الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
ومنها أن أجنة الأوقاف تقع فيها عقود المساقاة. ومنها عقود الإنزال في الأوقاف لا سيما الرباع، على حسب فتوى ناصر الدين اللقاني والغرقاوي ومَنْ جاء بعدهما، وهو أن تُكرى كراء مؤبدًا بقدر معين لا يتغير، فيصير المستنزل متصرفًا تصرفَ المالك في ملكه.
فهذه عدةُ وسائل لاستثمار عقار الوقف وريعه للمستحق ولغيره. ثم إن تسويغَ هناشير (1) الأوقاف وأطيانها لِمَنْ يزرعها أمرٌ جارٍ في سائر الأقطار، فينتفع المتسوِّغون بفلاحتهم فيها، وينتفع مستحقُّو الأوقاف بأثمان التسويغ.
هل من حق ولاة الأمور منع الناس من الوقف
؟
كل أمة متدينة بالإسلام لا ترضى بإجراء أحوالها على غير أحكام الشريعة الإسلامية، لما في تلك الشريعة من السعة والسماحة، وكل حكومة جعلت الإسلام دينًا رسميًّا للمملكة، فالواجبُ عليها مراعاةُ أحكام الإسلام في تشريعاتها، إذ على ذلك الشرط انعقدت ضمائرُ الأمة التي انتخبتها للحكم.
وإذ قد كان الوقف بنوعيه جائزًا في الشريعة الإسلامية، وكان من عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه، وأجمع عليه علماء الأمة، فليس للملوك ولا للحكام المتشرعين أن يمنعوا الناسَ منه. وليس ذلك من التصرف بالسياسة الشرعية؛ إذ السياسةُ الشرعية هي التصرفُ في عموم مصالح الأمة مما زاد على القضاء، كما أشار له القرافي في السؤال الرابع من كتاب الأحكام، وفي طالعة الفرق الثالث والعشرين والمائتين، ومثله بتدبير أمور المسلمين وحاجاتهم. (2)
(1) هناشير: جمع مفرده هِنشير، وهي كلمة أمازيغية تعني الإناء الملوء أو الكنز، ويطلقها أهل إفريقية (تونس) على السماحات أو السهول الشاسعة الممتدة المستصلحة والمغروسة أو المزروعة، وهي تقترب في معناها من كلمة "الغوطة" الشائع استعمالها في بلاد الشام.
(2)
القرافي: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، تحقيق أحمد فريد المزيدي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1425/ 2004)، ص 13 - 15؛ كتاب الفروق، ج 4، ص 1165.
وقد أشار هنالك إلى أن المباحات ليس لولِيِّ الأمر تحجيرُها إلا إذا حفت بها مفسدة، وقد علمتَ مما قدمناه أن الحبسَ لا مفسدةَ فيه، فليس تحجيرُه بحقٍّ لولِيِّ الأمر. على أنه لا يكفي في إثبات كون شيء مفسدةً أن يعتقد ذلك رجلٌ أو رجال، أو يشيروا به على ولي الأمر، فقد قال سهل بن حُنيف رضي الله عنه، وهو من أهل بيعة الرضوان:"اتهموا الرأي". (1) فإذن لا بد لولاة الأمور في مثل هذه الحوادث من جمع علماء الشريعة وعرفاء الأمة لينظروا في تحقق صفة الفعل وتطبيق القواعد الشرعية عليه، كما هي قاعدة الشورى. فإذا تبين لهم أن في الفعل مفسدةً عارضة له، فالواجب النظرُ في إزالة العارض. وإن وجدوا العارض ملازمًا للفعل الأصلي، تعين عليهم النظرُ في كثرة الملازمة وندرتها على قاعدة أصل سد الذريعة الذي تقدم آنفًا.
فإن قال قائل: هل لولاة الأمور أن يحيلوا الأمة على الجري على قول ضعيف لبعض العلماء مثل شريح بعدم جواز الحبس؟ قلنا: إن كان القول الضعيف له دليل وجيه، إلا أن دليل غيره أرجح منه، فالواجب استشارة علماء الأمة حتى يشهدوا بأن في الحمل عليه مصلحة معتبرة؛ لأنه يجب على ولي الأمر إن كان من رجال العلم بالفقه والشريعة أن يستشير غيره، لاحتمال أن يخطئ في نظره، وليس الخطأ في مصالح الأمة بالأمر الهين، وإن لم يكن عالِمًا فوجوب الاستشارة عليه أشد، وعدوله عنها تعريض بمصالح الأمة للإضاعة، وذلك ينافي ولاية أمور المسلمين.
فقد اتفق علماءُ الإسلام على أن ولاةَ الأمور لا يجوز لهم التصرفُ في شؤون الأمة بمجرد الشهوة والهوى، بلِ الواجبُ عليهم توخِّي المصلحةَ الراجحة والمساوية. وهذا الحملُ من قبيل ما يُسمَّى عند المالكية بالعمل، إذا أذن به السلطان
(1) أخرج البخاري عن أبي وائل قال: "لمَّا قدم سهل بن حُنيف من صفين أتيناه نستخبره، فقال: اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبِي جندل [أي يوم الحديبية] ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسد منها خصمًا إلا انفجر علينا خصمٌ ما ندري كيف نأتي له". صحيح البخاري، "كتاب المغازي"، الحديث 4189، ص 711. وذكر ابن قتيبة أن قائل هذا الكلام عثمان بن حنيف لا سهل. الدينوري: الإمامة والسياسة، ج 1، ص 99.
أو حكم به ثلاثةُ قضاة من قضاة العدل، ومنه عند الحنفية ما يُسمى بالمعروضات وهي معروضاتُ أبي السعود. (1) وإن كان القولُ الضعيف واهيَ الدليل مختلَّ المدرك، وذلك إذا صار بحيث لو حكم به الحاكم لنقض حكمه، فهذا ليس لولاة الأمور حملُ الناس عليه؛ لأن إلزام ولاة الأمور الناسَ بالجري عليه ضربٌ من الحكم. وقد تقرر أن حكم الحاكم بالقول الواهي المدرك ينقض، ولا يرفع الخلاف.
وأقوال العلماء بالنسبة للمقلدين هي بمنزلة الأدلة الشرعية بالنسبة للمجتهدين، فكما لا يجوز للمجتهد العملُ بالحديث الضعيف، كذلك لا يجوز للمقلد الأخذُ بالقول المرغوب عنه؛ ولأن ضعف الدليل يبعد القول عن الاعتبار شرعًا، وإذا لم يكن معتبرًا شرعًا لم يكن مظنة جلب مصلحة للأمة؛ لأن مصالح الأمة إنما تجلبها الأدلة المعتبرة الشرعية. فالدليل الملغى شرعًا ليس مظنة جلب المصلحة؛ لأن المصلحة تابعةٌ للاعتبارات الشرعية.
ثم إن تصرفات ولاة الأمور قد تكون بطريق القضاء، وقد تكون بطريق الفتيا، وقد تكون بطريق الإمامة، وهي أعم، كما قال القرافي في السؤال الخامس والعشرين من كتاب الأحكام، وفي الفرق السادس والثلاثين. (2) وعليه فهم في كل باب يجب عليهم الجريُ على ما يشترط في التصرف فيه من وجوب جريانها على الشرع.
(1) هو محمد بن محمد الإمام العلامة، المحقق المدقق الفهامة، العلم الراسخ، والطود الشامخ، المولى أبو السعود العمادي الحنفي مفتي التخت السلطاني وهو أعظم موالي الروم، وأفضلهم لم يكن له نظير في زمانه في العلم، والرئاسة، والديانة، ولد سنة 896 هـ بقرية قرب القسطنطينية، وقرأ على والده، وتنقل في المدارس واكتسب علمًا كثيرًا. تولى قضاء بورسه، ثم نقل إلى قضاء القسطنطينية ثم قضاء العسكر في ولاية الروميلي، ثم تولى منصب الإفتاء في السلطنة. توفي سنة 982 هـ عن أربعة وثمانين عامًا، ودفن بالقسطنطينية قرب مقام أبي أيوب الأنصاري. من مصنفاته:"إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم" في تفسير القرآن، "بضاعة القاضي" في الصكوك، "ثواقب الأنظار في أوائل منار الأنوار" في أصول الفقه، "حسم الخلاف في المسح على الخفاف"، "غلطات العوام غمرات المليح في أول مباحث قصد العام من التلويح"، "الفتاوى"، "قانون المعاملات"، "معاقد الطراز"، "موقف العقول في وقف المنقول"، "نهاية الأمجاد على كتاب الجهاد على الهداية للمرغيناني".
(2)
القرافي: الإحكام، ص 29 - 35؛ كتاب الفروق، ج 1، ص 346 - 350.