الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشروعية الزكاة:
من المقرر أن الله تعالى شرع الأحكام لمصالح الخلق وحفظ نظام العالم لقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. وعليه فالأحكامُ الشرعية منوطةٌ بِحِكَمٍ وعلل ترجع إلى حفظ مصلحة أو درء مفسدة، قال الشاطبي في أول كتاب المقاصد من الموافقات إن اختيار أكثر الفقهاء أن أحكام الله تعالى "معللة برعاية مصالح العباد"، وأن المعتمد في ذلك استقراءُ الشريعة؛ إذ وجدناها تُعَلِّل تفاصيلَ الأحكام نحو قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. وهو استقراء مفيد للقطع، وهو الذي ثبت به القياسُ والاجتهاد عند علماء الإسلام. وعليه فتكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات"، وبسط ذلك بما لا حاجة إلى التطويل به. (1) ثم قال في مسألة تالية إن المصالح هي "ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان، وتمام عيشه، ونيل ما تقتضيه أوصافه [الشهوانية والعقلية على الإطلاق] ". (2)
إذا تقرر هذا، فاعلم أن حكمةَ مشروعية الزكاة هي المواساة؛ قال المازري في المعلم:"وقد أفهم الشرعُ أنها (أي الزكاة) شُرعت للمواساة، وأن المواساة إنما تكون فيما له بال من الأموال، فلهذا حَدَّ النُّصُبَ كأنه لم ير فيما دونها محملًا [لذلك، ثم وضعها في الأموال النامية] ". (3) وكأنه [(أي الشرع) لم ير فيما دون النصاب ما
(1) الشاطبي: الموافقات، ج 1، ص 322 - 323. وقد أورد المصنف كلام الشاطبي بتصرف.
(2)
المرجع نفسه، ص 339. وما بين الحاصرتين لم يورده المصنف، وسقناه لما له من دلالة مهمة على منحى الشاطبي في النظر إلى مسألة التعليل.
(3)
المازري: المعلم بفوائد مسلم، ج 2، ص 5. هذا وقد جاء في الكلام اضطراب واختلاط بين كلام المازري وكلام المصنف فاجتهدنا في ضبطهما وتمييز أحدهما عن الآخر مع إضافة ما يقتضيه السياق ليستقيم المعنى، وقد وضعنا تلك الإضافة بين حاصرتين. وللأسف فإن محقق فتاوى ابن عاشور لم ينتبه إلى ذلك الاضطراب والاختلاط، على الرغم من أنه أحال على كتاب المازري. انظر فتاوى الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، جمع وتحقيق محمد بن إبراهيم بوزغيبة (دبي: مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، 1425/ 2004)، ص 255.
يصلح] للفقير لسد خلته، حتى ينتظم عيشُه كما انتظم عيش الأغنياء، وحتى لا يلجئه الاضطرارُ إلى ارتكاب ما يفضي إلى فساد النظام.
قلت: قد أومأ الشرع إلى أن علتها - أعني مظهر حكمتها - هو الغنى، لما ورد في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن:"فأَعْلِمْهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم تُؤخذ من أغنيائهم وتُرد على فقرائهم". (1) فقوله: "تُؤخذ من أغنيائهم" إيماءٌ، وهو من مسالك التعليل، وعرفوه وعرفوه بأنه اقتران الوصف بحكم لو لم يكن مسوقًا للتعليل لكان ذكره عبثًا. فالغنى هو قلة الاحتياج للغير بالتحصيل على واحد من ثلاثة أشياء:
أولها: ما يدفع الحاجةَ بذاته، كالطعام الذي يُستخرج من الأرض والحيوان، واللباس الذي يستنتج من الحيوان، قال تعالى:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)} [النحل: 5]، وقال:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)} [النحل: 80].
ثانيها: ما يدفع الحاجة بتعويضه، كالقدر الزائد على حاجة الإنسان مما ذكرناه، فإنه يستبدل بذلك القدر غيره مما يحتاج إليه، وهو أصلُ التبايع. وقد كان العرب يتبايعون بالتمر والطعام والحيوان، ويدفعون ذلك أثْمَانًا في العقار، وصدقات في الزواج، ويتداينونها ويقضون بها الديون. وكان لهم مع ذلك الفضة والذهب، وهو أقل. قال زهير:
تُعفَّى الكُلُومُ بِالْمِئِينَ وَأَصْبَحَتْ
…
يُنَجِّمُهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِمُجْرِمِ (2)
ثالثها: ما اصطلح البشر على جعله عِوضًا للأشياء، بحيث إن مَنْ يبذله يستجلب به ما يحتاج إليه مهما دعت الحاجةُ بدون تريث، وذلك النقدان. فنتحصَّلُ
(1) سبق تخريجه.
(2)
ديوان زهير بن أبي سلمى، ص 106. والبيت من المعلقة.
من هذا أن الغنى يكون إما بمال ثابت، أو آيل إليه. واحترزنا بالثابت عما يُسرع إليه الاضمحلال، كالبقول والثمار الرطبة، وعما لا تتوافر فيه الرغباتُ في جميع الأحوال، كالفواكه والتوابل والعسل.
ويُؤخذ من كلام الفقهاء ضابطٌ لِمَا اهتدينا إليه من حقيقة المال الذي يحصل به الغنى، وذلك أن يشتمل هذا المالُ على وصفين وقعا في كلامهم:
أحدهما: أن يكون ذا بال، قال المازري:"المواساة إنما تكون فيما له بالٌ من الأموال". (1)
ثانيهما: أن يكون قابلًا للنماء؛ لأن المال إذا لم يكن قابلًا للنماء أخذ في النقص فالنفاد، فيكون الغنى به ناقصًا مضمحلًا. قال ابن العربي في القبس:"الزكاة مختصة بالأموال النامية، أو المعرضة لذلك". (2) وقال المازري في المعلم: "قيل: سميت الزكاة زكاة؛ لأن أصلَ الزكاة في اللغة النماء، وهو الزيادة. والزكاة أداءٌ مُقرَّرٌ على الأموال المعَرَّضة للنماء". (3)
(1) المازري: المعلم بفوائد مسلم، ج 2، ص 5. وقد ساق المصنف كلام المازري بتصرف وأوردناه بنصه.
(2)
أورد المصنف كلام ابن العربي بشيء من التصرف، ولفظه بتمامه:"والزكاة مختصة بالأموال النامية التي هي بعرضة ذلك من النماء، وهي ثلاثة أجناس: العين وتشمل الذهب والفضة، والحرث ويشمل الحب والثمرة، والماشية وهي عبارة عن ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم". المعافري: كتاب القبس، ج 1، ص 414؛ وجاء في المسالك بلفظ:"والزكاة مختصة بالأموال النامية التي هي معرضة ذلك من النماء". المسالك، ج 4، ص 13.
(3)
تصرف المصنف في كلام المازري تصرفًا غير يسير بالزيادة والحذف، ونصه:"أصلُ الزكاة في اللغة النماء. فإن قيل: كيف يستقيم هذا الاشتقاقُ ومعلومٌ انتقاصُ المال بالإنفاق؟ قيل: وإن كان نقصًا في الحال، فقد يفيد النموَّ في المآل، ويزيد في صلاح الأموال". المازري: المعلم بفوائد مسلم، ج 2، ص 5. ومرة أخرى، فات ذلك على "محقق" فتاوى المصنف.
فمظنة الوصف الأول هي التي أوجبت تقديرَ النُّصُب (جمع نصاب) حتى يكون المالُ ذا بال، نظرًا لقول المازري فيما تقدم:"وكأنه (أي الشرع) لم ير فيما دونها (أي النصب) محملًا (أي للزكاة) ". ومظنةُ الوصفِ الثاني هي التي أوجبت تخصيصَ الزكاة بأجناس دون أخرى.
والأجناس (1) هي الحرث من حبوب وثمار مقتاتة، كالتمر والزيتون. وزكاة هذا الجنس ثابتة في قوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]؛ إذ الصحيح أن الحق هو "الصدقة المفروضة"، وهذا أحدُ ثلاثة أقوال ذكرها ابنُ العربي في أحكامه، وقال إنه رواية "ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية". (2) والماشيةُ وزكاتها ثابتة من السنة، ولم يتعرض لها القرآن. والعين من ذهب وفضة؛ لأنهما قيمةُ الجنسين المتقدمين، وزكاتُهما ثابتٌ بعضُها بالسنة وهي الفضة، وبعضُها بالإجماع المستند للقياس وهو الذهب.
قال مالك رحمه الله في الموطأ: "السنةُ التي لا اختلافَ فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارًا عينًا، كما تجب في مائتي درهم"، (3) فقال عليه ابن عبد البر في التمهيد: "إنما قال السنة عندنا إذ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيءٌ في تحديد نصاب
(1) قال ابن العربي في بيان أجناس ما تجب فيه الزكاة: "وأطبق العلماء على أن الزكاة في الأموال النامية: العين والحرث والماشية. فالحرث في أربع: في النخل والكروم والزيتون والحبوب، والعين في أربع: في الذهب والورِق والمعدن والركاز، والماشية في ثلاث: الإبل والبقر والغنم". المسالك، ج 4، ص 22. وانظر دراسة شاملة مقارنة لأحكام الزكاة وفلسفتها والأموال التي تجب فيها وما يرتبط بها من صور تطبيقية في: القرضاوي، يوسف: فقه الزكاة (بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة السابعة، 1422/ 2001).
(2)
أما القولان الآخران اللذان ذكرهما ابن العربي فأحدهما أنه "الصدقة غير المفروضة تكون يوم الحصاد وعند الصِّرام، وهو إطعام مَن حضر والإيتاء لمن غبر"، وبه قال مجاهد. وأما الآخر فهو أن معنى الآية "منسوخ بالزكاة"، وهو قول ابن عباس. ابن العربي: أحكام القرآن، ج 2، ص 210.
(3)
الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب الزكاة"، الحديث 636، ج 2، ص 233.