الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد رأيتُ في كلام بعض السلف رحمهم الله ما يوهم تطرقَ مثل هذا الخاطر، كما رُوي عن النعمان بن بشير أنه قال:"ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيتُ نبيَّكم وما يجد من الدَّقَل ما يملأ بطنه". (1)
وعن عبد الرحمن بن عوف أنه أُتِيَ يومًا بصفحة فيها خبزٌ ولحم، فلما وُضعت بين يديه بكى، فقال له بعض أصحابه: ما يبكيك؟ فقال: توُفّي رسول الله ولم يشبع هو وأهلُ بيته من خبز الشعير، فلا أُرانا أُخِّرنا لما هو خير لنا". (2)
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلا بكيت، فقيل لها: لم ذلك؟ قالت: أذكر الحال التي فارق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا، والله ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم"، (3) ونحو هذا من الآثار.
فرأيت أن هذا الموضوع مما يتعين تحقيقه في السيرة النبوية، ليكون أهل العلم على بصيرة في هذا الباب، وليزداد المؤمن إيمانًا ولا يرتاب.
الطعام مادة جسدية ولذة حيوانية:
اعلم أن للناس في تناول الطعام ثلاثة أحوال: حالة النهم، وحالة الاعتدل، وحالة الإقلال. وتناول الطعام ليس من المحامد في ذاته، وإنما هو شيء أودعه الله في جبلة الحيوان ليحصل به خلف ما يضيع من القوى بسبب حركة الدماغ وحركة الأعضاء. وقد جعل الله في تناوله التذاذًا؛ لأن فيه زوال ألم الجوع، لطفًا منه تعالى بخلقه حيث أوجد فيهم دواعي ذاتية لتحصيل ما فيه بقاء الهياكل وبقاء النوع،
(1) الدقل، بفتح الدال وفتح القاف، نوع رديء من التمر. - المصنف. سنن الترمذي، "كتاب الزهد"، الحديث 2372، ص 565.
(2)
البرهان فوري: كنز العمال، "كتاب الشمائل - باب شمائل الأخلاق"، الحديث 18632، ج 7، ص 201. وفيه "هلك" بدل "توفي"، وذكر أنه أخرجه ابن جرير.
(3)
سنن الترمذي، "كتاب الزهد"، الحديث 2356، ص 562.
وحكمة منه تعالى حتى لا يحتاج الحيوان إلى أمر ونهي يحملانه على تبادل (1) ما فيه بقاؤه. فمن عرف حكمة الله في ذلك، علم أن الأكل لإقامة قوام الحياة وبقاء الهيكل والنوع، ومن لم يعرف ذلك سعى إليه لما فيه من اللذة أو الخلاص من الألم غير عالم بما في ذلك من المصلحة والحكمة، فحصلت الحكمة على غفلة منه، فهو يسعى لخير عظيم ولا يدري، ولذلك قال الحكيم لبعض الأغمار: أنت تعيش لتأكل، وأنا آكل لأعيش. قال عياض في الشفاء:"لم تزل العرب والحكماء تتمادح بقلة الطعام وتذم كثرته؛ لأن كثرة الأكل دليل على النهم والحرص وغلبة الشهوة، جالب لأدواء الجسد وخثارة النفس، وقلته دليل على القناعة وملك النفس وقمع الشهوة، مسبب للصحة وصفاء الخاطر وحدة الذهن، وفي الحديث: "ما ملأ ابن آدم وعاءً قط شرًّا من بطنه، حَسْبُ ابن آدم آكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه". (2)
ثم إن بين الأمم في حال تناول الطعام تفاوتًا بحسب توزع اهتمام الهمم نحو تناول الملاهي واللذات الدنيوية، وما للنفوس من إجمام وإقلاع كما يقول المثل:"كل امرئ يأكل زاده". والعرب كانوا أقلَّ الناس عنايةً بالطعام؛ لأن همتهم كانت منصرفةً إلى الفروسية والنساء والشراب والميسر. وربما كانوا يعدون الأكل من اللذات التي تنبو عنها المروءة، فكانوا يتركون مآكل كثيرة. وربما يروا بأكل ما يسيل من الفم، كما عيروا قريشًا بأكل السخينة، (3) حتى بلغ الأمر ببعض أهل المروءة منهم أنه تغدى على حافة غدير ماء فحانت منه التفاتةٌ إلى الغدير فرأى هيئة الآكل في الغدير، فاشمأز من ذلك المرأى وترك الأكل حتى مات جوعًا. وقد قالت
(1) كذا في الأصل، ولعل الأولى أن يقال: تناول.
(2)
عن مقدام بن معدي كرب، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه. فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه". سنن الترمذي، "كتاب الزهد"، الحديث 2380، ص 566.
(3)
طعام رقيق يتخذ من دقيق. - المصنف.