الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جواز القرض برهن
(1)
السؤال: قد جرت عادة أرباب معاصر الزيتون بغالب جهات المملكة بأن يقرضوا شيئًا من المال لمالكي الزياتين، وهؤلاء يلتزمون بعصر غلة زياتينهم بماكيناتهم. وبعد العصر يطرح بقيمة المال المقترض زيتًا من المتحصل. كما جرت العادة - أيضًا - بأن يقرضوا لطائفة من تجار حب الزيتون مقدارًا من المال، وفي مقابل ذلك يكونون ملتزمين بعصر ما اشتروه من الحب في معصرة المقرض، ومن متحصل الزيت يسترجعون مالهم الأصلي مع معين كراء العصر، وفي بعض الأحيان يزيد المقترض من ماله الخاص في صورة ما إذا لم يوف متحصل الزيت بالخلاص. وحيث إن ظاهر فقه هذه المسألة هو باب سلف جر نفعًا، فالمرغوب إفتاؤنا في ذلك.
الجواب:
إن هذه المعاملة على الوجه المذكور إذا وقعت عن رغبة من مالك غلة الزيتون، سواء كان مالكَ الأصل أو خضارًا أو تاجرًا في الغلة، لاحتياجه إلى المال ليكمل به أعماله الفلاحية أو التجارة، فدفع له صاحبُ المعصرة (الماكينة) مالًا واشترط عليه أن يأتيَه بمتحصل الغلة، سواء كان معيَّنَ المقدار أو غير معين ليعصر في معصرة المقرض بالأجر المتعارف دون زيادة لأجل القرض، فهذه المعاملة من قبيل القرض، أي السلف، وهي جعلُ غلة الزيتون توثقةً لذلك القرض، فيصير مسمَّى هذه المعاملة هو مسمى القرض برهن؛ إذ العقود تُعطى الأسماء الشرعية باعتبار المسميات والمواهي.
(1) المجلة الزيتونية، المجلد 1، الجزء 4، شوال 1355/ نوفمبر 1936 (ص 182 - 185).
وغلال الزيتون يجوز رهنُها، ولا يضر عدمُ تحقق المقدار المتحصل؛ لأن الغرر في الرهن مغتفر. ولا يضر عدمُ حوزها في وقت القرض؛ لأن الرهن ينعقد ولو تأخر قبضُ المرهون، (1) فإن الغلة لا تحاز مرة واحدة، بل تُجنى بعد النضج بطنًا بعد بطن. وحيث كانت غلة الزيتون إنما تُقصد لزيتها، فالمقصود من التوثقة هو الزيت الحاصل من عصرها، فلذلك لزم أن يكون عصرُ الغلة عند المقرض تحقيقًا لمبادرة الحوز بقدر الإمكان.
ثم إن محل النظر ومناط السؤال هو ما في هذه المعاملة من انجرار منفعة لصاحب المعصرة الذي هو المقرض، وهي منفعةُ أجرة عصر ذلك الزيتون في معصرته. فإذا نظرنا إلى هذه الأجرة وجدنا المقترض لا مندوحةَ له عن دفعها، سواء عصر في معصرة مقرضه أم في معصرة رجل آخر. ولو قدرنا أن هذا المقترض لم يقترض، ولم يرغب في عصر زيتونه وباعه حبًّا، فلا شك أنه يبيعه بثمن ناقص عن ثمن الزيت نقصًا بنسبة ما يزاد في ثمن الزيت من مصاريف العصر والخزن، وهذا أمر معلوم. فهذه الأجرة من هذا الوجه غيرُ مسبَّبة عن القرض، بل هي مسببة عن وجود غلة الزيتون، وناشئة عن ثمنها، وكائنة فيه تقديرًا. فهي في هاته الحالة منفعة للمقرض لا مضرة فيها على المقترض، ولم يتكلفها لأجل القرض.
ثم إنا نجدها راجعةً إلى المقترض في مقابلة عمل العصر ومصاريفه، فالمقترض من هذه الجهة كواحد من الناس الذين يعصرون في تلك المعصرة، فلم تبق فيها من فائدة للمقرض إلا فائدة تحقق وجود مقادير من الزيتون لتشغيل معصرته. ولو كلف المقرض أن يعصر زيتون المقترض بدون أجر لكان ذلك ضررًا يدخل على المقرض لما تستدعيه المعاصرُ من نفقات وأجور الخدامة، فتبين من هذا أن في مثل هذه المعاملة منفعتين:
(1) قال المازري: "اختلف الناس في لزوم الرهن بالقول دون القبض، فذهب مالك رحمه الله أن الرهن يلزم بالقول ولا يفتقر كونه عقدًا لازمًا إلى القبض". المازري: شرح التلقين، ج 8، ص 366. وانظر الدردير: الشرح الكبير، ج 3، ص 232.
1 -
منفعة تنجر للمقترض، وهي سهولةُ وجدان مَن يقرضه المال بدون إعنات ولا مراباة، ولولا هذا الشرط لما وجد مَنْ يقرضه إلا المرابين المفحشين. فبهذه المعاملة تنجرُّ له الأرباحُ الناتجة عن عمل زيتونه، ويسلم من مخالب المرابين ومن إثم المعاملات الربوية، وهذه منفعةٌ ضعيفة للمقترض.
2 -
ومنفعة حاصلة للمقرض، وهي وجدانُ ما يشَغل به معصرتَه بانتظام، وهذه منفعة عظيمة في جانب المنفعة الحاصلة للمقترض، لما تقدم من أن صاحب المعصرة لا يعدم من يعصر في معصرته بدون هذه المعاملة، إلا أن ذلك لا ينتظم أو لا يطرد.
فصارت هذه المنفعةُ من منافع السلف المشتركة بين المقرض والمقترض. وإذا كانت المنفعةُ المنجرة عن السلف مشتركةً بين المقرض والمقترض، ففي المذهب المالكي خلافٌ في جوازها، وإليها أشار ابن الحاجب في مختصره وخليل في شرحه المسمى بالتوضيح، ولنذكر كلامهما ممزوجًا المتن بالشرح، قال:"وشرطه (أي القرض) أن لا يجر منفعةً للمقرض، (1) أي سواء تمحَّضت للمقرض أو اشترك فيها مع المقترض، أعني أن تكون المنفعةُ لهما على السواء، أو منفعة المقرض أكثر. وأما إذا كانت منفعةُ المقترض أكثر، فسيتكلم عليها [المصنف]، (2) أي في قوله الآتي: وفي سلف السايس (3). ثم قال: "وفي سلف السايس بالسالم في زمن المسغبة، والدقيق والكعك للحاج بدقيق في بلد بعينه قولان، (4) والمشهور المنع في المسألتين، والشاذ لسحنون"، (5) أي بالجواز، "وقيد اللخمي المشهورَ بما إذا لم يقم دليلٌ على إرادة نفع المستسلف فقط، وأما إذا قام فيجوز". (6)
(1) ابن الحاجب: جامع الأمهات، ص 232.
(2)
المالكي: التوضيح، "كتاب السلم"، ج 6، ص 64.
(3)
أي الذي أصابه السوس، يقال: حب مسوس للذي دخله السوس.
(4)
ابن الحاجب: جامع الأمهات، ص 232.
(5)
حكاه عنه ابن حمديس كما ذكر صاحب الجواهر الثمينة، ج 2، ص 565.
(6)
المالكي: التوضيح، "كتاب السلم" ج 6، ص 65.
وأصلُ المسألة في تبصرة اللخمي في باب بيوع الآجال، ونصُّه:"قال مالك في الحاج يتسلف الدقيق أو السويق أو الكعك يحتاج إليه، ويقول: أُوفِيكَهُ بموضع كذا ببلد آخر، لا خيرَ فيه. ولكن يتسلف ولا يشترط، وقال سحنون في الحمديسية (1): لا بأسَ بذلك للحاج ونحوه للضرورة، ولولا الشرط لم يسلفه، وهو أحسن". (2)
وقصدهم من المنفعة المنجرة للمقرض في هاتين المسألتين هي منفعة أخذ السالم مع كون السلف سائسًا، ومنفعة قبض الطعام في البلد الذي يريده المقرض دون أن يقبله في حيث يشاء المقترض.
ونحن إذا نظرنا إلى ما تشتمل عليه هذه المعاملةُ نجدها ترجع إلى اعتبار الحاجي القريب من الضروري، فإن خضَّارة غلة الزيتون تكثر حاجتهم إلى اقتراض المال لإقامة خدماتهم، وأصحاب المعاصر بحاجة إلى إيجاد الزيتون ليعصر في معاصرهم كل يوم لئلا تضيع نفقاتهم، وأجور عمال المعاصر في بعض الأيام التي لا يحلب لهم فيها الزيتون، فيؤول بهم ذلك إلى خسائر طائلة، ولو حرم أصحاب المعاصر من هذه المعاملة لأعرض أكثرهم عن هالته الحرفة، فيحل فيها غير المسلمين،
(1) لم يذكر المترجمون لسحنون كتابًا بهذا الاسم، والظاهر أنها رواية عنه نقلها تلميذه حمديس القطان؛ إذ إننا نصادف - أحيانًا - في أثناء بعض كتب المالكية - وخاصة في التوضيح لخليل بن إسحاق أقوالًا لابن القاسم عن مالك ولابن عبد الحكم ولسحنون نقلًا عن كتاب يدعى الحمديسية، لعله لأبي جعفر أحمد بن محمد الأشعري، المعروف بحمديس، والمتوفى سنة 289/ 901. التوزري العباسي: الفتاوى التونسية، ج 2، ص 1011 (الحاشية رقم 1).
(2)
مع أنه قد تم تحقيق الأجزاء المشتملة على كتب الصرف، والسلم الأول والثاني والثالث، وبيوع الآجال من تبصرة اللخمي في إطار رسالة علمية بجامعة أم القرى، إلا أنه لم يتيسر لي الاطلاعُ عليها لتوثيق ما نقله المصنف عن اللخمي. وقد ذكر خليل بن إسحاق المسألة في شرحه لكلام ابن الحاجب:"وفي سلف السايس بالسالم في زمن المسغبة، والدقيق والكعك للحاج بدقيق في بلد بعينه، قولان، قال: يتسلف ولا يشترط"، فقال:"وتصوُّرُ كلامه ظاهر، والمشهور المنعُ في المسألتين، والشاذُّ لسحنون. وقَيَّد اللخميُّ المشهورَ بما إذا لم يقُم دليلٌ على إرادة نفع المستسلِف فقط، وأما إن قام ذلك فيجوز". المالكي: التوضيح، "كتاب السلم"، ج 6، ص 65.
ويضطر أصحاب الزياتين إلى التعامل معهم وتلحق من ذلك أضرار شديدة تخل بالحاجي من ثروة المسلمين، لا حاجة إلى التطويل ببيانها فإنها لا تخفى.
ففي منعهم من هاته المعاملة إدخالُ أضرار عليهم، وليس في المنع من هاته المعاملة منفعةٌ لخضَّارة غلة الزياتين، بل تدخل عليهم من منعها أضرارٌ كثيرة. فكانت هاته المعاملة منفعة عظيمة للمقترضين، ومنفعة قليلة للمقرضين، وفيها مصلحةٌ عامة، وهي إعانة الناس على العمل وانتشال الخضارة من الاقتراضات الربوية.
ومراد سحنون بالضرورة الحاجة الأكيدة؛ لظهور أن إسلاف الحاج الكعك والدقيق ليس من الضروري بالمعنى الأصولي الذي هو حفظ أحد الكليات الخمسة، لظهور أن الحاج لم ينحصر قوته في تلك المعاملة، بل هو يرجع إلى الحاجي. ولو كان ضروريًّا بالمعنى المشهور لم يقع فيه خلاف، ولذلك اعترض ابنُ عرفة في مختصره على أبي الطاهر ابن بشير حكاية الخلاف في إسلاف القمح السائس بالسالم في المسغبة، قائلًا:"لم يحك غير ابن بشير في المسغبة إلا الجواز"، (1) يعني لأن المجاعة توجب الهلاك. وعليه فسحنون اعتبر الحاجة، فحكم بالجواز وألغى انجرار المنفعة. والقول المشهور نظر إلى انجرار المنفعة من السلف، ولم يعتبر الحاجة. ومدرك سحنون أقوى، ولذلك قال اللخمي: إن قول سحنون حسن.
فإذا تقرر هذا، فقد جرى عمل الناس في هاته المعاملة أخذًا وإعطاء على خلاف المشهور، بل على ما يجيزه سحنون، فلو وقع التقاضي في بعض هذه المعاملات لحكمنا بفسخها على المشهور. وأما في غير مقام التقاضي، فلا ينبغي التعرض للناس بإبطالها، لما تكررت به فتوى أبي سعيد بن لب أن ما جرى عليه عمل الناس وتقادم في عرفهم وعاداتهم ينبغي أن يُلتمس له مخرج شرعي على ما أمكن من وفاق أو
(1) لم يحقق ويطبع من "المختصر الفقهي" لابن عرفة إلا الجزء الأول الذي صدر عن دار الكتاب الجديد ببيروت سنة 2003 مشتملًا على كتابي الطهارة والصلاة، ولم يتهيأ لنا الاطلاع على مخطوطته، ولذلك تعذر علينا توثيق ما نقله المصنف منه.
خلاف؛ إذ لا يلزم ارتباط العمل بمذهب معين أو بمشهور من قول قائل، ولما حكاه المواق عن شيخه ابن سراج أنه إذا جرت عادة الناس بشيء ولم يكن متَّفَقًا على تحريمه، فليتركهم المرء وما هم عليه وليفعل في نفسه ما هو الصواب عنده.
ووجه ذلك أن حمل الناس على إبطال ما عملوا به يرجع إلى قاعدة تغيير المنكر، وشرك تغيير المنكر أن يكون الفعل مجمعًا على إنكاره بين علماء الأمة، فإذا كان عمل الناس جاريًا على قول عالم متبحر، فلا يتعرض لهم فيه بإبطال.
ملحق
المحْوَر الثَّالِث