الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زكاة الحبوب
(1)
لَمَّا صدرت مني الفتوى في زكاة الحبوب التي نشرتْها مجلةُ "الهداية الإسلامية" الغراء في الجزء 3 من المجلد 11، ورد عليَّ أربعةُ أسئلة من بعض أهل العلم يتطلب زيادةَ البيان، فأردتُ أن أبسطها هنا زيادةً في التبيين، ورجاء للتهمم بمقام "مَنْ يرد الله به خيرا يفقّهْه في الدين". (2)
أولها: في بيان حال ما شاع على ألسنة بعض طلبة العلم يتناقلونه أن النصاب الشرعي لزكاة الحبوب والثمار هو قفيزان بالقفيز التونسي الذي هو مائة واثنان وتسعون صاعًا بالصاع التونسي.
والجواب عن هذا أن النصاب هو ما بينته في الفتوى، فإني اعتبرت فيه التقدير الشرعي على المذهب المالكي المستند في تقديره إلى صاع المدينة المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سماه مالك رحمه الله في الموطأ المد الأصغر والمد الأول أيضًا، ويقابله المد الأكبر وهو المد الهشامي المنسوب إلى هشام بن إسماعيل المخزومي أمير المدينة في خلافة عبد الملك بن مروان، وهو يساوي مُدَّيْن من المد النبوي.
والنصابُ خمسة أوسق شرعية، وهي ستة أقفزة وربع قفيز بالقفيز الشرعي. وذلك المقدار قد صيرتُه إلى المكيال التونسي المستعمل الآن والمشتهر في كثير من العالم بقاعدة الرجوع إلى تصيير الصاع النبوي إلى ما يسعه من الماء، وتصيير ذلك المقدار من الماء إلى ميزان الأوقية والدرهم الشرعي.
(1) الهداية الإسلامية، المجلد 11، الجزء 6، ذو الحجة 1357/ يناير 1938 (ص 274 - 276).
(2)
صحيح البخاري، "كتاب العلم"، الحديثان 10 و 13، ص 16 - 17 (وكذلك الأحاديث 3116، 3641، 7312، 7460)؛ صحيح مسلم، "كتاب الزكاة"، الحديث 1037، ص 371؛ سنن الترمذي، "أبواب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، الحديث 2645، ص 624.
ولا التفاتَ إلى غير ذلك من التقادير التي عالجها كثيرٌ من الناس فلم يحصلوا على طائل، إذ انتشروا في طرق التقريب بأسماء المكاييل المختلفة باختلاف العصور والبلدان، مع أن أسماء المكاييل والموازين غيرُ منضبطة المسمَّيَات ولا متحدةٍ في بلدان المسلمين، فهنالك المدني والمكي والبغدادي والشامي والقرطبي والقيرواني والمصري والتركي وفروعها.
وحسبُك أن لنا في القطر التونسي في القديم عدةَ مكاييل وموازين تتحد أسماؤها وتختلف مسمياتُها باختلاف المدن واختلاف أصناف المكيلات والموزونات، فيوجد القفيز التونسي والقفيز الباجي لكيل الحبوب، ويوجد المطر التونسي والمطر السوسي لكيل الزيت، ويوجد الرطل العطاري والرطل الخضاري. فالمرجع إلى التقدير الشرعي، فهو الذي يتضح به الواجبُ في الزكاة.
ثانيها: طلب توجيه الفرق بين عدم اعتبار مصاريف الأرض في مثل الكراء والتسميد بالفسفاط وبالغبار حيث جعلناها غير موجبة لإخراج نصف العشر، وبين اعتبار الشريعة السقي بالآلات والدواليب والماء المشترَى موجبة لإخراج نصف العشر في زكاة الحبوب والثمار.
والجواب أن بيان الفرق في ذلك أن المنصوصَ في السنة الصحيحة والذي أخذ به أئمة فقهاء الأمصار أن لا ينقص المقدار الواجب في زكاة الحبوب والثمار عن العشر إلى نصف العشر إلا فيما يُسقَى بالدواليب والنواعير ونحوها مما فيه نفقة على جلب الماء للسقي، ولم يلتفتوا إلى مصاريف الخدمة والغبار مع أنها لا تخفى. وكذلك التسميد بالفسفاط وغيره، وكذلك الحرث والدرس بالآلات التي تستدعي نفقات.
وتوجيهُ ذلك فيما يظهر لي أن تسميد الأرض واستعمال الآلات الحديثة للحصد والدرس لا يتوقف عليه حصول الحب والثمار، بل إنما يزيد به المقدار المتحصل منهما أو يفيد الفلاح سرعة في استحصال نتائج فلاحته بحيث يستطيع
بيعها باكرًا والأمن عليها من العاهات ومن التلاشي وإعادة حرث أرضه باكرًا. وذلك كله يستفيد منه الزارع أو الغارس زيادة ثروة، مثل استفادة فرص التجارة، فيتعين الأداء على ذلك المتحصل، ولا وجه للنقص منه. فهو كالأداء على أرباح التجارة؛ لأنها أموالٌ مستفادة من بزيادة العمل.
بخلاف السقي بالماء المجلوب بالآلات أو بالثمن؛ فإن السقي يتوقف عليه وجود الزرع والثمر، إذ لا يوجدان بدون ماء، فالماء مع الأرض هما الركنان لتكوين الزرع، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} [الواقعة: 63، 64]، ثم قال:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)} [الواقعة: 68، 69]، وقال:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وقال:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29)} [عبس: 24 - 29].
فجعل الأصلَ صبَّ الماء وشق الأرض، وكان شأن الماء أن يجعل في الأرض بدون كلفة، فهو ينزل عليها مطرًا أو ينساق إليها سيحًا أو واديًا. فكان الإنفاق على جلب الماء للزرع أو الغرس يكلف صاحبه كلفًا غير معتادة في الغالب، وهو مضطر إلى ذلك الإنفاق لتحصيل الزرع إذ بدونه لا ينبت. فلذلك كان حريًّا بالحط عن جالبه من المقدار الواجب أداؤه في الزكاة.
وبهذا التقرير يظهر الفارقُ بين الماء المجلوب بالدواليب وبين التسميد بالفسفاط والخدمة بالآلات الجديدة، وهو فارقٌ مؤثّرٌ يمنع قياسَ هذه على ذلك، وإن تساويَا في أصل الكلفة والنفقة.
ثالثها: بيان إخراج القيمة عينًا عِوضًا عما وجب دفعُه في زكاة الحبوب والثمار، وذلك أن الأصل هو أن تُدفع الزكاةُ من عين ما وجبت فيه، لكن إذا أجبر المزكي على دفع القيمة - كما هو واقع في دفع العشر عندنا بتونس - فذلك مجزئ، نص عليه في المدونة. على أن ابن القاسم روى عنه صاحباه أبو زيد ابن أبي الغَمر
وعيسى بن دينار أنه يجزء إخراجُ الثمن نقدًا بدلًا عن الحبوب والأنعام دون العكس ولو بدون جبر، إلا أنه رآه مكروهًا، وفي هذه الرواية توسعة على الناس اليوم.
ويشهد لصحة هذه الرواية ما ثبت في الصحيح أنَّ معاذ بن جبل رضي الله عنه قال لأهل اليمن: "ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابِ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَة، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالمَدِينَةِ". (1) وكتب أبو بكر رضي الله عنه في فريضة الصدقة: "ومن بلغت عنده في الصدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون فإنه تقبل منه بنت لبون ويُعطى شاتين أو عشرين درهمًا". (2)
رابعها: أن مَنْ كان ثمره كله نوعًا واحدًا سواء كان من جيد التمر أو من رديئه هل يخرج الزكاة من عين ثمره أو يخرجها من وسط أنواع التمر؟ وهذه مسألة نبه عليها ابنُ الحاجب في المختصر بقوله: "وفي الثمار ثالثها المشهور إن كانت مختلفة فمن الوسط، وإن كانت واحدًا فمنه". (3) قال شراحه:
القول الأول: أنه يؤخذ من الوسط مطلقًا كالماشية، وهو قول عبد الملك بن الماجشون، ورواه ابن نافع، وهو ظاهر الموطأ (يعني فيما رواه مالك رحمه الله في زكاة ما يخرص من ثمار النخيل والأعناب عن زياد بن سعد عن ابن شهاب أنه قال: "لا
(1) صحيح البخاري، "كتاب الزكاة - باب العرض في الزكاة"، ص 234.
(2)
عن أنس بن مالك أن رضي الله عنه "أن أبا بكر رضي الله عنه: كتب له فريضة الصدقة، التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم: "من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقه، فإنها تُقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهمًا. ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة، فإنها تُقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدِّقُ عشرين درهمًا أو شاتين. ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا بنت لبون، فإنها تقبل من بنت لبون، ويعطي شاتين أو عشرين درهمًا، ومن بلغت صدقة بنت لبون، وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويعطيه المصدِّقُ عشرين درهمًا أو شاتين. ومن بلغت صدقته بنت لبون، وليست عنده، وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهمًا أو شاتين"". صحيح البخاري، "كتاب الزكاة"، الحديث 1453، ص 235.
(3)
ابن الحاجب: جامع الأمهات، ص 82.
يُؤخذ في صدقة النخل الْجُعرور، ولا مصرانُ الفارة، ولا عذقُ ابن حبيق، قال: وهو يُعد على صاحب المال، لا تؤخذ منه الصدقة". (1) وقد تكون في الأموال ثمار لا يؤخذ الصدقة منها، من ذلك البُردى وما أشبهه، لا يؤخذ من أدناه كما لا يؤخذ من خياره، وإنما تؤخذ من أوساط المال).
القول الثاني: يؤخذ من الموجود مطلقًا، وهو قول أشهب؛ لأن الأصل إخراجُ زكاة كلّ مال منه، واستثنى الشرعُ الماشيةَ فلا يؤخذ الرديء منها، فيبقى ما عداها على الأصل.
القول الثالث: إن كان التمر نوعًا واحدًا أُخذ منه جيدًا كان أو رديئًا، وإن كان أكثرَ من نوع أُخذ من الوسط. وهذا قولُ ابن القاسم، وروايتُه في المدونة. (2) وهو المشهور، وبه الفتوى. ولذلك قال خليل:"وأُخِذَ من الحب كيف كان، كالتمر نوعًا أو نوعين، وإلا فمن أوسطهما". (3)
إلا أن قولَ خليل "أو نوعين" سهو، ولذلك انتقده الحذاقُ من شراحه، والصواب: كالتمر نوعًا واحدًا، وإلا فمن أوسطها. (4)
(1) الموطأ برواياته الثمانية "كتاب الزكاة"، الحديث 662، ج 2، ص 274.
(2)
المدونة الكبرى، "كتاب الزكاة الثاني"، ج 1، ص 455.
(3)
الآبي الأزهري، الشيخ صالح عبد السميع: جواهر الإكليل شرح مختصر العلامة خليل (بيروت: المكتبة الثقافية، تصوير عن نشرة مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر، بدون تاريخ)، ج 1، 126. وانظر كذلك: ابن شاس: عقد الجواهر الثمينة، ج 1، ص 220 - 221.
(4)
انظر تفصيل هذه الأقوال الثلاثة في: القرافي، شهاب الدين أحمد بن إدريس: الذخيرة، تحقيق جماعة من العلماء (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1994)، ج 3، ص 92.