الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمّ إنّ لقراءة القرآن آدابًا مرجعُها إلى إجلال كلام الله وتوقيره، والتأدب عند سماعه. ولذلك فلنتكلَّمْ على ما يعرض لهذا السماع من العوارض التي هي مثارُ جدال بين المانع والمجيز، ممن اختلفوا في هذه المسائل، والخلف بين الناس غير عزيز. وينحصر الغرضُ في مبحثين: المبحث الأول
في حكم تصدي القارئ للقرآن بمركز الإذاعة
، والمبحث الثاني في حكم سماع السامعين قراءة القرآن من آلة الإذاعة.
في حكم تصدي القارئ للقرآن بمركز الإذاعة:
فأمَّا المبحث الأول فإنه يجوز للقارئ أن يتصدّى للقراءة في مركز الإذاعة لقصد سماع قراءته في جميع الجهات التي يكون لها اتصالٌ مع مركزه، سواء أكان تصدّيه بأجر أم بدونه؛ لأنّ الصحيحَ عندنا جوازُ أخذِ الأجرة على قراءة القرآن، فإنّها من أسباب تكثير قرائه وسامعيه. (1) ولا حاجةَ إلى التعرّض إلى شروط القراءة في القارئ ومكانه؛ لأنّ ذلك لا يختص بالموضوع المبحوث فيه.
(1) أخذ الأجرة على قراءة القرآن وأصل هذا القول ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله". وهذا طرف من حديث أورده البخاري موصولًا في كتاب الطب ودون ذلك في كتاب الإجارة. صحيح البخاري، "كتاب الإجارة - باب ما يُعطي في الرقية على أحياء العرب"، ص 363 (بلفظ: وقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم إلخ)؛ "كتاب الطب"، الحديث 5737، ص 1013. قال ابن حجر:"واستدل به الجمهور في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وخالف الحنفية فمنعوه في التعليم وأجازوه في الرقى كالدواء؛ قالوا: لأن تعليم القرآن عبادة والأجر فيه على الله وهو القياس في الرقي، إلا أنهم أجازوه فيها لهذا الخبر. وحمل بعضُهم الأجر في هذا الحديث على الثواب، وسياق القصة التي في الحديث يأبى هذا التأويل". العسقلاني: فتح الباري، ج 1، ص 1197 (كتاب الإجارة). وسياق القصة في الحديث هو ما رواه ابن أبي مُلَيكة، عن ابن عباس:"أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء، فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجلٌ من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق، إن في الماء رجلًا لديغًا أو سليمًا، فانطلق رجلٌ منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله"".
وإذا تبيّن أنّ تصدِّيه للإذاعة بالقراءة مباح، فلا ينقض حكمَ الإباحة ما عسى أن يبلغ مدى صوت القارئ إلى سامعٍ يكون على حالةٍ تجعله غير كامل الأهلية لسماع القرآن، أو إلى مكانٍ غير لائق، بل يكفي في جواز فعلِه كونُ الغالب على قراءته أن ينتفع بها المسلمون على اختلاف مقاصدهم وقابليتهم ومبالغ نياتهم. فمراعاة الآداب في ذلك واجبةٌ على السامعين، وليس القارئ بمسؤول عنها. وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه المشركون، (1) وقرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في مقام إبراهيم بمسمَع من المشركين. (2) وقرأ أبو بكر رضي الله عنه بمسجده الذي اتخذه بباب داره في مكة، فكانت نساءُ المشركين وصبيانُهم وعبيدهم يقفون عند مسجده يُعجَبون من رقة صوته.
وإذ قد تبيّن أنّ الغالبَ في التصدِّي للقراءة بمركز الإذاعة هو حصولُ النفع بها الذي يغتبط به جمهورُ المسلمين، وكان من النادر إفضاءُ ذلك إلى ظهور صوت القارئ في مواضع قد توجد فيها حالةٌ تقتضي حكمَ مخالفة الأَوْلَى (3) أو الكراهة أو الحرمة ولو عن غفلة من بعض السامعين، وبعض تلك الأحوال أندر من بعض،
(1) ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 1، ص 250. وأخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود قال:"قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم فسجد، فما بقي أحدٌ إلا سجد، إلا رجلٌ رأيته أخذ كفًّا من حصى فرفعه فسجد عليه وقال: هذا يكفيني، فلقد رأيته بعد قتل كافرًا". صحيح البخاري، "كتاب مناقب الأنصار"، الحديث 3853، ص 646. وذكر ابن سعد عن عبد الله بن حَنْطَب أن هذا الرجل هو الوليد بن المغيرة، وأنه "كان شيخًا كبيرًا لا يقدر على السجود"، وقيل إنه أبو أُحيحة سعيد بن العاص، وقيل إنهما "كلاهما جميعًا". الزهري: كتاب الطبقات الكبير، ج 1، ح 174 - 175.
(2)
ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 1، ص 250.
(3)
مخالفة أو خلاف الأولى - كما بين البناني عند تعليقه على قول التاج السبكي وشارحه المحلي بشأن الكراهة - هو حكمٌ قسيم للمكروه عند متقدمي الفقهاء الذين يجعلون المكروه قسمين: الأول: المكروه كراهة شديدة، وهو ما وقع النهي عنه بخصوصه كالنهي عن الصلاة في أعطان الإبل. والثاني: المكروه كراهة خفيفة، وهو ما ولم يُنه عنه بخصوصه كترك المندوبات مثل صلاة الضحى، وذلك لقاعدة الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده. إلا أن المتأخرين من الفقهاء سموا هذا النوع خلاف الأولى، بمعنى أن الأفضل والأولى فعل المندوبات التي حرض الشارع عليها وأن تركها يكون خلاف ما طُلِب ندبا. انظر: حاشية العلامة البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع، ج 1، ص 134 - 136.
كان ذلك الإفضاءُ من قبيل الذريعة الملغاة في الشريعة لندرة ترتُّب المنهيِّ عنه عليها إذا نسبناه لما يترتب عليها من المنافع؛ إذ قد قرَّر أئمة أصول الفقه والفقه أن ليس كلُّ ذريعة يجب سدُّها. (1) فإنَّ الشريعة الغَت ذريعة غراسة العنب مع أنها ذريعة لعَصْر الخمر، وألغت ذريعةَ التجاور في البيوت مع أنها تكون ذريعة للزنا، وألغت ذريعةَ حفر الآبار مع أنها يتردّى فيها الناسُ والحيوان. فإنّ حكمَ الذريعة إلى الفساد إن لم تكن فيها مصلحة، غيرُ حكم الذريعة المشتملة على مصلحة وهي تفضي إلى مفسدة.
ويتدرّج النظرُ حينئذٍ في مراتب المصالح والمفاسد، وحينئذٍ يقتصر حكمُ التحريم أو الكراهة على الصورة الواقع فيها بسبب الكراهة أو التحريم عند وقوعها ويخاطَب بالمؤاخذة عليها. فتعين أن يكون القارئُ غيرَ ممنوع من القراءة لأجل خلوِّ بعض السامعين لصوته عن آداب سماع القراءة، وتأخذ أحوال السامعين أحكامها المناسبة لها كما سيأتي. وقد قال الحسن البصري:"لو تركنا الطاعةَ لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا"، قال ابن عرفة:"أي لأسرع في ديننا النقصُ والاختلال". (2)
وأمّا ما عسى أن يقع من تقطيع بعض كلمات القرآن أو الفصل بين آياته باضطراب الجو أو بغلبة بعض الأصوات التي تدخل في أمواج الجو فتغلب على صوت القارئ، فلا مؤاخذةَ فيه على القارئ؛ إذ ليس ذلك من فعله. (3)
(1) راجع تفصيل القول في هذا في: القرافي: كتاب الفروق، ج 2، ص 450 - 453؛ شرح تنقيح الفصول، ص 437 - 438.
(2)
ذكر الزمخشري خلال تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} [الأنعام: 108] أن الحسن [البصري] ومحمد [بن سيرين] حضرا جنازة، فرأى محمد نساءً فرجع، فقال الحسن:"لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا". الكشاف، ج 2، ص 53. أما تعليق ابن عرفة على كلام الحسن فلم أعثر عليه حتى في تفسيره.
(3)
طبعًا كان مثل هذا التقطع يحصل إذ كانت صناعة الإرسال (من أجهزة بث، وذبذبات، وموجات صوتية، وأجهزة استقبال، إلخ) لم تبلغ من الدقة والإتقان ما وصلت إليه اليوم.