الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكبر من رطل ونصف ولا أقل من رطل وربع. وقال بعضُهم: هو رطل وثلث، وليس هذا اختلافًا، ولكنه على وزانة المكيل من تمر أو بُرٍّ أو شعير". (1)
ضبط مقدار الصاع النبوي بوجه عام:
والسبب الجامع لهذه الحال هو فقدان المسلمين جامعةً إسلامية ترسم لهم أمورَ دينهم ويصدرون عن أمرها، وتفاقم ذلك بعد انحلال الخلافة الإسلامية وتشتت الممالك وتباعد الأقطار. لذلك كان واجبًا على علماء كلِّ قطر أن يحرروا مقدارَ الصاع النبوي على المكاييل المتداولة عندهم. وقد ضبط عبد الملك بن حبيب لذلك ضابطًا صالِحًا لسائر الأقطار، فقد نقل عنه القبابُ أن مقدارَ الصاع النبوي أربعُ حفنات باليدين جميعًا بكفِّ الرجل الذي ليس بعظيم الكفين، والمد حفنةٌ كذلك. وزاده شراحُ المختصر تقييدًا بأن تكون اليدان غيرَ مقبوضتين، ولا مبسوطتين. (2) ولا يخفى على عاقل أن أكُفَّ البشر لم تنقص عما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ادعى أحدٌ من العلماء الخائضين في هذا الباب تناقصَها.
ضبط مقدار الصاع النبوي بمكيال تونس الحالي:
الصاع النبوي لا خلافَ في أنه أربعةُ أمداد بالمد النبوي، وقد ضبط فقهاؤنا مقدارَه بضابط لا يتخلف، وذلك فيما حكاه ابنُ رشد في البيان والتحصيل من كتاب الزكاة في أجوبته أن المشهورَ أن المدَّ النبوي وزنُ رطلٍ وثلث، قال: "واختُلِف في قدر المد بالوزن، فقيل زِنَتُه رطلٌ وثلث وهو المشهور في المذهب؛ قيل بالماء، وقيل
(1) أورد المصنف كلام الحفار بتصرف جمعًا وتأخيرًا، فانظره في: الونشريسي: المعيار المعرب، ج 1، ص 399 - 400. وانظر للمقارنة: البيان والتحصيل، "كتاب زكاة الحبوب والفطر"، ج 2، ص 493 - 494.
(2)
الأزهري، صالح عبد السميع الآبي: جواهر الإكليل شرح مختصر العلامة الشيخ خليل (بيروت: المكتبة الثقافية، مصور عن نشرة مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر، 1347 هـ)، ج 1، ص 142.
بالوسط من البر". (1) وقد جزم الشيخُ ابن أبي زييد في الرسالة في باب الوضوء على أن التقدير بالماء إذ قال: "وقد توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمد"، (2) وهو وزن رطل وثلث، فتعين أنه اختار أن الوزن بالماء، فيكون ترجيحا.
قال فقهاؤنا الرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية عشرة دراهم وثلثا درهم من الدرهم الذي ضُرب في مدة عبد الملك بن مروان. وقد جعل وزنه ستةَ دوانق، والدانق ثماني حبات وخُمُسَا حبة من وسط الشعير، فوزن الدرهم خمسون حبة وخُمُسَا حبة من وسط الشعير. وشرطوا أن يكون كلُّ شعيرة منها مقطوعةَ الطرفين الزائدين على حجم الحبة. (3)
وإنِّي قد وزنتُ هذا العددَ من الشعير على الصفة المذكورة، فكان ثلاثة غرامات بميزان اليوم. كما وزنت درهمًا عتيقًا ضُرب في صدر الدولة العباسية وهو عندي، فوجدته ثلاثة غرامات أيضًا. وبذلك تحقق أن الدرهم الشرعي يزن ثلاثة غرامات بميزان تونس اليوم، فتكون الأوقية الشرعية اثنين وثلاثين غرامًا، ويكون المد النبوي الذي هو أربعة أمداد يزن ألفين وثمانية وأربعين غرامًا، وذلك من الماء.
(1) ابن رشد: البيان والتحصيل، "كتاب زكاة الحبوب والفطر"، ج 2، ص 493.
(2)
القيرواني، أبو محمد عبد الله بن أبي زيد: الرسالة الفقهية مع غرر المقالة في شرح غريب الرسالة (للمغرواي)، تحقيق الهادي حمو ومحمد أبو الأجفان (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 2، 1997)، ص 87. وهذا القول لابن أبي زيد جاء في "باب طهارة الماء والثوب. . ." لا في باب الوضوء، وهو جزء من كلام طويل ينطوي على توجيه تربوي لطيف لعله من النافع جلبه هنا، قال: "وقلة الماء مع إحْكام الغَسْل سنة، والسرف منه بدعة، وقد توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمد وهو وزن رطل وثلث، وتطهر بصاع وأربعة أمداد بمده عليه الصلاة والسلام".
(3)
قال الفقهاء يسمى هذا الدرهم درهم الكيل؛ لأنه الذي به تُقَدَّر المكاييلُ الشرعية من أوقية ورطل وصاع ومد، ويسمى الدرهم المكي. والظاهر أنهم سموه بهذين الاسمين بعد أن تعددت أنواع الدراهم ودخلت فيها الزيوف. - المصنف.
ومن المعلوم أن ميزان الليترة التي هي وحدة المكاييل التونسية في هذا الزمان هو ألف غرام من الماء المغلَّى، فيكون الصاعُ النبوي يسع ليترتين ونصفَ عُشُر الليترة، وهذا مما لا مريةَ فيه. ثم إنا اعتبرنا هذا بضابط ابن حبيب، فكِلْنَا أربعَ حفنات بكفَّيْ رجل متوسِّط اليدين غير مقبوضتين ولا مبسوطتين، فوجدنا ذلك يعادل ليترتين ونصف عُشُر الليترة. وقد صدرت الفتوى مني بتقدير الصاع النبوي بهذا المقدار من عام 1344 هـ وهلم جرًّا، ونُشِرت بجرائد تونس وبمصر وبجرائد ومجلات المغرب والمشرق في عدة سنين، وتلقاها أهلُ العلم بالقبول.
أما الصاع المستعمل في تونس قديمًا قبل تصيير مكاييلها إلى وحدة الليترة، فقد تردد بعضُ أهل العلم من التونسيين في نسبته من الصاع النبوي. فرأيتُ للعلامة القاضي الشيخ إسماعيل التميمي (1) في جواب له من خمس مسائل سئل عنها، منها تعيين ما يلزم في زكاة الفطر بصاع تونس، فأجاب بقوله:"الذي سمعناه من شيوخنا أن الصاع النبوي، هو بكيل تونس صاعٌ وثلثُ صاع. واختبرته بِمُدٍّ عندي فوجدته صحيحًا، واختبروه أنتم إن شئتم بالحفنات. نقل القباب عن ابن حبيب أن الصاعَ النبوي أربعُ حفناتٍ باليدين جميعًا بكف الرجل الذي ليس بعظيم الكفين". (2)
وظاهرُ هذه العبارة أن الصاع النبوي يَعْدِل صاعًا وثلثًا تونسيًّا، فإذا كان ذلك مرادَه، كان الشيخُ غيرَ متحققٍ مقدارَ الصاع من صاع تونس؛ لأنه ذكر أنه اختبر صاع تونس بِمُدٍّ عنده، ولم يثق بصحة تقدير المد الذي عنده حتى يجعله أصلًا يُرجَع إليه. فلذلك أحال السائلَ على اختبار ذلك بنفسه، وعلى الرجوع إلى التقدير بالحفنات. ويحتمل أن يكون مرادُه أن الصاع النبوي إذا نُسب إلى صاع تونس كان
(1) هو العلّامة المحقق أبو الفداء إسماعيل التميمي، شيخ الإسلام المالكي بتونس، توُفِّيَ سنة 1248 هـ/ 1832 م.
(2)
لم يتسن لنا الاطلاعُ على المسائل المشار إليها، ولا نعلم أنها طبعت. ولعل الله يقيض لها ولغيرها من الآثار العلمية المغمورة مَنْ يتولَّى تحقيقها وإخراجها للناس.
يعادل صاعٌ وثلثٌ منه صاعًا تونسيًّا، فيكون قوله "بكيل تونس"، أي بصاع تونس، وعلى كل حال فالشيخ غير متحقق.
ووقع في خطبة جمعة آخر رمضان من خُطَب العلامة شيخنا سيدي سالم بو حاجب (1) عند ذكر زكاة الفطر ما نصُّه: "وهي صاعٌ بصاع نبينا صلى الله عليه وسلم، أي أربعة أمداد، ويوافقه الصاع المعروف الآن بهاته البلاد". وهذا يخالفُ ما نقله الشيخ
(1) هو سالم بن عمر بن سالم بوحاجب، ولد سنة 1827 م بقرية بنبلة من قرى السّاحل التّونسي. نشأ نشأة قروية، وكان وقته موزعًا بين القيام بأعمال زراعية تناسب سنّه في ضيعة أبيه وحفظ القرآن وتعلم أصول الخط الكتابة. ثم انتقل إلى مدينة تونس العاصمة والتحق سنة 1842 م بجامع الزيتونة، حيث أخذ العلوم الشّرعيّة عن الشّيوخ محمد الخضار المالكي، ومحمد ابن الخوجة الحنفي، ومحمد النّيفر المالكي، أمّا علوم العربيّة فأخذها عن الشّيخين محمد حمدة ابن عاشور المالكي، ومحمد معاوية الحنفي. كان مبرزًا بين أقرانه، وكان ذا ذكاء حاد وفكر وقاد، ميالًا إلى التعمق في المسائل، الأمر الذي أكسبه تقدير شيوخه وإعجابهم. ولم يكن في تحصيله العلمي يقتصر على مجرّد حضور الدّروس التي كان يلقيها الشّيوخ، بل كان ذا دأب كبير على مطالعة أمّهات الكتب وأعاليها، مثابرًا على التنقيب والبحث في المسائل، حريصًا على ضبط المعاني والألفاظ. بدأ سالم بوحاجب التّدريس بجامع الزّيتونة سنة 1265/ 1848 واستمرّ في ذلك حتى سنة 1330/ 1911، فتخرجت عليه أجيالٌ من الدارسين منهم من صار من أبرز علماء الزيتونة كالمصنف. سُمِّي مفتيًا مالكيًّا سنة 1905 م، ثمّ رئيس المفتين المالكيين سنة 1919 م. وقبل ذلك قضى مدّة بأوروبّا - وخاصّة إيطاليا - من سنة 1873 م إلى سنة 1879 م مرافقًا للجنرال حسين في مهمة رسمية تخص ما عُرِف بقضية نسيم شمامة ضابط المالية العامة للدّولة التونسية الذي فر من البلاد بعد أن تورط في العديد من التجاوزات المالية. كان بوحاجب من حداة حركة الإصلاح التي شهدتها تونس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان أحد أقرب المقربين للوزير المصلح خير الدين باشا ومن أحرص المتعاونين معه في سبيل ذلك، وهو أهم من اعتمد عليهم خير الدين في تأليف كتابه الذائع الصيت "أقوم المسالك". لم يترك الشّيخ سالم بوحاجب من الآثار العلمية إلا إنتاجًا يسيرًا، حيث اقتصرت تآليفه على أختام الحديث على الموطإ والبخاري، ومنها شرح مخطوط على العاصمية في الفقه. وقد ذكر له بعض المؤرخين ديوان شعر في جزءين بخطّ يده، إلا أنه لا يعرف عنه شيءٌ حتى الآن. وقد عرف بوحاجب بقوة تأييده لكل مظاهر حركة الإصلاح وإسهامه في أوجه نشاطها، ومنها إنشاء جريدة الحاضرة سنة 1888 م وتأسيس الجمعية الخلدونية عام 1897 م، وغيرها. توفِّيَ الشّيخ سالم بوحاجب بالمرسى بضاحية مدينة تونس في 14 من ذي الحجّة 1342/ 16 يوليو 1924.