الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زكاء هذا النسب:
أردتُ بزكاء النسب سلامةَ السادة آباء رسول الله من وصمة الخزي يوم عرض الأمم وحسابها. وهذا فضيلةٌ دينية إليها كبيرُ التفاتٍ في شرف الابن؛ لأن النقائصَ الجثمانية إذا اعترت الأصولَ كان من شأنها أن تجر للفرع نقصًا يتطرق خِلقتَه؛ لأن الفرعَ سُلالةُ من الأصل، أو يتطرق عِرضَه، أو رمق عيون القوم إياه، إذا كانت نقائصُ الأصول مِمَّا يُذَمُّ به الأصلُ في عرف البشر أو عرف القبيلة، كعدم الحصانة في الأمهات وخسة الفعال في الآباء، كما أشرنا إليه آنفا.
وأما الأغلاطُ الاعتقادية والعلمية، فهي أشياء تتعلق بالتفكير، وهو حركةُ النفس في المعقولات. وتلك من الانفعالات النفسية المتجددة والمتغيرة، وليست من أصل الخلقة. ألا ترى أنها تقبل الإيجادَ والاضمحلالَ والزيادةَ والنقصان، بحسب البيئة والتعليم وحسن التلقِّي وصحة العلوم والانكاب على التمحيص وبحسب أضداد تلك؟ فربما صدئت عقولٌ نابهةٌ ذكية بسبب الإعراض عن استعمال ذكائها، وربما ثَقِفت عقولٌ بطيئة بقوة الكد والانكباب. فعلمنا من ذلك أن الأعراضَ الفكرية لا ينجر مفعولُها من الأصل إلى فرعه، ولا يثبت حكمُها إلا لصاحبها خاصة.
فالنظرُ إلى الحالة الاعتقادية في أزمان الجاهلية إن كان من توقُّعِ تطرق النبز للمتَّصِف بها، فأهلُ الجاهلية كانوا يَعُدُّون الذين اعتقدوا اعتقادَهم من كُمَّل سادتهم، فلا يُتوقع منهم أن ينبزوا الرسولَ عليه السلام بتقدير كون بعض آبائه كانوا يعتقدون اعتقادَ الجاهلية. وإن كان من جانب توقُّع غضِّ نظر المسلمين، فالمسلمون قد تقرر في قلوبهم من جلالة قدر الرسول عليه السلام وفضله ما لا يخالجهم معه خاطرٌ من خواطر التنقيص، [قال تعالى: ] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128].
وأما من جانب الحقائق، فتنقيصُ المرء لأحوال أصوله تنقيصٌ وهمي، إذ الحقيقةُ لا تسمح بأن يوصف أحدٌ إلا بما فيه. والأمورُ الوهمية إنما تظهر آثارُها في العالم الدنيوي، وأما العالم الأخروي فهو عالَم الحقائق، فلا يُنتقص المرءُ فيه
بالأحوال الإضافية المنجرة من غيره: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. فالزكاء الأخروي لا يُؤْثِرُ وجودُه ولا عدمُه شرفًا في الدنيا والآخرة قبل مجيء الشريعة؛ إذ التديُّن بدين باطل أو بالكفر والشرك لا ينافي كرمَ العنصر ولا شعارَ السؤدد. فكمْ مِنْ سادةٍ وكرامٍ وقادةِ أممٍ كانوا في العرب وغيرهم بلغوا من شرف المحتد ومرتقى السُّؤدد مبلغًا بعيدًا، ولم يكونوا متقلِّدين دينًا صحيحًا! وكم مِنْ صالحي قوم وطلاب نجاة كانوا ضعفاءَ لا يُؤبه بهم، وقد قال قومُ شعيب له:{وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)} [هود: 91]. وكان حاتم الطائي وهرم بن سنان وعبد الله بن جدعان من أكبر سادة العرب من المشركين.
وفي الحديث: "الناسُ معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارُهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام". (1) فلو كان آباءُ رسول الله أو بعضُهم على دين العرب في الجاهلية كما كان آباء أفاضل المسلمين من الصحابة، لما كان ذلك مُخِلًّا بما يثبت لهم من كرم العنصر وشرف السؤدد ولا منقصًا من قدر الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن عِظَمَ قدر الرسول وكرامته على ربه زَوَتْ له من عند ربه الكريم جميعَ ما به التفاضل والاعتبار، فضم إلى كرم عنصره في الدنيا شرفَ آبائه في الآخرة. والشرف الأخروي يتقوَّم بالنجاة من العذاب وبرفع الدرجات في دار الثواب.
ولعلماء الإسلام في تحقيق مقام آبائه صلى الله عليه وسلم من هذا الشرف أقوال، فكأن جماعةً قليلة نظرت إلى ما يقتضي أن هذا الشرفَ لا ينتفع به غيرُ صاحبه، وليس هو كالشرف في الدنيا يعد عدمُه أو الضعفُ فيه نقصًا بين أهلها. فمن أجل ذلك لم
(1) جزء من حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أكرمُ الناس؟ قال: "أتقاهم لله"، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: "فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله"، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: "فعن معادن العرب تسألونني؟ الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهوا"". صحيح البخاري، "كتاب أحاديث الأنبياء"، الحديث 3383، ص 566.
يغوصوا بالنظر، واتبعوا أدلةً ظاهرية، فقالوا إن آباء رسول الله الذين كانوا على دين قومهم [فهم](1) غيرُ ناجين يوم القيامة.
وهذا قولُ مَنْ يرى أن الإيمانَ بالله ووحدانيته واجبٌ بالعقل لا بالشرع، وهو قولُ جمهور الماتريدية وكافة المعتزلة. ورأوا أن شأنَ العرب كلِّهم في تلك العصور هو الشرك، وأن أحاديثَ كثيرةً دلت على عقوبة مشركي العرب على شركهم في الآخرة، وأن رسول الله قال لأعرابي سأله عن أبيه:"في النار". (2)
وأنا أجيبُ عن هذا بأنا لو سلَّمْنا أن الإيمان واجبٌ على الناس بدلالة العقل، فمَنْ أنبأنا بأن أبَوَيْ رسولِ الله وآباءَه كانوا على دين قومهم ولم يكونوا مِمَّنْ رفض عبادةَ الأصنام وتوخَّى الحنيفيةَ ما استطاع؟ وأنهم لم يكونوا يتظاهرون بذلك؛ إذ لا موجِب للتظاهر به إذ لم تكن لهم قدرةٌ على تقويم دين قومهم ولا شريعةٌ توجب عليهم تغييرَ المنكر؟
وربما كان التظاهرُ به يوجب نفورَ قومهم منهم، فيضيع بذلك كثيرٌ من مساعيهم لخير قومهم وعمارة كعبتهم، وليس وجود أحد في أمة تدين بالشرك يقتضي أن يكون الموجودُ بينهم هو على ملتهم.
وأما الحديث الذي رواه مسلم عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن أعرابيًّا سأل رسول الله عن أبيه فقال له: "في النار، فقال له: وأين أبوك يا رسولَ الله؟ قال: في النار"، (3) فقد أجاب عنه العلماء بوجوه أحسنُها أن الراوي - وهو حماد بن سلمة - رواه بالمعنى فغلط فيه؛ لأنه قد رواه معمر بن ثابت عن أنس أنه لمَّا قال
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2)
سيأتي تخريج الحديث بعد قليل.
(3)
وتمام لفظه: "عن أنس أن رجلًا قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: "في النار"، فلما قفى دعاه فقال: "إن أبي وأباك في النار"". صحيح مسلم، "كتاب الإيمان"، الحديث 347، ص 100. ومعنى فلما قفى: ذهب موليًا، وكأنه من القفا، أي أعطاه قفاه وظهره.
له: أين أبوك يا رسول الله؟ قال رسول الله: "حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار"، قالوا: ومعمر أثبت من حماد؛ فإن حمادًا تُكُلِّم في حفظه، وله أحاديث منكَرة، ولذلك لم يخرج له البخاري في الصحيح شيئًا. (1)
وكذلك روى الحديثَ ابنُ ماجه عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه بمثل ما رواه معمر عن ثابت عن أنس، (2) فيكون جوابُ رسول الله جرى على الأسلوب الحكيم على خلاف مقتضى الظاهر، فلا علاقةَ له بالمسؤول عنه فظنه حماد جاريًا على مقتضى الظاهر، ولم ير له وجهَ اتصال بالسؤال عنه إلا أن يكون على معنى إفادة الحكم الخاص بوجه العموم فعبر عنه بما اقتضى أنه إخبارٌ بأن المسؤول عنه في النار. واعلم أن الحال الذي اقتضى إخراجَ جواب رسول الله على طريقة الأسلوب الحكيم وعدولَه عن صريح الجواب أنه رأى في جواب سؤاله ما يوجب إنكسارَ نفسه؛ لأن شأن الذي يصيبه ما يكره أن يشتد عليه إذا كان غيرُه ممن يظنه قد شاركه في المصيبة سالِمًا من تلك المصيبة.
وقيل في الجواب: إن السائل عنى بقوله: "أين أبوك؟ " أبا طالب، فإنه الذي يعرفه الناس وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُنسب إليه؛ لأنه كافله. ألا ترى أن قريشًا قالوا لأبي طالب:"قل لابنك يرجع عن شتم آبائنا"؟ (3)
(1) انظر في ذلك: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر: الحاوي للفتاوى (بيروت: دار الكتب العلمية، 1402/ 1982، مصور عن طبعة 1352)، ج 2، ص 256 - 257.
(2)
وتمام لفظه: "عَن الزهري، عَن سالم، عَن أبيه؛ قال: جاء أعرابِيٌّ إلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رَسُول الله، إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان، فأين هو؟ قال: "في النار". قال: فكأنه وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله، فأين أبوك؟ فقال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "حيثُما مررتَ بقبر مشرك، فبشره بالنار"، قال: فأسلم الأعرابي، بعدُ، وقال: لقد كلفني رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تعبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرتُه بالنار". سنن ابن ماجه، "كتاب الجنائز"، الحديث 1573، ص 224.
(3)
لم أجده بهذا اللفظ، ولكن ذكر ابن إسحاق أن قريشًا حين عرفوا أن أبا طالب مصمم على عدم خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: "يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى في قريش وأعلمه، فخده فلك عقله ونصره، واتخده ولدًا فهو لك، وأَسْلِمْ إلينا ابنَ أخيك هذا الذي قد خالف =
وذهب جماعةٌ إلى أن الحديث منسوخٌ بما دلَّ على عدم مؤاخذة أهل الفَتْرة، وهو بعيد؛ لأن النسخ لا يدخل الأخبار. والرسول على مقتضى تلك الرواية أخبر بأن المسؤول عنه في النار، فكيف ينسخ ما أخبر به؟ فلا يستقيم هذا الجوابُ إلا بتكلف.
فأما جمهور علماء الأمة - ونحن في زمرتهم - فقد أثبتوا لأبوي رسول الله وآبائه الشرفَ الأخروي، ولهم في ذلك ثلاث مراتب:
1 -
المرتبة الأولى أنه شرف النجاة من خزي يوم القيامة بأن يكونوا ناجين من عذاب النار، وذلك بأنهم على دين قومهم أو بعضه، ولكنهم غير مؤاخَذين على ذلك؛ لأنهم لم يأتهم رسولٌ بشرع فيكفروا به حتى يحقَّ عليهم عذابُ الكافرين بالرسل؛ لأن الله تعالى يقول:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]. والمراد بالرسول هو معناه المعروف في اللغة، ومَنْ تأَوَّله بما يشمل دلالةَ العقل فقد خرج عن مهيع اللغة، على أنه يصادمه قولُه:"نبعث" إذ العقل لا يُبعث.
ومما نوقن به أن آباءَ رسول الله وأمهاتِه كانوا كلُّهم من أهل الفترة، إذ لم يقم في العرب العدنانية رسولٌ بعد إسماعيل عليه السلام، فإن الرُّسُلَ الذين جاؤوا بعدُ في العرب هم هود وصالح - أرسلَا إلى عاد وثمود من العرب القحطانيين - وشعيب - أرسل لأهل الرَّس وهم بقية من ثمود - وخالد بن سنان العبسي - أُرسل إلى عبس خاصة من العدنانيين، وقيل: هو نبي وليس برسول.
= دينَك ودين آبائك، وفرَّق جماعة قومك، وسفَّهَ أحلامَهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل. فقال: والله لبئس ما تسومونني! أتُعطونني ابنَكم أغذوه لكم، وأُعطيكم ابني تقتلونه؟ والله لا يكون هذا أبدا". ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 1، ص 213 - 214. وانظر كذلك السهيلي: الروض الأنف، ج 2، ص 6؛ الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج 2، ص 323. ولكن ذكر السيوطي - دون بيان مصدره - "أن إطلاق ذلك على أبي طالب [يعني لفظ الأب بالنسبة للنبي عليه السلام]، كان شائعًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كانوا يقولون له: قل لابنك يرجع عن شتم آلهتنا". الحاوي للفتاى، ج 2، ص 227.
فمَنْ كان يُعَدُّ من آباء رسول الله بعد الذين أدركوا إسماعيل فهم أهل فترة. وقد قال جمهور علماء السنة والأئمة الثلاثة - مالك والشافعي وأحمد - والأشاعرة كلُّهم وأهل بخارى من الماتريدية: إن أهل الفترة غير مؤاخَذين على الجهل بالله وبوحدانيته، لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]، وردوا أو تأوَّلوا جميعَ الآثار الدالة على خلاف هذا الأصل. وقال المالكية: إنها أخبارُ آحاد لا تعارضُ قواطِعَ الاعتقاد، وإذا بطل استحقاقُ العذاب لم يتحقق الوعيدُ في شأنهم. فقيل: إنهم غيرُ معذَّبين ولا مثابين - وهو ظاهرُ كلام المحدثين، ثم يقع امتحانُهم فيدخلون الجنة. وقيل: يدخلون الجنة دون امتحان، وهو منسوبٌ لأهل الأصول من الأشاعرة وللشافعي في الأم. (1)
(1) انظر في ذلك: البيهقي، الاعتقاد، ص 76 - 77؛ ابن كثير: عمدة التفسير، ج 2، ص 424 - 425. وقد قرر العلامة محمد الأمين الشنقيطي - بعد أن حكى مختلف الأقوال في المسألة مقرونة بما ساقه كلُّ فريق من أدلة على مذهبه - ضرورةَ الجمع بين الأدلة ما أمكن، ثم قال: "ووجهُ الجمع بين هذه الأدلة: هو عذرُهم بالفترة، وامتحانُهم يوم القيامة بالأمر باقتحام النار: فمن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يُصدِّق الرسلَ لو جاءته في الدنيا، ومن امتنع عُذِّب بالنار، وهو الذي يكذب الرسلَ لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل. وبهذا الجمع تتفق الأدلة، فيكون أهلُ الفترة معذورين، وقوم منهم من أهل النار بعد الامتحان، وقوم منهم من أهل الجنة بعده أيضًا، ويُحمل كل واحد من القولين على بعضٍ منهم علم الله مصيرهم، وأعلم نبيَّه صلى الله عليه وسلم، فيزول التعارض". الشنقيطي، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب نشرة بإشراف بكر بن عبد الله أبو زيد (مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، ط 1، 1426)، ص 198 - 199. وانظر له كذلك: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، نشرة بإشراف بكر بن عبد الله أبو زيد (مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، ط 1، 1426)، ج 3، ص 559 - 573. وقد قال المصنف عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]: "هذا استقصاء في الإعذار لأهل الضلال زيادةً على نفي مؤاخذتهم بأجرام غيرهم. ولهذا اقتصر على قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} دون أن يقال: ولا مثيبين؛ لأن المقام مقامُ إعذارٍ وقطعِ حجة، وليس مقامَ امتنان بالإرشاد. والعذاب هنا عذاب الدنيا بقرينة السياق وقرينة عطف:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16] الآية. ودلت على ذلك آياتٌ كثيرة، قال الله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ =
2 -
المرتبة الثانية أن شرفَهم الأخروي شرفُ الثواب على الإيمان بالله الواحد على حكم ما ثبت لمن خلع الشرك من أهل الفترة، مثل أمية بن أبي الصلت (1) وزيد
= إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)} [الشعراء 208، 209]، وقال:{فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)} [يونس: 47]. على أن معنى "حتى" يؤذن بأن بعثة الرسول متصلةٌ بالعذاب شأن الغاية، وهذا اتصالٌ عرفي بحسب ما تقتضيه البعثة من مدةٍ للتبليغ والاستمرار على تكذيبهم الرسول والإمهال للمكذبين، ولذلك يظهر أن يكون العذاب هنا عذاب الدنيا وكما يقتضيه الانتقال إلى الآية بعدها. على أننا إذا اعتبرنا التوسعَ في الغاية، صح حملُ التعذيب على ما يعم عذابَ الدنيا والآخرة. ووقوع فعل "معذبين" في سياق النفي يفيد العموم، فبعثة الرسل لتفصيل ما يريده الله من الأمة من الأعمال. ودلت الآيةُ على أن الله لا يؤاخذ الناسَ إلا بعد أن يرشدهم، رحمةً منه لهم. وهي دليلٌ بيِّنٌ على انتفاء مؤاخذة أحدٍ ما لم تبلغه دعوةُ رسولٍ من الله إلى قوم، فهي حجةٌ للأشعري ناهضةٌ على الماتريدي والمعتزلة الذين اتفقوا على إيصال العقل إلى معرفة وجود الله، وهو ما صرح به صدرُ الشريعة في التوضيح في المقدمات الأربع. فوجود الله وتوحيده عندهم واجبان بالعقل، فلا عذر لمن أشرك بالله وعطل، ولا عذر له بعد بعثة رسول. وتأويلُ المعتزلة أن يراد بالرسول العقل تطوُّحٌ عن استعمال اللغة وإغماضٌ عن كونه مفعولًا لفعل "نبعث"؛ إذ لا يقال بعث عقلًا بمعنى جعل". تفسير التحرير والتنوير، ج 7/ 15، ص 51 - 52. وراجع ما قاله عند تفسير قوله تعالى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. المرجع نفسه، ج 4/ 6، ص 42 - 43.
(1)
هو أمية بن أبي الصلت بن عوف بن عقدة بن عنزة بن قسي، وأبوه هو عبد الله بن أبي ربيعة. ووالدته هي رقية بنت عبد شمس. كان أمية من بيت عرف بالشعر، فأبوه شاعر، وولداه القاسم وربيعة كانا شاعرين. اختلف في ديانته؛ فقيل: كان على اليهودية، وقيل: تنصر، وقيل: كان على الحنيفية. وقد كان على اطلاع على الأسفار المقدسة لليهود وعلى الإنجيل. وشعره طافح بمعاني دينية توحيدية، وفيه اقتباسات كثيرة من الكتب المقدسة لليهود والنصارى وخاصة الإنجيل. وقد عده الأب لويس شيخو اليسوعي من شعراء النصرانية قبل الإسلام. والمؤكد أنه كان حنيفيًّا، ويشهد لذلك الكثير من شعره، ومنه قولُه:
كُلُّ دِينٍ يَوْمَ القيَامَة عنْدَ اللَّـ
…
ـهِ - إلَّا دينَ الحَنِيفَةِ - زُورُ
وقال أبو الفرج الأصفهاني: "كان أمية بن أبي الصلت قد نظر في الكتب وقرأها، ولبس المسوح تعبدًا، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية، وحرم الخمر وشك في الأوثان. وكان محققًا، والتمس الدين وطمع في النبوة؛ لأنه قرأ في الكتب أن نبيًّا يُبعث في العرب، فكان يرجو أن يكونه". الأغاني، ج 2/ 4، ص 92. وقيل إنه قصد النبي عليه السلام يريد أن يسلم، فصده جماعةٌ من =
ابن عمرو بن نفيل. (1) فإذا كانوا كذلك، ثبتت لهم النجاةُ والثوابُ على قول جميع علماء الإسلام. وبهذا قال الإمامُ فخرُ الدين الرازي وجماعةٌ من العلماء، منهم جلال الدين السيوطي والقسطلاني، وهو قول الشيعة.
وأنا أستروح لهذا دليلًا من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)} [الزخرف 26 - 29]، فأثبت أنَّ كلمةَ التوحيد بقيت في عقب إبراهيم، أي لم تنقطع، فلم تزل يحفظها حافظٌ من عقبه.
وقوله: "لعلهم يرجعون"، أي: رجاء أن يرجع مَنْ لا يعلمها إلى مَنْ يعلمها، فلا ينقطع ذلك من عقب إبراهيم. والإشارة والضمير عائدان إلى العرب بقرينة السياق وبقرينة قوله:{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف 30، 31].
وهذه كلُّها مقالةُ العرب، وآباء العرب يشملون جميعَ آباء جميعهم، ما عدا آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه غيرُ داخل في الإشارة. ومعنى تمتيعهم وآبائهم تمتيعُهم بكفِّ
= قريش محتجين بما جرى لعتبة وشيبة ابني خاله ربيعة وما جرى لهما في بدر، فارتد على عقبيه وأنشأ قصيدة طويلة في رثائهما. انظر مزيدًا من التفاصيل حول ذلك فيما كتبه محققو ديوانه في تقديمهم له في: ديوان أمية بن أبي الصلت، تحقيق سجيع جميل الجبيلي (بيروت: دار صادر، ط 1، 1998)؛ وكذلك شرح ديوان أمية الصلت، نشرة بعناية سيف الدين الكاتب وأحمد عصام الكاتب (بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة، بدون تاريخ). هذا وقد ذكر ابن سلام - بعد أن حكى ما كان من شأن أمية في الاهتمام بأمر الدين - أن من آخر ما قاله وهو ينازع:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا
…
وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلمَّا
الجمحي: طبقات الشعراء، ص 103.
(1)
سبقت ترجمته.
مؤاخذتهم، فيُؤخذ من عرض هذا الكلام وفحواه أن آباء محمد صلى الله عليه وسلم من العقب الذين بقيت فيهم كلمةُ التوحيد في مدة الفترة ولم يكونوا ممتعين. ولا يقال: لعل الذين بقيت فيهم كلمةُ التوحيد هم بنو إسرائيل؛ لأنا نقول: هذا القول ينافي سياقَ توبيخ العرب والتعريض بهم والتعليل.
وهذا الدليل أحسنُ وأقرب من احتجاج بعض العلماء بقوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} [الشعراء: 219] على أحد تفسيرين، وهو تفسير بعيدٌ ولا حاجةَ إلى بيان ذلك، فراجعه. (1) ويعضد هذا المسلكَ في هذه المرتبة ما ورد من الآثار المتظافرة التي يقويِّ بعضُها بعضًا أن عبد المطلب وهاشِمًا وعبد مناف وقُصَيًّا وكعبًا وكنانة وخزيمة ومدركة وإلياس ومضرًا وعدنان كانوا مؤمنين على دين إبراهيم، وأن عبد المطلب وقصيًّا حرَّما الخمر على أنفسهما، وأوصى قصيٌّ أبناءَه بترك شربها وترك عبادة ما سوى الله تعالى. فهؤلاء ثبت فيهم آثارٌ رواها السهيلي وغيره. (2) والمسكوتُ عنهم من سلسلة الآباء لا يُظَنُّ بهم إلا أنهم كانوا على دين إبراهيم، لا سيما مَنْ تجاوز عدنان؛ فإن قربَهم إلى إسماعيل وإبراهيم يقوِّي الظنَّ بإيمانهم بدين أبويهم.
3 -
المرتبة الثالثة أن يكون شرفُهم في الآخرة بنيل فضيلة صالحي المسلمين من أتباع هذا الدين المحمدي. وهذه المرتبة لم يدلَّ عليها دليلٌ من صحاح الآثار، وإنما رُوي فيها حديثٌ عن عائشة رضي الله عنها خاص "بأن الله أحيا لرسول الله
(1) والتفسير المشار إليه والذي وصفه المصنف بالبعد هو ما رُوي عن ابن عباس أن معنى {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} تقلبُه في ظهور الآباء وأصلابهم، من آدم ونوح وإبراهيم، حتى أخرجه الله تعالى نبيًّا. النحاس، أبو جعفر: معاني القرآن الكريم، تحقيق محمد علي الصابوني (مكة المكرمة: معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، ط 1، 1410/ 1989)، ج 5، ص 107؛ القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 16، ص 85. وقد أضرب عن ذكره الطبري وابن عطية، فلم يورداه فيما ساقا من أقوال في تفسير الآية.
(2)
راجع تلك الآثار وتخريجها في فصل "زكاء هذا النسب" من هذا المقال.
أبويه حتى آمنا به"، رواه الخطيب البغدادي والسهيلي وابن عساكر والقرطبي وابن شاهين وابن المنيِّر والطبري وابن كثير. واتفق معظمُهم على أن سنده ضعيف، فيه مجاهيل، ومال بعضُهم إلى تصحيحه. (1) ووقع للبعض في هذا المقام تخليطٌ وخروجٌ عن دائرة مجاري البحث.
ونحن - على ما عاهدنا عليه من ترك التكلُّف وصَوْن العلم عن التحريف ويقينِنَا بأن الله أغنى أهل هذا الدين بصحيحه عن الضعيف - نقول الحق: إن هذا الحديث ضعيف، وإن نوالَ أبوي رسول الله فضيلةَ الإيمان لا تكون رهنًا على حالة إحياء أبويه الأقربين، بحيث إذا صح الحديث حقت وإذا ضعف بطلت. فإنا إذا جزمنا بأنهم كانوا على بقية من ملة إبراهيم، كان ذلك محصلًا لاستحقاقهما الثوابَ بفضل الله تعالى، وثبتت لهم فضيلةٌ قل أن شاركهم فيها مشارك.
(1) قال السهيلي: "ورُوي حديثٌ غريبٌ لعله يصح، وجدته بخط جدي أبي عمران أحمد بن أبي الحسن القاضي رحمه الله بسند فيه مجهولون، ذكر أن نقله من كتاب انتُسِخ من كتاب معوِّذ بن داود بن معوذ الزاهد، يرفعه إلى عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، أخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي له أبويه، فأحياهما له، وآمنا به، ثم أماتهما". الروض الأنف، ج 1، ص 299. وأورد ابن الجوزي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"حج بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فمر على عقبة الحجون، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه. ثم إنه نزل فقال: يا حُميراء استمسكي، فاستندت إلى جنب البعير، فمكث عني طويلًا، ثم إنه عاد إلي وهو فرح متبسِّم، فقلت له: بأبي أنت وأمي، نزلت من عندي وأنت باكٍ حزين مغتم، فبكيت لبكائك، ثم عدت إلى وأنت فرح مبتسم، فعَم ذا يا رسول الله؟ فقال: "ذهبت لقبر أمي آمنة، فسألت الله أن يحييها، فأحياها فآمنت بي، وردها الله عز وجل"". ابن الجوزي: كتاب الموضوعات، "كتاب الفضائل والمثالب"، الحديث 546، ج 2، ص 11 - 12. قال ابن الجوزي:"هذا حديث موضوع بلا شك، والذي وضعه قليلُ الفهم عديمُ العلم". وانظره بلفظ مختلف في: ابن شاهين، حفص عمر بن أحمد بن عثمان: الناسخ والمنسوخ من الحديث، تحقيق علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1412/ 1992)، الحديث 631، ص 284 - 285. وقال الحلبي:"وهذا الحديث قد حكم بضعفه جماعة، منهم الحافظ أبو الفضل بن ناصر الدين، والجوزقاني، وابن الجوزي، والذهبي في الميزان، وأقره ابن حجر في لسان الميزان، وجعله ابن شاهين ومن تبعه ناسخًا لأحاديث النهي عن الاستغفار، أي لها". إنسان العيون، ج 1، ص 155.
وإذا انفتح بابُ الفضل لم يبق إلا رفعُ الدرجات، فلِلَّه الاختيار في إكرامهم بأحسن ما يُكرَم به صالحو المؤمنين. فإذا كان الله قد أكرم مَنْ نصر رسولَ الله وأيده - وهم أهل بدر - فقال:"اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم"، (1) أفلا يُكْرِم مَنْ كان سببًا في ظهور رسوله وهم آباؤه وأمهاته؟ فإن كلَّ الأسباب الخاصة بالرسول مظاهرُ لعناية الله تعالى به، وكلُّها من عند الله، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، ولقد قال الله لرسوله:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5].
(1) جزء من حديث طويل من خبر حاطب بن أبي بلتعة عند فتح مكة. صحيح البخاري، "كتاب الجهاد والسير"، الحديث 3007، ص 496 - 497؛ "كتاب المغازي"، الحديث 4294، ص 723؛ صحيح مسلم، "كتاب فضائل الصحابة"، الحديث 2494، ص 972؛ سنن الترمذي، "كتاب تفسير القرآن"، الحديث 3305، ص 761.