الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشمائل المحمدية
(1)
مقدمة:
لا أحسب مسلمًا يخير في أي الأماني أحبُّ إليه أن يحصل بعد تعدادها، ثم لا يكون مختارًا منها أن يرى ذاتَ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا كان رسولُ الله قد تمنَّى أن يرى مَنْ يجيء بعده من المسلمين لمحبته أمتَه كما في الموطأ عن أبي هريرة أن رسول الله قال:"وَدِدْتُ أَنّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإخْوَانِي الّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ وَأَنَا فَرَطُهُمْ علَى الْحَوْضِ". (2)
فكيف لا تكون شدةُ حب الأمة نبيها مبعثَ تمنيهم أن يروه؟
فلئن فاتَهم إمكانُ رؤيةِ ذاته الشريفة، فلهم في التعلق بصفاته سلوى، كما قال البوصيري:
فَتَنَزَّهَ فِي ذَاتِهِ وَمَعَانِيهِ
…
اسْتِمَاعًا أَنْ عَزَّ مِنْهَا اجْتِلَاءُ (3)
(1) المجلة الزيتونية، المجلد 1، العدد 9، ربيع الأنور 1356/ مايو 1937 (ص 452 - 456).
(2)
جزء من حديث عن أبي هريرة "أن رسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة، فقال: "السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين. وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون. وَدِدْتُ أنِّي قد رأيتُ إخوانَنا". فقالوا: أولسنا بإخوانِك يا رسولَ الله؟ فقال: "بل أنتم أصحابي، وإخوانُنا الذين لم يأتوا بعدُ، وأنا فَرَطُهم على الحوض". فقالوا: يا رسولَ الله! كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: "أرأيت لو كان لرجل خيلٌ غُرٌّ مُحَجَّلة في خيل دُهْمٍ بُهْمٍ، ألا يعرف خيلَه؟ " قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "فإنهم يأتون غُرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فَرَطُهم على الحوض، فلَا يُذَادَنَّ رجالٌ عن حوضي كما يُذاد البعير الضال. أناديهم: ألا هَلُمَّ! فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: فسحقًا فسُحْقًا فسُحْقًا"". الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب الطهارة"، الحديث 62، ج 1، ص 259 - 263؛ صحيح مسلم، "كتاب الطهارة"، الحديث 249، ص 113. واللفظ لمالك.
(3)
هذا البيت من قصيدة همزية للبوصيري في مدح النبي صلى الله عليه وسلم مطلعُها:
كَيْفَ تَرْقَى رُقِيَّكَ الأَنْبِيَاءُ
…
يَا سَماءٌ مَا طَاوَلَتْهَا سَمَاءُ =
ولأجل هذا، تنافس السلفُ الصالح - الذين لم يشاهدوا ذاتَ النبي صلى الله عليه وسلم أو لم تعلق تفاصيلُ صفاته المباركة بمخيلاتهم لصغر سنهم حين رأوه - دائبين على طلب تعرف صفاته عساهم أن يتلمَّحوا من تلك الصفات ملامحَ ذاته المباركة. فقد سأل الحسنُ والحسين رضي الله عنهما خالَهما هند بن أبي هالة (1) - وكان وصَّافًا - عن صفة رسول الله، وسأل الحسين أباه عليًّا رضي الله عنهما، ثم حدث بها أخاه الحسن. (2)
وقد استشعر مَنْ بقيَ من الصحابة أهميةَ جمع صفات رسول الله لِمَنْ يأتي من أمته، فظهر منهم حرصٌ على تحديث الناس بذلك، فكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا رأى أحدًا من الأعراب أو أحدًا لَمْ ير النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ألا أصف لك النبي؟ ثم يفيض في وصف شمائله. (3) وجاء رجلٌ من بني عامر إلى أبِي أمامة الباهلي فقال له: "يا أبا أمامة إنك رجلٌ عربِيٌّ إذا وصفتَ شيئًا شفيت منه، فصِفْ لِي رسولَ الله كأنِّي أراه"، فأفاض أبو أمامة في ذكر شمائله صلى الله عليه وسلم. (4) فصار مثل المسلمين في ذلك كمثل قول الشاعر [بشار]:
قَالُوا بِمَنْ لَا تَرَى تَهْذِي فَقُلْتُ لَهُمْ
…
الأُذْنُ كَالعَيْنِ تُؤْتِي القَلْبَ مَا كَانَا (5)
= حاشية الشيخ سليمان الجمل على القصيدة الهمزية للبوصيري ومعها تقريرات العلامة الصاوي (مصر: المطبعة الميمنية، 1306 هـ)، ص 41. وانظر القصيدة كذلك ضمن كتاب: قصة المولد (تونس: الدار التونسية للنشر، بدون تاريخ).
(1)
هو هند بن أبي هالة، أمه خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها، فهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخو فاطمة لأمها، فلذلك دعاه الحسن والحسين خالَهما. توُفِّيَ يوم الجمل سنة 36 هـ مع جند علي رضي الله عنه. المصنف.
(2)
انظر نص الروايتين في: اليحصبي: الشفا، ص 92 - 94؛ الترمذي: الشمائل، الحديث 7، ص 13 - 14؛ البيهقي: دلائل النبوة، ج 1، ص 286 - 292.
(3)
لم أتمكن من العثور على هذا الأثر فيما أمكنني مراجعته من مصادر السيرة والشمائل، ولعل قارئًا ناصحًا يفيدني في ذلك.
(4)
الزهري: كتاب الطبقات الكبير، ج 1، ص 357 - 358.
(5)
هذا ثاني ثلاثة أبيات لبشار، أولها قوله:
يَا قَوْمِ أُذْنِي لِبَعْضِ الْحَيِّ عَاشِقَةٌ
…
وَالأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانَا =
وإن محبة الذات تقتضي محبةَ ذكرِ صفاتها، كما أن محبةَ ذِكر الصفات تقتضي المحبةَ من صاحب الصفات، بما دل عليه حديثُ عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن رجلًا كان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ "قل هو الله أحد"، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"سلوه لأي شيء يصنع ذلك"، فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله يحبه". (1)
ولقد يسر الله للمؤمنين أن ألْهَمهم البحثَ عن شمائل رسول الله قبل انقراض عصر الصحابة، ليبقى منها أثرٌ قائمٌ لِمَنْ يأتِي من المسلمين في سائر العصور والأجيال، يرد على قلوبهم روحًا يهب على لهيب أشواقهم إلى ذات نبيهم. فانبرى المسلمون في آخر عصر الصحابة إلى تقييد هذه الصفات المباركة، كما ينبئ بذلك وجدانُنا معظمَ أحاديث شمائله صلى الله عليه وسلم مرويًّا عن المعمرين من الصحابة، مثل ما يُرْوَى عن أنس بن مالك وسهل بن سعد وأبي الطفيل عامر بن واثلة (2) آخر أصحاب
= ديوان بشار بن برد، تحقيق الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (القاهرة: دار السلام، 1429/ 2008)، ج 2/ 4 (قافية النون)، ص 228 - 229.
(1)
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا على سريَّة، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"سلوه لأي شيء يصنع ذلك". فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أخبروه أن الله يحبه". صحيح البخاري، "كتاب التوحيد"، الحديث 7375، ص 1269؛ صحيح مسلم، "صلاة المسافرين وقصرها"، الحديث 813، ص 292.
(2)
أبو الطفيل عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني، صحابي. وهو آخر من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وفاةً بالإجماع، قال:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الركن بمحجنه"، وذكر صفته. روى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، ومعاذ، وابن مسعود. وحدث عنه الزهري، وقتادة، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير، وجماعة من التابعين. كان من أنصار علي بن أبي طالب، شهد معه حروبه كلها، لكن نقم بعضُهم عليه كونه كان مع المختار بن عبيد، ويقال: إنه كان حامل رايته. وقد روى أنه دخل على معاوية فقال: ما أبقى لك الدهر من ثكلك عليًّا؟ فقال: ثكل العجوز المقلاة والشيخ الرقوب، فقال: كيف حبك له؟ قال: حب أم موسى لموسى، وإلَى الله أشكو التقصير. قيل إنه أدرك من حياة الرسول عليه السلام ثمان سنين. تُوُفِّيَ سنة 100 هـ.
رسول الله وفاة، أو عمن ثبتت لهم الصحبةُ بالمولد، الذين كان لهم بِخَاصَّةِ أصحاب رسول الله اتصال، مثل الحسن والحسين فيما روياه عن أبيهما كرم الله وجهه أو عن خالهما هند بن أبي هالة رضي الله عنهم.
وقد كان أصحاب رسول الله إذا رأوا رجلًا يشبه رسول الله اهتزت أنفسهم إليه شوقًا إلى شبيهه، فقد كان أبو بكر إذا رأى الحسنَ بن علي رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله يقول:"بأبي شبيه بالنبي، ليس شبيه بعلي". (1) وكان كابس (2) ابن ربيعة يشبه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أنس بن مالك إذا رآه بكى، وبلغ خبرُه إلى الخليفة معاوية رضي الله عنه (وهو من أعرف الناس بصفة رسول الله إذ كان صاحبَه وصهرَه وكاتبَ وحيه)، فأرسل معاوية في أن يوجَّه إليه كابس من البصرة إلى دمشق. فلما دخل عليه قبَّل معاوية بين عيني كابس، وأقطعه قطيعة. وكانوا يُحصون الصحابةَ الذين يشبهون رسول الله في كثير من شمائله، ويحصون مَنْ كان يشبهه من التابعين، فمثلهم كمثل قول الشيخ ابن الفارض:
وَأَبِيتُ سَهْرَانًا أُمَثِّلُ طَيْفَهُ
…
لِلْعَيْنِ كَيْ أَلْقَى خَيَالَ خَيَالِهِ (3)
ثم انقرض عصرُ الصحابة، فغفل الناسُ عن معرفة مَنْ يشبه الذين يشبهون رسول الله؛ لأن المشابهة في ملامح الذات لا يتوسَّمُها إلا الذي عرف الذاتَ فتحصل له عند رؤية مُشابِهِ الذات لمحةٌ من طَلْعة الذات المشبَّه بها، فهناك يتوسم الذات اللائحة حتى يعرف من أين جاء الشبه فيصفه، وسنذكر أسماء من أحصيناهم من هؤلاء السادة في آخر هذا المقال.
(1) صحيح البخاري، "كتاب المناقب"، الحديث 3542، ص 595 - 596؛ "كتاب فضائل الصحابة"، الحديث 3750، ص 631.
(2)
كابس - بكاف في أوله - بن ربيعة، من بني سامة بن لؤي، من أهل البصرة، تابعي. - المصنف
(3)
ديوان الشيخ عمر بن الفارض (مصر: المطبعة الميمنية لمصطفى البابي الحلبي وأخويه، 1332)، ص 89. والبيت من قصيدة من ثلاثة عشر بيتًا، وقد جاء مختلفًا قليلًا عما ذكره المصنف، ففيه: "للطرف" بدل "للعين".