الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ الله تَعَالَى:
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}
الآية.
•---------------------------------•
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد: أن الإنسان إذا أضاف النعمة إلى عمله وكسبه؛ ففيه نوع من الإشراك بالربوبية، وإذا أضافها إلى الله، لكنه زعم أنه مستحق لذلك، وأن ما أعطاه الله ليس محض تفضل، لكن لأنه أهل؛ ففيه نوع من التَّعلِّي والترفع في جانب العبودية.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} : الضمير يعود على الإنسان، والمراد به الجنس. وقيل: المراد به الكافر. والظاهر أن المراد به الجنس (2).
{لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} : فلا يشكر الله عز وجل ويعترف بنعمته، بل ينسب هذه النعمة إليه هو وإلى كده وكسبه، أو إلى آبائه وأجداده، وهذا كفر بنعمة الله وإعجاب بالنفس.
(1) القول السديد ص (157)، وانظر: حاشية كتاب التوحيد ص (324).
(2)
القول المفيد (2/ 280)، وإعانة المستفيد (2/ 193).
قَالَ مُجَاهِدٌ: «هَذَا بِعَمَلِي، وَأَنَا مَحْقُوقٌ بِهِ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «يُرِيدُ مِنْ عِنْدِي» . وَقَوْلُهُ: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} قَالَ قَتَادَةُ: «عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِوُجُوهِ المَكَاسِبِ» . وَقَالَ آخَرُونَ: «عَلَى عِلْمٍ مِنَ الله أَنِّي لَهُ أَهْلٌ» ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ:«أُوْتِيتُهُ عَلَى شرفٍ» .
•---------------------------------•
قول مجاهد أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (1)، بإسناد صحيح.
وأثر ابن عباس رضي الله عنه حكاه القرطبي في تفسيره (2)، بلفظ:«قال ابن عباس: على علم عندي بصنعة الذهب» .
وقول قتادة حكاه عنه القرطبي في تفسيره (3)، وذكره عدد من المفسرين ولم ينسبوه لأحد (4).
وهذه الآثار التي نقلها المؤلف هنا فيها ذم من ينسب العلم والفضل لنفسه، ويرى أنه أهل لعطاء الله وفضله، وأن ذلك بعمله واستحقاقه، وهذا نوع من الإشراك في الربوبية.
(1) جامع البيان (20/ 458).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (13/ 315).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (15/ 266).
(4)
ينظر: تفسير السمعاني (4/ 157)، غرائب التفسير (2/ 873)، زاد المسير (3/ 393)، مفاتيح الغيب (25/ 15)، تفسير النيسابوري (5/ 362)، فتح القدير (4/ 215).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ ثَلَاثَةً مِنْ بَنِي إِسرائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ بِهِ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ أَوِ البَقَرُ - شَكَّ إِسْحَاقُ - فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشراءَ، وَقَالَ: بَارَكَ الله لَكَ فِيهَا. قَالَ: فَأَتَى الأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ بِهِ، فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: البَقَرُ أَوِ الإِبِلُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا، قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.
•---------------------------------•
حديث أبي هريرة في الصحيحين (1)، والشاهد منه قول الرجل الذي كان أبرصَ، والرجل الذي كان أقرعَ، «وَرِثْتُ هَذَا المَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ» حيث لم ينسب الفضل لله تعالى.
وفي الحديث مسائل منها:
أولًا: بيان قدرة الله عز وجل بإبراء الأبرص والأقرع والأعمى من هذه العيوب التي فيهم بمجرد مسح الملك عليهم.
ثانيًا: أن الملائكة يتشكلون حتى يكونوا على صورة البشر، لقوله:«أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ» ، وكذلك الأقرع والأعمى، لكن هذا -والله أعلم- ليس إليهم وإنما يتشكلون بأمر الله تعالى. ويشهد لذلك ما جاء في الصحيح أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي.
(1) صحيح البخاري (4/ 171) رقم (3464)، وصحيح مسلم (4/ 2276) رقم (2964).
فَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصري، فَأُبْصر بِهِ النَّاسَ، فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصرهُ، قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا، فَأَنْتَجَ هَذَان وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ البَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الغَنَمِ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَد انْقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلاغَ لِيَ اليَوْمَ إِلَّا بالله ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ وَالجِلْدَ الحَسَنَ وَالمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ بِهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ: الحُقُوقُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ! أَلَمْ تَكُنْ أَبَرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللهُ عز وجل المَالَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا المَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصيرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
•---------------------------------•
ثالثًا: أن الملائكة أجسام وليسوا أرواحًا أو معاني أو قوى فقط.
رابعًا: جواز الدعاء المعلق، لقوله:«إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصيرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ» ، وفي القرآن الكريم قال الله تعالى:{وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7]. {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9].
وفي دعاء الاستخارة: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي» الحديث (1).
خامسًا: جواز التنزل مع الخصم؛ لأجل إفحام الخصم؛ لأن الملك يعلم أنه كاذب، ولكن بناء على قوله، وقد سبق بيان وروده في القرآن، ومنه أيضًا قوله تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه على هدى وأولئك على ضلال، ولكن هذا من باب التنزل معهم من باب العدل.
(1) أخرجه البخاري 1/ 391 رقم (1109).
قَالَ: وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كاَذِبًا فَصيرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ. قَالَ: وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وابْنُ سَبِيلٍ قَد انْقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِيَ اليَوْمَ إِلَّا بالله ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصركَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصري، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوالله لَا أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشيءٍ أَخَذْتَهُ لله، فَقَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضي اللهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ». أَخْرَجَاهُ.
•---------------------------------•
سادسًا: أن البركة لا نهاية لها، ولهذا كان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.
سابعًا: هل يستفاد منه أن دعاء الملائكة مستجاب أو أن هذه قضية عين؟
الظاهر أنها قضية عين، وإلا، لكان الرجل إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، وقال الملك: آمين ولك بمثله، علمنا أن الدعاء قد استُجيب.
ثامنًا: بيان أن شكر كل نعمة بحسبها، فشكر نعمة المال أن يبذل في سبيل الله، وشكر نعمة العلم أن يبذل لمن سأله بلسان الحال أو المقال.
تاسعًا: جواز التمثيل، وهو أن يتمثل الإنسان بحال ليس هو عليها في الحقيقة، مثل أن يأتي بصورة مسكين وهو غني وما أشبه ذلك إذا كان فيه مصلحة.
عاشرًا: ثبوت الإرث في الأمم السابقة، لقوله:«ورثته كابرًا عن كابر» .
الحادي عشر: أنه يجوز للإنسان أن ينسب لنفسه شيئًا لم يكن من أجل الاختبار؛ لقول الملك: إنه فقير وابن سبيل.