحديث 1373، ص 353؛ قال الترمذي:"حديث زيد بن خالد حديثٌ حسن صحيح".
(2)
لم أجده بهذا اللفظ على كثرة تداوله على الألسنة، وإنما وجدت:"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". صحيح البخاري، "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة"، الحديث 7352، ص 1264؛ صحيح مسلم، "كتاب الأقضية"، الحديث 1716، ص 681؛ سنن الترمذي، "كتاب الأحكام"، الحديث 1326، ص 343.
(3)
وتمامه عن عبد الله بن عمرو: "الرَّحِمُ شِجْنةٌ من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله". سنن الترمذي، "كتاب البر والصلة"، الحديث 1924، ص 472. قال الترمذي:"هذا حديثٌ حسن صحيح".
الأحكام يندرج تحت قاعدة العدل والإحسان في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90].
جـ - وإلى أحكام تتعلق بالمجتمع الإسلامي بقطع النظر عن الأفراد، وهذه تحت قواعد الأخوة والمواساة وسياسة الأمة.
وهي في جميع هذه الأنواع مثالُ الرحمة، بحيث لا تسلك مسلكَ الشدة إلا لضرورةِ دفع الأضرار عن أن تتخلل جامعةَ الأمة من أفرادها أو من كيانها الاجتماعي. فمن أحوال التشريع قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، و [قاعدة]"إذا اجتمع ضرران ينفى الأكبر بالأصغر"، وذلك رحمة بالجمهور، قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]. ومن أصول التشريع قاعدة "المشقة تجلب التيسير".
د - وإلى أحكام تتعلق بالمجتمع البشري كله وتلك أحكام الدعوة إلى الإسلام والجهاد والعهد والصلح والجزية والعفو عن الأسرى أو الفداء. ومن أكبر أصولها أصل جلب المصالح ودرء المفاسد في ضروريات الأمة وحاجياتها وتحسيناتها.
هـ - وأحكام تتعلق بالمخلوقات المحتاجة إلى الرحمة من الحيوان، فالمؤذي منها يُزال وغير المؤذي يجوز الانتفاعُ بالمقدار المنتفع به منه، ولا يجوز ما دون ذلك. ولذلك كُرِه الصيدُ للهو، وحرم تعذيب الحيوان لغير أكله، وعُدَّ سباقُ الخيل رخصةً مستثناة من قاعدة تحريم التعذيب. وفي الحديث:"إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحِدَّ أحدُكم شفرتَه، ولْيُرِحْ ذبيحته". (1)
(1) القِتلة والذِّبْحة، بكسر أوله، هيئة القتل وهيئة الذَّبْح. - المصنف. صحيح مسلم، "كتاب الصيد"، الحديث 1955، ص 777 - 778؛ سنن الترمذي، "كتاب الديات"، الحديث 1409، ص 361. واللفظ للترمذي.
وجاء الوعيدُ على تعذيب الحيوان والمثلة به، ففي حديث ابن عمرو وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تُصْبَر بهيمةٌ أو طائر للرمي، (1) وزاد ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن مَنْ يفعل ذلك. (2) وفي حديث الموطأ أن الله غفر لامرأة مومسة؛ لأنها رأت كلبًا يلهث من العطش، فخلعت خُفَّها وأدلته إلى بئر، وسقت الكلب، فغفر الله لها. (3) وفي الحديث الصحيح:"دخلت امرأةٌ النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض". (4)
وتفاصيلُ الأحكام كثيرة، وشواهدُها غزيرة، وليس غرضُنا الآن تفصيلُها؛ لأنه مما يضيق عنه المقال، واللمحة تدل كلَّ ذي بال.
(1) صحيح البخاري، "كتاب الذبائِح والصيد"، الحديثان 5513 - 5514، ص 982.
(2)
المصدر نفسه، الحديث 5515.
(3)
لم أجده في الموطأ برواياته الثمانية. وربما رآه المصنف في شرح ابن العربي على الموطأ، حيث أورد بدون تخريج الحديث الآتي:"إن بغيًّا من بغايا بني إسرائيل مرت بكلب يأكل الثرى من شدة العطش، فنزعت مُوقَها فسقته من رَكِيَّة، فغفر الله لها". ابن العربي: المسالك، ج 6، ص 302؛ وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بينما كلبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بَغِيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوَقها، فاستقت له فسقته إياه، فغُفِر لَها به". صحيح البخاري، "كتاب الأنبياء"، الحديث 3467، ص 584؛ "كتاب بدء الخلق"، الحديث 3321، ص 551 (بلفظ مختلف عما أثبتناه)؛ صحيح مسلم، "كتاب السلام"، الحديث 155 (2245)، ص 885. ورى مالك في المعنى ذاته حديثًا عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ، إِذِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ وَخرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُل: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بفِيهِ حَتَّى رَقِىَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ الله لَهُ فَغَفرَ لَه". فَقَالوا: يَا رَسُولَ الله وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لأَجْرًا؟ فَقَال: "فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ". الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم"، الحديث 1854، ج 4، ص 354.
(4)
بقريب من هذا اللفظ أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال، قال رسول الله:"دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت هَزْلا". صحيح مسلم، "كتاب التوبة"، الحديث 2619، ص 1057. وقد رواه البخاري وغيره بألفاظ متقاربة في أبواب مختلفة.