الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصناف المعجزات الخفية:
انتهى بِيَ استقراءُ أصناف المعجزات الخفية إلى ستة أصناف:
الصنف الأول: أحوال الرسول الدال مجموعها على أن الله تعالى قد هيأه من حين إنشائه لتلقي مقام الرسالة العظمى. وهذا الصنف يشبه الإرهاصات، قال تعالى:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وقال:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 31، 32].
فأنبأنا أنه قد أعد لتلقي الرسالة (وهي حالةٌ بشرية عظيمة غير معتادة) نفوسًا ليست مماثلة للنفوس المعتادة، وليست عظمتُها من قبيل العظمة المعهودة عند الأقوام. فلذلك سفَّه الله الذين راموا أن ينالوا مثلَ ما نال رسلُ الله بأنهم ليسوا بذلك المقام، وسفه الذين استصغروا مَنْ أنزل عليه القرآن، وتوهموا أن رجلًا من القريتين أجدرُ منه بذالك لعظمته، فلم يعلموا العظمة الحقة.
ولا جرم أن نفس أعظم الرسل هي أعظم نفس تنفس بها الوجود في هذا العالم، وأن الرسل السابقين قد درجوا في عصور كانت مظلمة التاريخ بين أممهم، إما لبعد العهد كإبراهيم وموسى عليهما السلام، وإما لبلوغ الأمة دركة من للانحطاط استمرت فيه بعد ظهور الرسول مثل اليهود عند مجيء عيسى عليه السلام، فلم تهتد أقوامهم إلى تفصيل صفاتهم خَلقًا وخُلقًا، ولكننا تلقينا إشاراتٍ في شأنهم من القرآن كقوله تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]، أي جامعًا لصفاتِ الخير التي تفترق في أمة كاملة - على أحد التفسيرين (1) - وقوله لموسى:{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} [طه: 41]. وأحسب أن الله تعالى قد جعل صفاتِ رسوله الْخِلقية والْخُلُقية
(1) وقيل المراد إنه كان مؤمنًا وحده بين قومه فهو كأمة، وقيل غير ذلك. - المصنف.
مفتاحًا لباب قبول دعوته بين قومه إن هم اهتدو إليها، ومغلاقًا لأبواب الطعن عليه أو الإزراء به.
وإن خِصالَ الكمال البشرية تنحصر في نوعين: جِبِلي وكسبي. فأما الجبلي، فهو ما يُخلق المرءُ عليه من الصفات المحمودة في أصل الْخِلقة، إما لأنها توصل إلى كمال نفساني، مثل سلامة الحواس وفصاحة اللسان وجودة القريحة وتوقد الفظنة، وإما لأنها توصل إلى تمام الكمال والثقة بالنفس، مثل قوة البدن ورباطة الجأش وشرف النسب، وإما لأنها وسيلةٌ إلى تأثر الناس بدعوته، مثل جمال الصورة وهيبة الطلعة وعزة القبيلة.
وأما الكسبِيُّ فهو ما تتهيأ له النفسُ أو ترتاض عليه من التخلق بالفضائل التي أُعدت لصاحبها في أصل خِلقته ويُسِّر له نماؤها، وذلك جميعُ الفضائل البشرية، وقد ثبت منتهى الكمالين لمحمد صلى الله عليه وسلم. فأما الجبلي فقد تظافرت عليه الرواياتُ الواردة في شمائله الزكية، وأما الكسبي فقد كان طريقُ اكتسابه له من طريق التكوين الإلهي بإنماء الغرائز المودَعة فيه إنماءً صيَّرها أخلاقًا، وبالإلهام والحفظ والعصمة، قال تعالى:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، وروى عن رسول الله:"أدبني ربي فأحسن تأديبي"، (1) وقال تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وقالت عائشة:"كان خلقه القرآن". (2)
هيأ الله لرسوله الكمالاتِ من جميع الجوانب، ليعتبر بذلك أهلُ الاعتبار ممن أوتوا العلمَ والكتاب، وقد اعتبر كثير منهم بها. روى الترمذي أن عبد الله بن سلام
(1) هذا الحديث وإن كان ضعيفَ السند غير أني قصدتُ من الاستدلال به تأييدَ ما قلته من كون التربية النفسية في رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بإلهام وتوفيق كما هو الواقع، وكما اقتضاه قوله تعالى:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، فكان معنى الحديث صحيحًا. - المصنف. انظر أقوال العلماء بشأنه في: السخاوي: المقاصد الحسنة، الحديث 45، ص 49؛ العجلوني: كشف الخفاء، الحديث 164، ج 1، ص 70 - 71.
(2)
سبق تخريجه في مقال "التقوى وحسن الخلق".
اليهودي قال: "لما قدم رسول الله المدينة جئتُه لأنظر إليه فلما استبنت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب". (1)
وجاء في حديث البخاري أن هرقل سأل وفد قريش الذين مثلوا بين يديه في حمص (2): هل جربتم عليه كذبًا قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا لا، فقال:"علمت أنه ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله". وقال عبد الله بن رواحة:
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيَّنَةٌ
…
لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ (3)
الصنف الثاني: أحوال عموم العالم عند بعثته صلى الله عليه وسلم، وهي أحوال تؤذن كلَّ ذي لُب بترقب مجيءِ رسول منقذ، وتعين على انتشار دعوته: وهذا الصنف مما يدخل في قبيل الإرهاصات. أما حالة بلاد العرب، فقد عظم فيها التفاني والإحن، وأصبحت جميع القبائل مطالبة بالتراث ومنادية بالثارات، فما خمدت حربُ البسوس حتى التهبت حربُ داحس والغبراء، ولأْيًا ما حاول سادتُهم وضعَ أوزار الحرب، فكانوا إذا نجحوا زمنًا خابوا أزمانًا، كما وصف زهير في قوله:
(1) وتمام الحديث: "عن عوف بن أبي جميلة عن زرارة بن أوفَى عن عبد الله بن سلام. قال: لمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني المدينة، انجفل الناس إليه، وقيل قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئتُ في الناس لأنظر إليه، فلما استبَنْتُ وجهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهَه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به أن قال: "يا أيها الناس أفشو السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام"". قال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح". سنن الترمذي، "أبواب القيامة والرقائق والورع"، الحديث 2458، ص 588 - 589.
(2)
الصواب أنهم مثلوا بين يديه في بيت المقدس (إيلياء)، ورد ذلك في (صحيح البخاري) في حديث أبي سفيان بن حرب أنهم أتوه وهم بإيلياء. (صحيح البخاري) الحديث (7).
(3)
ذكر القاضي عياض أن نِفْطَويه قال في قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35]: "هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه عليه السلام؛ يقول: يكاد منظره يدل على نبوته، وإن لم يتل قرآنًا، كما قال ابن رواحة:
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيَّنَةٌ
…
لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ".
اليحصبي: الشفا، ص 154.
تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَذُيْبَانَ بَعْدَمَا
…
تَفَانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عطَرَ مَنْشَم (1)
حتى سئم الناسُ تلك الحالة، ولم يهتدوا للخلاص منها محاله.
وأما ما عدا بلاد العرب فقد كان العالم المعروف يومئذ موزعًا بين سلطة دولتين عظيمتين هما دولة الرومان ودولة الفرس، فالناس لأحوالهما تبع. وكلتا الدولتين كانت قبل ظهور الإسلام في فتن داخلية واختلال. أما دولة الروم في القسطنطينية فقد توثب على عرشها قواد الأجناد، وتعاقبوها، إلى أن استنجدت الأمةُ بهرقل الذي كان يومئذ واليًا على إفريقيا سنة 610 م، وهو الذي جاء الإسلام في مدته. ودولة الفرس كان شأنها في الانقسام شأن الروم، فكان الأمراء يتوثب بعضُهم على بعض ليتولى عرش الأكاسرة، فيغتال الابن أباه والأب ابنه، وذلك بعد وفاة أنو شروان وولاية ابنه هرمز، فثار عليه أحدُ قواد جيشه وهو بهرام، وغلبه على معظم بلاد فارس. وجاء أبرويز بن هرمز وهو أمير أذربيجان لقصد إنقاذ أبيه، ولكنه آل أمره أن قتل أباه هرمز ثم تغلب على بهرام وقتله، وكان مبعث النبي صلى الله عليه وسلم في زمن أبرويز. ثم ثار شيرويه بن أبرويز على أبيه، وقتل أباه وإخوته، واستولَى على المملكة، ثم قتل، فولِيَ قباذ وقتل، فولِيَ أردشير.
وكانت العرب في العراق تحت حكم المناذرة تابعين لمملكة الفرس، كما كانت العرب بالشام تحت حكم الغساسنة، تبعًا لمملكة الروم، فحربهم حربهم وسلمهم سلمهم. ولم يكن غرب الأرض بأحسن حالًا من الشرق؛ إذ كانت سلطنةُ الرومان بالغرب قد انقضت سنة 476 م بتغلب الفندال والجرمان والبربر على مدينة رومة، وأظهروا في تلك الأصقاع وما وراءها أشنعَ مظاهر الاعتداء والفساد.
(1) ديوان زهير بن أبي سلمة، نشرة بعناية علي حسن فاعور (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1408/ 1988)، ص 106. والبيت من قصيدة قالها زهير في مدح الحارث بن عوف بن أبي حارثة وهرم بن سنان وذكر سعيهما بالصلح بين عبس وذبيان، وطالعها:
أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ
…
بِحَوْمَانَةِ الدّرَّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ
فكان زمنُ البعثة وما تقدمه زمنًا قد اتقدت فيه الفتنُ والفوضى في سائر المعروف من أقطار العالم، ولم تكن حالةُ نفوس العامة وأخلاقهم بأقل اضطرابًا واختلالًا من حالة دولهم وجماعاتهم، بقاعدة لزوم المماثلة بين الظاهر والباطن، وبين التفكير والعمل. ونكل الناظرَ في كلامنا إلى تتبع ذلك من الإلمام بالحالة التاريخية العامة؛ لأن بسطه يخرجنا عن قصد الاختصار هنا. وسنشرحه في مؤلف خاص. (1)
الصنف الثالث: شهادات العلم والحكمة بصحة ما جاء به الرسول من الإرشاد النفساني وما له به تعلق من الجثماني شهادةً منتزعة مما هو مقررٌ من العلم قبل البعثة، مثل الحكمة اليونانية والفارسية والمصرية، أو مما تأخر ظهورُه عن زمن البعثة تأخرًا قريبًا أو بعيدا.
وهذا الصنفُ يندرج تحت وجه من وجوه إعجاز القرآن، وإنما عددناه في المعجزات الخفية؛ لأن وجوهَ إعجاز القرآن التي تعرض لها سلفُنا كانت راجعةً إلى وجوه دلالة القرآن في نظمه وبلاغته ووفرة معانيه وخصائص تأثيره في النفوس، ولم يخصوا هذه الناحيةَ بالبحث وهي ناحيةُ إعجازه من جهة أسراره وحكمه. نعم، قد بحث علماء أصول الفقه وأسرار التشريع عن بعض الحكم في التشريع، ولكنهم لم يتوجهوا إليها من حيث دلالتُها على أنه كلامُ علام الغيوب الذي لا يعزب عنه شيء. (2)
على أن الذي نبحث عنه الآن أعمُّ مما بحثوا عن بعضه؛ اذ نقصد منه ما يتعلق بالتشريع وما يتعلق بالإرشاد الخارج عن التشريع إلى مجرد النصح والإصلاح العام، مثل ما يتعلق بصلاح المزاج، وصلاح النسل، ونظام العائلة، واستقامة العيش
(1) لا نعلم ما إذا كان المصنف وفَى بهذا الوعد، ولكنا نشير إلى أنه تناول طرفًا من موضوعه في بحث "من يجدد للأمة أمر دينها" المنشور في هذا المجموع.
(2)
راجع تفصيلَ المصنف القولَ في هذه الجوانب من إعجاز القرآن في المقدمتين التاسعة والعاشرة من مقدمات تفسير التحرير والتنوير، ج 1، ص 93 - 119.
الخاص (أي الاقتصاد المنزلي)، ولأننا نبحث عما ثبت في القرآن وفي السنة، وهذه مزيةٌ في الشريعة الإسلامية زائدة عن المقصود وهو التشريع.
والذي يظهر لي أن الرسول خَصَّ بالتنبيه أمورًا لم يهتد الناسُ إليها مع عظم خطرها، أو لأنها تمس جانبَ التشريع من جهة إحداث عوائق نفسية أو جثمانية قد يكون لها تأثير سيئ في عموم الأمة. يرشدنا لذلك أنا لم نر الرسول متصديًّا إلى بيان ما يهتم الناس بالاطلاع عليه مما يلزمهم عملُه من أحوالهم الدنيوية، كأوقات الأكل، وطرق الاكتساب. ولذلك قال لأصحابه في شأن تأبير النخل:"أنتم أعلم بأمور دنياكم"، فبهذا يتضح لنا فرقٌ بين ما اهتم الإرشاد النبوي ببيانه أو الرمز إليه، وبين ما وكله لعلم الأقوام وعنايتهم، وكل ذلك مما هو خارج عن التشريع.
وأمثلة هذا الصنف من الإعجاز وجزئياته كثيرة، نقتصر منها الآن على أمور:
1 -
منها تحريم قليل الخمر الذي هو دون الإسكار، فقد كان علماؤنا يقولون: إن حكمة ذلك هو سدُّ الذريعة، ولكن علم الطب لَمَّا كثرت اكتشافاتُه أثبت أن ما يشتمل عليه الخمر من الجزء المسمى بالكحول شيء مفسِدٌ للمزاج، وأنه إذا سرى منه شيء مع لقاح التناسل في الرجل أو المرأة، أورثَ في النسل أمراضًا معضلة.
2 -
ومنها تحريم الزنا والبغاء، فقد أثبت الطبُّ أن ذلك الاختلاط يجر على النسل ويلاتٍ من فساد الأمجزة والأمراض المعضلة.
3 -
ومنها النهي عن اتخاذ الكلاب الدواجن، والأمر بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب سبعًا إحداهن بالتراب. فقد كان هذان الحكمان مختصمَ العلماء المجتهدين في تعليله والتفريع عنه: فمنهم مَنْ أخذ من ذلك نجاسة الكلب، ومنهم من قال: بل ذلك تعبدٌ لم نطلع على علته وهو أقرب؛ لأنه لما اتضحت العلة الآن ظهر معنى التعبد الذي مال إليه مالك رحمه الله، فقد قال الأطباء: إن رائحة أرواث الكلاب في البيوت، ومخالطتها، تحدث أمراضًا عضالًا، وقالوا: إن لعاب الكلب يشتمل على جراثيم معدية تحدث أدواء معضلة، ورأيت من الأطباء من قال: إن تلك الجراثيم لا يطهر منها الإناء أتَمَّ تطهير إلا إذا وقعت في التراب.
الصنف الرابع: مقامات ثبات الإسلام وعدم تزلزله في مظاهر مناوأة أعدائه، وقلة عزيمة أنصاره، وغفلة أتباعه. وهذا الصنف يشبه المعجزات، وشواهده تبتدئ من وقت ابتداء الدعوة وتستمر مع العصور: ظهر الإسلام بين قوم كان معظمُهم مناوئًا لدعوته ساخرًا منه إلا نفرًا قليلًا، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:"لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق السمر". (1) فثبت الإسلام أمام تيار أعدائه يزيد أتباعه يومًا فيومًا بحكمة قدرها الله تعالى، وهي أن جعل المشركين يسخرون ويستضعفون وجعل الله ذلك فرصة ليمكن الدين من أتباعه، قال تعالى:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} [الحجر: 95].
(1) يبدو أن المصنف جمع بين روايتين إحداهما عن خالد بن عمير العدوي قال، قال:"سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: والله! إني لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله. ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لنا طعامٌ نأكله إلا ورق الحبلة، وهذا السمر. حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة. ثم أصبحت بنو أسد تُعَزّرني على الدين. لقد خبت، إذًا وضل عملي". ولم يقل ابن نمير: "إذا". والثانية عن خالد بن عمير العدوي، قال:"خطبنا عتبة بن غزوان، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، يتصابُّها صاحبُها. هانكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذُكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عامًا لا يدرك لها قعر. ووالله! لتملأن. أفعجبتم؟ ولقد ذُكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام. ولقد رأيتني سابعَ سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لنا طعام إلا ورقُ الشجر، حتى تقرحت أشداقُنا. فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحدٌ إلا أصبح أميرًا على مصر من الأمصار. وإنِّي أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وعند الله صغيرًا، وإنها لَم تكن نبوةٌ قط إلا تناسخت، حتى يكون آخر عاقبتها ملكا. فستخبَرُون وتجرِّبون الأمراءَ بعدنا"". صحيح مسلم، "كتاب الزهد والرقائق"، الحديثان 2966 - 2967، ص 1135 - 1136. والْحُبْلَبة أو الحْبَلَة - بضم الحاء وفتحها وإسكان الباء وفتحها - هي والسَّمُر - واحدته سَمُرة - ضرب من شجر الطلح. والرواية الأولى في صحيح البخاري، "كتاب الأطعمة"، الحديث 5412، ص 966.
وإن أعظم نصير ظهر للدين قلة اكتراث قريش بدخول أهل يثرب في الإسلام، ثم إن الله تعالى يسّر انتشارَ هذا الدين في أمد غير بعيد، فما تُوفِّيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى كان الإسلام عامًّا جميعَ الحجاز، وتهامة، ونجد، والبحرين، واليمن، ومشارفَ الشام، وصار أتباعه ملايين.
ثم كان المقامُ الثاني مقامَ ثبات الدين بعد ارتداد العرب عقب وفاة رسول الله، فجبر الله الصدعَ في حالة لا تعرف أسبابها، فثاب العرب إلى الإسلام وطاعة خليفة رسول الله، فانتشر الإسلام عقب ذلك في العراق والشام والفارس ومصر وإفريقية، على عظمة تلك الممالك المناوئة له في بدء أمرها، وعلى قلة جند الإسلام تجاه تلك القوى.
ثم كان المقامُ الثالث مقامَ ثباته أيام الفتنة الكبرى التي أثارها الخارجون على عثمان رضي الله عنه في قلب الإسلام وعاصمة الخلافة، فسلم الإسلامُ من انتقاض أتباعه الذين كانوا قريبي عهدٍ بالإسلام من أهل فارس، وقبط مصر، ونصارى العرب. وتعطل انتشارُ الإسلام برهة، وفُتحت أبوابُ الفتن، فتعس الذين دبروها والذين أضرموها.
ثم حدث الخلافُ بين الصحابة عن اجتهاد، وغُضب للحق من الفريقين، فرضي الله عنهم أجمعين. ثم جاءت فتنةُ الحرورية والأزارقة ومَنْ بعدهم، فأصبحت قوةُ الإسلام يرتد بعضُها على بعض فيُفنِي بعضُها بعضًا، ثم تدارك الله الأمةَ بفضيلة الحسن بن علي سبط رسول الله رضي الله عنه وسعيه لرد سيوف المسلمين إلى قرابها.
ثم حدثت حوادثُ غير مجهولة، حتى زمن عبد الملك بن مروان، فاجتمعت الكلمةُ وعادت الخلافة إلى حرمتها. ثم كان ظهور الدولة العباسية، واقتحامها إثارة نار الفتنة أيضًا، ولم تطل حتى اجتمع الناسُ بعد مقتل مروان بن محمد وخرج عبد الرحمن بن معاوية بالأندلس بفتنة غير قوية. ثم حدثت فتنةُ المغول، وجاء الانقسام المستمر. كلُّ ذلك والإسلام قائمُ الصلب، رافع الرأس، له في كل تلك العصور مقاماتٌ ثابتة، ودلائلُ على صدقه واضحة. ولا أعجب من حادثة تنصير
المسلمين في الأندلس، وكيف ثبتوا على دينهم خفية، إلى أن جعل الله لهم مخرج الأمر بالهجرة من تلقاء مَلِك الإسبان.
ولو تأملنا الحوادثَ البعيدة عنَّا والقريبة منا والتي شهدناها في عصرنا، لرأينا الإسلام في جميعها مؤيَّدًا بعناية إلهية، فإذا اشتد خناقُ الأهوال، هبت عليه نسماتٌ من الألطاف تعيد نفسَ الآمال، غير أن ذلك محسوبٌ على المسلمين فيما تسببوا فيه من الإهمال.
الصنف الخامس: بشارات الكتب السالفة بالرسالة المحمدية، وهذا الصنف يندرج في فصيلة الإرهاصات. وقد ذكر علماؤنا شواهد كثيرة، منها الصريح ومنها المؤول، وقد ذكر عياض منها كثيرًا، وأكثر منها الماوردي في كتاب أعلام النبوة، فعليك بمطالعتها. غير أني أحببت أن أذكر إشاراتٍ كالصريحة وقفت عليها بنفسي.
1 -
البشارة الأولى في التوراة (العهد القديم) في سفر التثنية - الإصحاح الثامن عشر: "أقيم لهم (أي لبني إسرائيل) نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيته به"، (1) فيتعين أن المرد بإخوة بني إسرائيل العرب بنو إسماعيل، وليس المراد بهم بني إسرائيل؛ لأنه يلزم عليه إضافةُ الشيء إلى نفسه، ثم إنه لم يقم في بني إسرائيل نبِيٌّ مثل موسى، أي رسول بشرع.
2 -
البشارة الثانية في إنجيل متى في الإصحاح الرابع والعشرين، الفقرة الحادية عشر: "ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين، ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين (أي يضعف إيمانُ أهل الكتاب)، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يُخَلَّص ويكرز ببشارة الملكوت في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم، ثم يكون
(1) الكتب المقدسة: كتب العهد القديم، سفر "تثنية (الاشتراع) الإصحاح الثامن عشر"، ص 275. ونص الترجمة:"إني أقيم لهم نبيًّا من بين إخوتهم مثلك، وأجعل كلماتي في فيه فيكلمهم بكل ما آمره به، ويكون كل من لا يسمع كلماتي التي يتكلم بها باسمي أطلب منه. . ."
المنتهى". (1) وهذه بشارة واضحة؛ إذ قد جاء بعد عيسى دجاجلة وعظم الإثم في العالم كما أشرنا إليه في الصنف الثاني، والذي يصبر إلى المنتهى هو محمد صلى الله عليه وسلم، أي يبقى شرعه إلى نهاية الدنيا. وقوله: "يكرز ببشارة الملكوت في كل المسكونة"، أي يدعو ويتقدم، وهذا معنى عموم الرسالة. وقوله: "شهادة لجميع الأمم" فيه إشارة إلى أن بعض الأمم يتبعونه وبعضهم لا يتبعونه، فتكون دعوتُه شهادة، وهذا في معنى قوله تعالى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
3 -
البشارة الثالثة في إنجيل يوحنا، الإصحاح الرابع عشر الفقرة السادسة عشر:"وأن أطلب من الآب (أي من الله) فيعطيكم معزّيًا آخر (أي رسولًا غير عيسى المتكلم) ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله؛ لأنه لا يراه ولا يعرفه (أي لا يستطيع العالم قبول روح الحق بدون إرشاد ذلك المعزي؛ لأن العامة لا يرون الحق) ". (2) ثم قال في الفقرة السادسة والعشرين: "وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلمكم كلَّ شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم"(3)(معنى باسمى أنه رسول بشريعة). وقال في الإصحاح الخامس عشر - الفقرة السادسة والعشرين: "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق ينبثق فهو يشهد لِي". (4)
(1) كتاب العهد الجديد (مترجم من اليونانية برعاية جمعية ترقية المعارف المسيحية، نشر بلندن بعناية وليم واطسن سنة 1859)، ص 39. ونص هذه الترجمة:"ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويُضِلون كثيرين، ولازدياد الإثم تبرد محبة كثيرين، ومَنْ يصبر إلى المنتهى فإنه يُخَلَّص، ويوعظ ببشارة الملكوت في هذه المسكونة شهادة لجميع الأمم، ثم يأتِي الانتهاء".
(2)
المصدر نفسه، ص 161. ونص هذه الترجمة:"وأنا أسأل الآب فيعطيكم مُعَزِّيًا آخر ليقيم معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله؛ لأنه ليس يراه ولا يعرفه. فأما أنتم فتعرفونه؛ لأنه مقيم معكم وسيكون فيكم".
(3)
المصدر نفسه، ص 162 (مع اختلاف يسير في الترجمة).
(4)
المصدر نفسه، ص 163. ونص الترجمة:"ولكن إذا جاء المعزي الذي أرسله أنا إليكم من عند الآب روح الحق الخارج من عند الآب فهو يشهد لِي".
وهذه كلها بشارةٌ صريحة، والمراد بالمعزي المصدق والمؤيد. وقوله في بعضها:"سأرسله إليكم"، مجاز أو ضعف في الترجمة، أي الذي يجيء بعد المسيح، فكأنه أرسله، ومعنى قوله فيه:"فهو يشهد لِي"، أنه يشهد بأن عيسى رسولُ الله بعد أن أنكر اليهود، وبأنه لم يُصلب. وهذا في معنى قوله تعالى:{وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء: 41] ، على أحد التفسيرين. (1)
الصنف السادس: أحوال تتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل نبوته أو بعدها تدل على عظم شأنه وصدق دعوته. منها كراهة التعري وهو شاب في مدة بناء قريش الكعبة حين أمره عمُّه أن يرفع إزاره، فلما رفعه خر مغشيًّا عليه وقال:"رُدُّوا علي إزاري". (2)
(1) الواقع أن هناك أكثر من قولين في تفسير هذه الآية كما ذكر الراغب الأصفهاني حيث قال: "وقوله: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)}، فيه أقوال: أحدها أنه أشار إلى أمته، ويكون قوله: {[وَجِئْنَا] بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} عامًّا، وخص النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بالذكر تعظيمًا لهم. والثاني ما قاله ابن عباس: إن هذه الأمة تشهد للأنبياء، والنبي صلى الله عليه وسلم يشهد لأمته، واستدل بقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. والثالث: إن قوله: {عَلَى هَؤُلَاءِ}، إشارة إلى الأنبياء الذين هم الشهداء على أممهم". ثم قال في بيان معنى شهادة النبي عليه السلام على الأنبياء السابقين: "إن قيل: كيف يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاهدًا للأنبياء الذين قبله وهو لم يحضرهم؟ وأي فائدة لشهادته وشهادتهم؟ قيل: إن الأنبياء لم يختلفوا في أصول ما دعَوْا إليه، بل كلهم لسان واحد في الدعاء إلى التوحيد، وأصول الاعتقادات والعبادات، وسائر جمل الشريعة، وعلى ذلك نبه بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي [أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ]} [الشورى: 13]. وكل واحد منهم معتقد لما اعتقده الآخر، ومبلغ ذلك مثل ما بلغه الآخر، ثم شريعة النبي صلى الله عليه وسلم جامعة لأصول شرائع من تقدمه". ثفسير الراغب الأصفهاني، ج 2، ص 1244 - 1245. وهذا القول الثالث الذي فصل فيه الراغب هو المقصود بكلام المصنف، وقد عده من "أضعف الاحتمالات"، ولكن التوجيه الذي جاء به الراغب يجعله غير ذلك. انظر ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، ج 5، ص 58.
(2)
سبق تخريجه في مقال: قصة المولد.
ومنها أن قريشًا كانوا إذا شتموا النبي صلى الله عليه وسلم أبَوْا أن يسموه محمدًا فيقولون: مذمم. قال رسول الله لعائشة: "ألَمْ تَرَيْ كيف صرف الله عني سبَّ قريش: يَسُبُّون مُذمَّمًا، وأنا محمد؟ "(1)
ومنها أن الله تعالَى أخفى قبورَ الرسل كلهم، فلا يُعرف قبرُ رسول محقق، وأظهر قبر محمد صلى الله عليه وسلم، فهو معروف بالتواتر من يوم قبر فيه. وتلك إشارة إلهية إلى أن شرعه هو الدائم، وأن شرائعَ الرسل قبله منقرضة بشرعه.
ومنها ما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي موسى الأشعري قال: "توضأت في بيتي وخرجت فقلت: لألزمن رسولَ الله يومي هذا، فجئت المسجد فسألت عنه، فقالوا: خرج وتوجه ههنا، فخرجت على أثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس، فجلست عند الباب، وبابها من جريد، فقمت إليه فإذا هو جالس على البئر قد توسط قُفَّها، فسلمت عليه. ثم انصرفت، فجلست عند الباب، فقلت لأكونن اليوم بوابَ رسول الله، فجاء أبو بكر فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ قال: أبو بكر، فذهبت فاستأذنت له رسول الله فأذن له، فدخل فجلس عن يمين رسول الله معه في القف، ثم جاء عمر فاستأذنت له كذلك، فدخل فجلس في القف عن يساره، ثم جاء عثمان فاستأذنت له فدخل فوجد القف قد ملئ فجلس من الشق الآخر وِجَاههم"، قال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم". (2)
ودلائلُ نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخفية كثيرة قد يملأ استقصاؤها مجلدات، وهذه لمحة دالة على أصنافها وشواهد منها، وعسى أن يساعد الأمل، فنكتب في ذلك كتابًا طولُه لا يُمل (3).
(1) لم أجده بهذا اللفظ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مذمَّمًا، ويلعنون مذمَّمًا، وأنا محمد". صحيح البخاري، "كتاب المناقب"، الحديث 3533، ص 594 - 595؛ سنن النسائي، "كتاب الطلاق"، الحديث 3435، ص 560؛ البيهقي: دلائل النبوة، ج 1، ص 152.
(2)
صحيح البخاري، "كتاب فضائل الصحابة"، الحديث 3674، ص 617؛ صحيح مسلم، "كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم"، الحديث 2403، ص 938 - 939.
(3)
لا ندري إن كان الشيخ وفى بما أمل، ولعل قادم الأيام يكشف عن هذا الأمر ويدل.