الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
- (1)
[مقدمة]
احتفافُ العظيم بمظاهر العظمة في أعين ناظريه وتُبَّاعه وسيلةٌ من وسائل نفوذ تعاليمه في نفوسهم، وتلقيهم إرشادَه بالقبول والتسليم، واندفاعِهم بالعمل بما يمليه عليهم. وإن للعظمة نواحيَ جمةً، ومظاهرَ متفاوتةَ الاتصال بالحق: فمنها العظمةُ الحقة الثابتة، ومنها المقبولة النافعة، ومنها الزائفة التي إنْ نفعت حينًا أضرت أزمانًا، وإن راجت عند طوائف عُدَّتْ عند الأكثرين بطلانًا. وفي هاته الأصناف معتادٌ وغيرُ معتاد، وبينها مراتبُ كثيرة الأعداد، لا يعزب عن الفَطِن استخراجُها من خلال أصنافها، والحكمُ الفصلُ في آدابها وأُلَّافها.
وبمقياس اتسام العظيم بسمات العظمة الحقة، يكون مقياس غُنْيته عن مخايل التعاظم الزائفة، كما أنه بمقدار خُلوِّه من تلك السمات الحقة يقترب من الاحتياج إلى شيء من تلك المخايل، كالْمصاب بفقر الدم لا يستغني عن زيادة التدثر بدثر الدفاء. ولَكَثْر ما تحمَّل العظماءُ مشاقَّ التكلُّفِ لِمَا يثقل عليهم التظاهرُ به، مجاراةً لأوهام التُّبَّاع أولِي المدارك البسيطة؛ حذرًا من أن ينظروا إليهم بعين الغضاضة، أو يلاقوهم بمعاملة الفضاضة. فهم يقتحمون ذلك الثقل، ولسان حالهم يقول:"مُكْرَهٌ أخوك لا بطل". (2) فلا غروَ أن كان المتوسِّمون منذ القدم تقوم لهم من
(1) الهداية الإسلامية، المجلد 10، الجزء 10، ربيع الثاني 1357/ [يونيو] 1938 (ص 578 - 597).
(2)
أصل هذا المثل قصة تحكى عن بيهس الملقب بنعامة، وكان رجلًا من بني فزارة بن ذبيان بن بغيض، وكان سابع سبعة أخوة، فأغار عليهم ناسٌ من أشجع بينهم وبينهم حرب، وهم في =
صفات مجالسِ السَّراة والجماعات دلائلُ مُنْبِئةٌ بأحوال أصحاب تلك المجالس، كما قال [الشاعر]:
وَلمَّا أَنْ أَتَيْتُ بَنِي جُوَيْنٍ
…
جُلُوسًا لَيْسَ بَيْنَهُمُو جَلِيسُ
يَئِسْتُ مِنَ الَّتي أَقْبَلتُ أَبْغِي
…
لَدَيْهُمُو، إِنَّنِي رَجُلٌ يَؤُوسُ (1)
وإننا إذا تتبعنا ما يُعَدُّ من هيئات المجالس أحوالَ كمالٍ حقًّا أو وهْمًا، نجد منها المتضادَّ الذي إن اشتمل المجلسُ على شيء منه لم يشتمل على ضده، مثل الحجاب والإذن، والوقار والهزل. ونجد بعضَها غيرَ متضادٍّ بحيث يمكن اجتماعُه، كوضع الأرائك والطنافس النفيسة مع التزام الوقار والحكمة، وكالفخامة والزركشة
= إبلهم، فقتلوا منهم ستة، وبقي بيهس، وكان يحمق، وكان أصغرهم، فأرادوا قتله ثم قالوا: وما تريدون من قتل هذا؟ يُحسب عليكم برجل ولا خيرَ فيه، فتركوه. أما مناسبة قوله هذا الكلام فهي أن بيهسًا "أُخبِر أن ناسًا من أشجع في غار يشربون فيه، فانطلق بخال له يقال له أبو حنش فقال له: هل لك في غار فيه ظباء لعلنا نصيب منها؟ ويروى: هل لك في غنيمة باردة؟ فأرسلها مثلًا. ثم انطلق بيهس بخاله حتى أقامه على فم الغار، ثم دفع أبا حنش في الغار فقال ضربًا أبا حنش. فقال بعضهم: إن أبا حنش لبطل. فقال أبو حنش: مكرَهٌ أخوك لا بطل، فأرسلها مثلًا. قال المتلمس في ذلك:
وَمِنْ طَلَبِ الأَوْتَارِ مَا حَزَّ أَنْفَهُ
…
قَصِيرٌ وَخَاضَ المَوْتَ بِالسَّيْفِ بَيْهَسُ
نَعَامَةٌ لَمَّا صَرَّعَ الْقَوْمُ رَهْطَهُ
…
تبَيَّنَ فِي أَثْوَابِهِ كَيْفَ يَلْبَسُ
الضبي، المفضل بن محمد: أمثال العرب، تحقيق إحسان عباس (بيروت: دار الرائد العربي، ط 2، 1401/ 1981)، ص 111 - 112؛ الميداني، أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري: مجمع الأمثال، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (مطبعة السنة المحمدية، 1374/ 1955)، ج 1، ص 153. ويروى "مكره أخاك - بالألف - لا بطل"، وهو مثل مسموع عن العرب، وقد أجمع أئمة اللغة على وجوب ضرب الأمثال كما تفوه بها الذين قالوها أول مرة. ووفقًا لذلك يكون إعراب "أخاك" مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر، وهو مضاف، والكاف ضمير متصل مبني في محل جر بالإضافة. وذلك على لغة من يجعل الأسماء الخمسة دائمًا بالألف ويقدر الحركات، وهي لغة تميم وتسمى لغة القصر.
(1)
ذكر هذا الشعر ابن قتيبة، ولم ينسبه إلى أحد، وقد صوبنا بعضَ ألفاظ البيتين طبقًا لما ذكره. عيون الأخبار، ج 1/ 2، ص 4.
مع إقامة الإنصاف. فقد كان مجلس سليمان عليه السلام مكسوًّا بفخامة الملك، وهو مع ذلك منبع لآثار النبوة والحكمة، وكانت مدرسةُ أفلاطون الحكيم محفوفةً بمظاهر الرفاهية والترف وهي مناخ كل أستاذ حكيم.
فأما الأوصافُ المتضادة، فلا شبهةَ في كون مجالسِ العظماء حقًّا تُنَزَّه عمَّا يضاد الحقَّ منها، وأما غيرُ المتضادة فلا يُعدُّ تجردُ مجلسِ العظيمِ عما هو من هذا الصنف مهمًّا إلا زيادةً في عظمته، وليس ذلك بلازم في تحقق أصل عظمته الحقة.
تجري أشكالُ الدعوة الإلهية على حسب استعداد الأقوام لتلقي مراد الله منهم، فيَسُنُّ لهم من الأحوال والهيئات ما هم به أَحْرِياء، (1) لنفوذ مراد الله فيهم. فقد يُتسامح لدعاتهم ببعض المظاهر التي لا حظَّ لها في التأثير الخلقي أو التشريعي، ولا تَحُطُّ من اعتبار صاحب الدعوة في أنظار أهل الكمال، وتُعين على قبول دعوته بين العموم البسطاء؛ لموافقتها بساطة إدراكهم، وعدم منافاتِها الحق. فإن بني إسرائيل لَمَّا فَتَنَتْهم مظاهرُ عبدةِ الأصنام وقالوا لموسى:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، غضب عليهم رسولهُم، ووبَّخهم على ذلك.
ولمَّا بَهرتْهم مظاهرُ الملك التي شاهدوها عند الأقوام الذين مرُّوا بهم في تيههم والذين جاوروا بلادَهم، وقالوا لنبيهم شمويل:{ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246]، لم ير نبيُّهم في ذلك بأسًا؛ إذ رآه أعونَ لهم على الدفاع عن جامعتهم، فأقام لهم شاول ملكًا. (2) ثم خلفه من الملوك مَنْ كان له وصفُ النبوة،
(1) أحرياء جمع حري، بمعنى خليق وجدير.
(2)
وقد حكى القرآن ذلك حيث قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].
مثل داود وابنه سليمان الذي عظم سلطانه، وفخمت مَظاهرُ ملكه التي ما كانت تُنْقِصُ كمالَه النبوي.
وأظهرُ حجة على ذلك أن مَلِكةَ سبأ ما دانَتْ له حين مجيء كتابه إليها بالدعوة إلى الإيمان بالله، والدخول في طاعة ملكه العادل، فقالت:{إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)} [النمل: 34]. ثُمَّ هي لَمَّا وفدت عليه بمدينته، ورأت من عظمة سلطانه ما أبْهَتَها، ودخلت الصرحَ الممرد فحسبته لجة، هنالك قالت:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} [النمل: 44]. وكذلك فرعون موسى، كان مِمَّا منعه أن يؤمن بموسى أنه لم ير عليه آثارَ العظمة الزائفة؛ إذ قال في تعليل كفره به:{فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 53]، وهي شعار الملوك في عرفهم.
وفي هذا ما يشرح لنا تلك المجادلة التاريخية العظيمة الجارية بين عظيمين من عظماء أمتنا: عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان؛ إذ شاهد عمر حين مَقْدَمه الشامَ فخامةَ إمارةِ معاويةَ هنالك، فقال له:"أَكُسْرَوَيَّةٌ (1) يا معاوية؟ " فقال معاوية: "إننا بجوار عدُو، فإذا لم يَرَوْا منا مثلَ هذا هان أمرُنا عليهم"، فقال عمر حينئذ:"خدعةُ أريب، أو اجتهادُ مصيب، لا آمرُك ولا أنهاك". (2)
الآن تهيأ لنا أن نُفيضَ القولَ في صفة مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتعلقاته، وهو مبحثٌ جليل لم يسبق للعلماء الباحثين عن السيرة والشمائل النبوية تدوينُه، وتخصيصُه بالبحث والتبويب، واستيعابُ ما يتعلق به. ومن العجب أن ذكر هذا
(1) كسروية: منسوبة إلى كسرى، والمعنى: أهيئة كسروية أو أإمارة كسروية؟ - المصنف.
(2)
انظر خبر القصة مع اختلاف يسير في بعض ألفاظها في: ابن عبد ربه الأندلسي، أحمد بن محمد: العقد الفريد، تحقيق مفيد محمد قميحة (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1404/ 1983)، ج 1، ص 15.