الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ قَوْلِ الله تَعَالَى:
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
.
•---------------------------------•
مقصود الترجمة بيان أَنَّ التوكل -الذي هو الاعتماد المطلق- عبادة من العبادات التي تصرف لله تعالى، وهو من أعظم العبادات، ومن أعلى مقامات التوحيد، وصَرْفُه لغير الله تعالى شركٌ أكبر مخرجٌ عن الملة.
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد: هو أَنَّ التوكل عبادةٌ يجب صرفها لله وحده، والتوكل على غير الله يعد قدحًا في التوحيد، بل نقضًا له، ووقوعًا في الشرك بالله تعالى (1).
ومناسبة الباب للأبواب السابقة: أَنَّ المصنف بدأ الباب السابق بالخوف من الله، والذي قبله بمحبة الله، ثم ثَلَّثَ بهذا الباب المتعلق بالتوكل، وهذه الأشياء الثلاثة يجمعها أنها من أعظم أعمال القلوب المرتبطة بعبادة الله تعالى، ولذلك ناسب أن يذكرها متتابعة على هذا النسق.
والتوكل: هو الاعتماد على الله في جلب المنافع، ودفع المضار.
قال السعدي رحمه الله: «التوكل على الله من أعظم واجبات التوحيد والإيمان، وبحسب قوة توكل العبد على الله يقوى إيمانه، ويتم توحيده» (2).
قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} مناسبة الآية لمقصود الترجمة من وجهين:
الأول: أن هذه الآية أمرت بالتوكل على الله وحده، ودلت على وجوبه، وأنه عبادة تصرف لله وحده، وصرفها لغيره شركٌ.
(1) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (2/ 60)، والملخص في شرح كتاب التوحيد ص (268).
(2)
القول السديد 91، 92.
وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} .
•---------------------------------•
والثاني: أنها جعلت التوكل شرط الإيمان؛ لأنه لا يصح إلا به، وما كان شرطًا للإيمان فهو عبادة (1).
والتوكل ينقسم إلى ثلاثة أقسام (2):
الأول: توكل عبادة وخضوع، وهو الاعتماد المطلق على من توكل عليه، وهذا خاص بالله؛ ومن صرفه لغير الله فهو مشرك شركًا أكبر.
الثاني: الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه وغير ذلك، واعتقاد أنه سبب رزقه مع اعتماد القلب عليه اعتمادًا غير مطلق، فإن كان مطلقًا فهو الشرك الأكبر، وإن كان غير مطلق فهو شركٌ أصغر.
الثالث: أن يعتمد على شخص فيما فوض إليه التصرف فيه، كما لو وكلت شخصًا في بيع شيء أو شرائه، وهذا لا شيء فيه؛ لأنه جعله نائبًا عنه.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} : المؤمنون الصادقون في إيمانهم (3).
{وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} : أي خافت، وفرقت (4).
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} : فيه إثبات أن الإيمان يزيد ويتفاضل كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وعليه إجماعهم حكاه الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم (5).
(1) ينظر: التمهيد لشرح كتاب التوحيد ص (376، 377).
(2)
ينظر: القول المفيد 2/ 89.
(3)
ينظر: تفسير البغوي (3/ 326)، والتوضيح الرشيد ص (295).
(4)
تفسير الطبري (11/ 28).
(5)
تفسير ابن كثير (4/ 12).
وَقَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
•---------------------------------•
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} : هذا محل الشاهد من الآية للباب، فهي مثل الآية التي قبلها:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23](1)، وفي الآيتين تقديم وتأخير، فالأصل تقديم الفعل وتأخير الجار والمجرور، والقاعدة تقول: إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، والقصر، والاختصار، فيكون المعنى أن التوكل خاص بالله مقتصر عليه، وصرفه لغيره شرك، وهذا هو وجه الدلالة من الآية.
قوله: {حَسْبُكَ اللَّهُ} : أي أن الله تعالى كافيك بالنصر والعون لك (2).
{وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : هذه فيها وجهان:
الأول: يكفيك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين؛ فتكون (مَن) في موضع نصب.
والثاني: يكفيك الله أن تتوكل عليه، ويكفيك المؤمنون أن تقاتل بهم؛ فتكون (مَن) في موضع رفع (3).
والصواب القول الأول (4).
ومطابقة الآية للترجمة: أن الله تعالى حَسْبُ من توكل عليه وكافيه وناصره؛ فدل ذلك على أن الله سبحانه أمر عباده بإفراده بالحسب؛ حتى يكون كافيهم من أعدائهم؛ وهذا هو التوكل عليه (5).
(1) إعانة المستفيد (2/ 62).
(2)
ينظر: بحر العلوم للسمرقندي (2/ 30).
(3)
النكت والعيون (2/ 331)، وتفسير السمعاني (2/ 277).
(4)
ينظر: القول المفيد (2/ 98)، وفوائد من شرح كتاب التوحيد ص (94).
(5)
ينظر: تيسير العزيز الحميد ص (431)، والتمهيد لشرح كتاب التوحيد ص (378).
وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} .
وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ» ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا لَهُ:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} الآية. رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
•---------------------------------•
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]: «أي كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش» (1).
ومناسبة الآية للباب: أنها دلت على وجوب التوكل على الله؛ لأن الله بالتوكل يحفظ عبده ويكفيه (2).
قوله: «وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ» أثر ابن عباس رواه البخاري والنسائي (3) كما ذكر المصنف.
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «وقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إن إبراهيم قالها حين ألقى في النار) قول لا مجال للرأي فيه؛ فيكون له حكم الرفع» (4).
«حَسْبُنَا اللهُ» أي: كافينا فلا نتوكل إلا عليه.
(1) بدائع الفوائد (2/ 239).
(2)
ينظر: الجديد في شرح كتاب التوحيد ص (302).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (6/ 39) رقم (4563)، والنسائي في السنن الكبرى (9/ 223) رقم (10364) من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس رضي الله عنه. وعزو المصنف للنسائي قد يوهم أنه في السنن الصغري وليس كذلك.
(4)
القول المفيد (2/ 97).
«وَنِعْمَ الوَكِيلُ» أي: نعم الموكل إليه المتوكل عليه (1).
قوله: (وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له
…
الحديث) هذا في نص القرآن لما انصرف أبو سفيان من أُحُد أراد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليقضي عليهم بزعمه، فلقي ركبًا، فقال لهم: إلى أين تذهبون؟ قالوا: نذهب إلى المدينة، قال: بلغوا محمدًا وأصحابه أنَّا راجعون إليهم فقاضون عليهم. فجاء الركب إلى المدينة، فبلغوهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] وخرجوا في نحو سبعين راكبًا، حتى بلغوا حمراء الأسد، ثم إن أبا سفيان تراجع عن رأيه وانصرف إلى مكة (2)، وهذا من كفاية الله لرسوله وللمؤمنين؛ حيث اعتمدوا عليه تعالى.
ومناسبة الأثر للباب: أن «حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ» ، وهي كلمة التفويض، تدل على التوكل على الله في دفع كيد الأعداء (3)، وصرفه لغير الله شرك.
(1) تيسير العزيز الحميد ص (433).
(2)
أخرجه ابن جرير في تفسيره 3/ 518، وذكره السيوطي في الدر المنثور 2/ 384، ونسبه لابن إسحاق، وابن جرير، والبيهقي في (الدلائل).
(3)
الملخص في شرح كتاب التوحيد ص (271، 272).