الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ الغُلُوَّ فِي قُبُورِ الصَّالِحِينَ
يُصيرُهَا أَوْثَانًا تُعْبَدُ مِنْ دُونِ الله
•---------------------------------•
قَصَد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة أمورًا:
الأول: التحذير من الغلو في قبور الصالحين.
الثاني: أن الغلو فيها يؤول إلى عبادتها.
الثالث: أنها إذا عبدت سميت أوثانًا ولو كانت قبور صالحين.
الرابع: التنبيه على العلة في المنع من البناء عليها واتخاذها مساجد، والأوثان هي المعبودات التي لا صورة لها، كالقبور والأشجار والعمد والحيطان والأحجار ونحوها، وقد تقدم بيان ذلك.
وأما العلاقة بين هذا الباب والذي قبله على وجه الخصوص: فهي أن الباب السالف يتحدث عن عبادة الله عند قبور الصالحين، وهنا يتحدث عن الغلو في قبورهم، ولا شك أن عبادة الله في هذه الأمكنة هو غلوٌّ في قبورهم، فبين البابين عمومٌ وخصوصٌ (2).
(1) الملخص في شرح كتاب التوحيد ص (178).
(2)
ينظر: القول السديد ص (96)، والقول المفيد (1/ 419).
رَوَى مَالِكٌ فِي المُوَطَّأ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» .
•---------------------------------•
«رَوَى مَالِكٌ فِي المُوَطَّأ» : هذا الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ من حديث عطاء بن يسار مرسلًا (1).
ولكن جاء موصولًا من وجهٍ آخر ثابت من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: «اللهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ اللهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» (2).
قوله: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» : هذا دعاء منه ألَّا يجعل قبره وثنًا تصرف إليه العبادة، كما كانت العرب تصلي إلى الأصنام وتعبدها.
وقد استجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، فمنع الناس من الوصول إلى قبره.
كما قال ابن القيم رحمه الله:
فَأَجَابَ رَبُّ الْعَالَمِينَ دُعَاءَهُ
…
وَأَحَاطَهُ بِثَلَاثَةِ الْجُدْرَان
حَتَى اغْتَدَت أَرْجَاؤُهُ بِدُعَائِهِ
…
فِي عِزَّةٍ وَحِمَايَةٍ وَصِيَانِ (3)
(1) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 172) رقم (85) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
والحديث ضعيف بهذا الإسناد؛ لأنه من رواية عطاء بن يسار مرفوعًا، وهو لم يدرك النبي عليه الصلاة والسلام، قال ابن عبد البر في التمهيد (5/ 41):«لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث على ما أخرجه يحيى سواء» .
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (12/ 314) رقم (7358)، وأبو يعلى في مسنده (12/ 33) رقم (6681)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (5/ 358) رقم (7822)، والحميدي في مسنده (2/ 224) رقم (1055)، وغيرهم، وإسناده لا بأس به.
(3)
نونية ابن القيم ص (252).
وقد أمر عمر رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقُطِعت؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة (1).
وقد روى أصحاب مالك عنه أنه كره أن يقول القائل: «زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم» ، وعلل وجه الكراهة بقوله:«اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» ، فكره إضافة هذا اللفظ إلى القبر لئلا يقع التشبه بفعل أولئك سدًّا للذريعة، وحسمًا للباب (2).
قوله: «اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَى قَوْمٍ» : «الأظهر أنه إخبار عما وقع في الأمم السالفة تحذيرًا للأمة المرحومة من أن يفعلوا فعلهم، فيشتد غضبه عليهم» (3).
«اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» : يعني بنوا عليها مواضع للعبادة، وتوجهوا إليها، وصلوا إليها، واتخاذ قبور الأنبياء مساجد من غلو الوسائل وذلك يصيِّر تلك القبور أوثانًا، فجمع عليه الصلاة والسلام بين ذكر الوسيلة، والتنفير منها.
وقد دل الحديث على أن اتخاذ القبور مساجد وسيلة لعبادة أصحابها، وذلك شرك مناف للتوحيد.
(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/ 100)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها ص (42، 43).
(2)
ذكره الْمُحِبُّ الطبري في القرى ص (629)، وينظر: تيسير العزيز الحميد ص (288).
(3)
مرقاة المفاتيح (2/ 628).
وَلابْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قَالَ: كَانَ يَلُتُّ لَهُمُ السَّويقَ فَمَاتَ، فَعَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ. وَكَذَا قَالَ أَبُو الجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ.
•---------------------------------•
«وَلابْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ» قول مجاهد رواه ابن جرير الطبري في تفسيره كما قال المصنف (1).
«كَانَ يَلُتُّ لَهُمُ السَّويقَ» : السويق هو دقيق الحنطة أو الشعير يحمص، ثم يطحن، ولتُّه: يعني خلطه بالسمن والتمر والماء ونحو ذلك، ثم يؤكل (2).
«فَعَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ» : يعني: أقبلوا على قبره، وواظبوا على زيارته، حتى عبدوه، وجعلوه إلهًا مع الله (3).
«وَكَذَا قَالَ أَبُو الجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ» :
هذا الأثر عند البخاري (4).
وهذا التفسير لمعنى اللات على إحدى القراءتين، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وأبي صالح:(اللاتَّ) بتشديد التاء (5).
والقراءة الأخرى قراءة جمهور القراء: اللات بالتخفيف، وهؤلاء قالوا: اللات بيت كان بالطائف تعبده قريش (6).
(1)(22/ 47).
(2)
ينظر: تيسير العزيز الحميد ص (289)، والقول المفيد (1/ 426).
(3)
ينظر: القول المفيد (1/ 426)، والملخص في شرح كتاب التوحيد ص (180).
(4)
صحيح البخاري (6/ 141) رقم (4859).
(5)
جامع البيان للطبري (22/ 47).
(6)
ينظر: جامع البيان (22/ 47)، وزاد المسير (4/ 188).
وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم زَائِرَاتِ القُبُورِ، وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسرجَ» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ.
•---------------------------------•
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: «وفي هذا التحذير من الغلو في القبور، لهذا نُهى عن تجصيصها، والبناء عليها، والكتابة عليها؛ خوفًا من هذا المحظور العظيم الذي يجعلها تُعْبَد من دون الله» (1).
ومناسبة الأثر للترجمة: أن سبب عبادة اللاتِّ أنهم غلوا في ذلك الرجل؛ لأجل صلاحه حتى عبدوه، وصار قبره وثنًا من أكبر أوثان المشركين في الجاهلية (2).
«وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ الله
…
» الحديث رواه أصحاب السنن، وفي سنده ضعف (3).
(1) القول المفيد (1/ 426).
(2)
ينظر: فتح المجيد ص (249)، وقرة عيون الموحدين ص (116)، وحاشية كتاب التوحيد ص (166)، والتمهيد لشرح كتاب التوحيد ص (272، 273)، وإعانة المستفيد (1/ 305)، والملخص في شرح كتاب التوحيد ص (180).
(3)
أخرجه الطيالسي في مسنده (4/ 454) رقم (2856)، وابن الجعد في مسنده ص (224) رقم (1500)، وابن أبي شيبة في المصنف (2/ 151) رقم (7549)، و (3/ 30) رقم (11814)، وأحمد في المسند (3/ 471) رقم (2030)، و (4/ 363) رقم (2603)، و (5/ 128) رقم (2984)، و (5/ 227) رقم (3118)، وأبو داود في السنن (3/ 218) رقم (3236)، ، والطَّحَاوي في شرح مشكل الآثار (12/ 178) رقم (4741)، والصيداوي في معجم شيوخه ص (265) من طريق شعبة بن الحجاج،
وقرن الصيداوي مع شعبة (الحسن بن أبي جعفر الجفري)، و (الحسن بن دينار)، و (أبو الربيع السمان)، و (محمد بن طلحة بن مصرف)، والحاكم في المستدرك (1/ 530) رقم (1384)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 130) رقم (7206)،