الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ الخَوْفِ مِنَ الشركِ
وَقَوْلِ الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
•---------------------------------•
مقصود الترجمة بيان خطورة الشرك، فإنه لَمَّا ذكر في الأبواب السابقة فضل التوحيد وتحقيقه ناسب أن يذكر ما يضاده وهو الشرك بالله؛ لأن الشيء يُعْرَفُ بضده، وقديمًا قيل:
ضِدَانِ لَمَّا استَجمَعَا حَسُنَا
…
وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ
وأراد المصنف أن يبين أيضًا أَنَّ العبد مهما بلغ من الإيمان فإنه لا يأمن على نفسه الفتنة، فقد يقع في الشرك وهو لا يعلم، وقد يقع فيه لضعفٍ أو عجزٍ أو مصلحة أو رهبة ونحو ذلك.
وقوله: «بَابُ الخَوْفِ مِنَ الشركِ» أي: باب وجوب الخوف من الشرك، والشرك يعم الأكبر والأصغر؛ لأن كلمة (الشرك) جاءت محلاة بـ (ألـ)، فتشمل نوعي الشرك.
«وَقَوْلِ الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}» هذه الآية بينت أن كل صاحب ذنب تحت مشيئة الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم يكن ذنبه شركًا بالله.
قال ابن الجوزي رحمه الله: «والمراد من الآية لا يغفر لمشرك مات على شركه، وفي قوله:(لمن يشاء) نعمة عظيمة من وجهين:
أحدهما: أنها تقتضي أن كل ميت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب وإن مات مُصِرًّا.
والثاني: أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين وهو أن يكونوا على خوف وطمع» (1).
فإن قِيل: ماذا عن الشرك الأصغر هل يأخذ حكم الشرك الأكبر فيدخل في عموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، أم أنه يأخذ حكم الكبائر ويكون تحت المشيئة، ويدخل في عموم قوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ؟
الجواب: أن هذه مسألة مختلف فيها، فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في بعض المواضع أنه «قد يقال: الشرك لا يغفر منه شيء لا أكبر ولا أصغر على مقتضى عموم القرآن، وإن كان صاحب الشرك الأصغر يموت مسلمًا، لكن شركه لا يغفر له بل يعاقب عليه وإن دخل بعد ذلك الجنة» (2).
ونقل عنه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله في موضع آخر القول بغفران الشرك الأصغر، فقال:«شيخ الإسلام ابن تيمية المحقق في هذه المسائل اختلف كلامه في هذه المسألة، فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر، وعلى كل حال فيجب الحذر من الشرك مطلقًا؛ لأن العموم يحتمل أن يكون داخلًا فيه الأصغر» (3).
(1) زاد المسير (1/ 418).
(2)
الرد على البكري ص (146).
(3)
القول المفيد (1/ 114).
وَقَالَ الخَلِيلُ عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} .
•---------------------------------•
«وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}» الخليل هو إبراهيم عليه السلام، وسمي بالخليل لأن الله سبحانه اتخذه خليًلا، كما قال تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125].
ووجه مناسبة الآية للترجمة: أنه إذا كان إبراهيم عليه السلام يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام، فما ظنك بغيره؟ ! وهذا يوجب للقلب الحي أن يخاف من الشرك، لا كما يقول الجهال: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، ولهذا أَمِنُوا الشرك فوقعوا فيه.
ومعنى هذا الدعاء: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} أي: اجعلني وإياهم جانبًا بعيدًا عن عبادتها والإلمام بها (1).
وفي هذا إشارة إلى وجوب الخوف من الشرك، فمع هذه المنزلة العظيمة التي نالها إبراهيم عليه السلام من ربه، ومع أنه قاوم الشرك وكسر الأصنام بيده، وتعرض لأشد الأذى في سبيل ذلك حتى ألقي في النار، مع ذلك خاف على نفسه من الوقوع في الشرك، لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، والحي لا تؤمن عليه الفتنة (2)؛ ولذا قال إبراهيم التيمي:«من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم» (3).
(1) ينظر: تفسير السعدي ص (426).
(2)
ينظر: إعانة المستفيد (1/ 96).
(3)
تفسير الطبري (17/ 17).
وَفِي الحَدِيثِ: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشركُ الأَصْغَرُ، فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: الرِّيَاءُ» رواه أحمد من حديث محمود بن لبيد.
•---------------------------------•
حديث محمود بن لبيد عند أحمد، والبيهقي وغيرهما (1)، وهو مرسل.
(1) أخرجه إسماعيل بن جعفر في (حديث علي بن حجر عنه) ص (447) رقم (384)، وأحمد في المسند (39/ 40) رقم (23631)، و (39/ 43) رقم (23636)، والبغوي في شرح السنة (14/ 323، 324) رقم (4135)، والبيهقي في شعب الإيمان (9/ 154) رقم (6412) من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب،
وابن أبي شيبة في المصنف (2/ 227) رقم (8403)، وابن خزيمة في صحيحه (2/ 67) رقم (937)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 413) رقم (3585)، وشعب الإيمان (4/ 502) رقم (2872) من طريق سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة،
كلاهما (عمرو بن أبي عمرو، وسعد بن إسحاق) عن عاصم بن عمر بن قتادة الظَّفَرِيِّ، عن محمود بن لبيد، مرفوعًا، ولفظه في رواية عمرو:«أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشركُ الأَصْغَرُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ، إِنَّ اللهَ -يَقُولُ يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ-: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً» . ولفظه في رواية سعد بن إسحاق: «أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا؛ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ» .
وهو مرسل؛ لأن محمود بن لبيد لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عدَّه ابن سعد في الطبقات (5/ 77)، ومسلم كما في تهذيب التهذيب (10/ 66) من التابعين، وقال المزي في تهذيب الكمال (27/ 309):«ولم تصح له رؤية ولا سماع من النبي صلى الله عليه وسلم» .
وجاء في رواية عند أحمد في المسند (39/ 39) رقم (23630) من طريق عمرو بن أبي عمرو عن محمود بن لبيد فسقط عاصم الظَّفَرِيُّ من إسناده.
وأخرجه - بلفظ رواية سعد بن إسحاق - البيهقي في السنن الكبرى (2/ 413) رقم (3585) وجعله من حديث محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله مرفوعًا.
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/ 253) رقم (4301) وجعله من حديث محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج مرفوعًا.
«أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشركُ الأَصْغَرُ» دل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم يخاف على أصحابه مع قوة إيمانهم من الشرك الأصغر، فنحن مع ضعف إيماننا وقلة معرفتنا يجب أن نخاف من الشركين الأصغر والأكبر من باب أولى.
«فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: الرِّيَاءُ» الرياء لغة: مشتق من الرؤية، يقال: راءيتُه، مراءاة، ورياء، إذا أريتُه على خلاف ما أنا عليه (1).
والرياء في الشرع: إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها (2).
والرياء ينقسم -باعتبار إبطاله للعبادة- إلى قسمين (3):
الأول: أن يكون في أصل العبادة، أي ما قام يتعبد إلا للرياء؛ فهذا عمله باطل مردود عليه؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا:«قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» (4).
الثاني: أن يكون الرياء طارئًا على العبادة، أي: أن أصل العبادة لله، لكن طرأ عليها الرياء؛ فهذا ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يدافعه؛ فهذا لا يضره.
القسم الثاني: أن يسترسل معه؛ فهذا باطل، ولكن هل هذا البطلان يمتد إلى جميع العبادة أو لا؟
(1) ينظر: جمهرة اللغة (1/ 236)، والمصباح المنير (1/ 247).
(2)
ينظر: فتح الباري (11/ 336).
(3)
هذا التقسيم مستفاد من القول المفيد (1/ 117 - 119) بتصرف.
(4)
أخرجه مسلم (4/ 2289) رقم (2985).
وَعَن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ الله نِدًّا دَخَلَ النَّارَ» . رواه البخاري.
•---------------------------------•
لا يخلو هذا من حالين:
الحال الأولى: أن يكون آخر العبادة مبنيًّا على أولها، بحيث لا يصح أولها مع فساد آخرها؛ فهذه كلها فاسدة.
مثال ذلك: الصلاة فلا يصح أولها مع فساد آخرها.
الحال الثانية: أن يكون أول العبادة منفصلًا عن آخرها، بحيث يصح أولها دون آخرها، فما سبق الرياء؛ فهو صحيح، وما كان بعده؛ فهو باطل.
مثال ذلك: رجل عنده مائة ريال، فتصدق بخمسين بنية خالصة، ثم تصدق بخمسين أخرى بقصد الرياء؛ فالأولى مقبولة، والثانية غير مقبولة؛ لأن آخرها منفك عن أولها.
«وَعَن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
…
» الحديث في الصحيحين (1).
«مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ الله نِدًّا» (مَنْ) شرطية، ويحتمل أنها موصولة، وهي من ألفاظ العموم، فتعمُّ الذكر والأنثى والعالم وغير العالم.
وقوله: «وَهُوَ يَدْعُو» يشمل الدعاء بقسميه: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.
وقوله: «مِنْ دُونِ الله نِدًّا» الند هو: الشَّبيه والمثيل والنَّظير، و (نِدًّا) هنا جاءت نكرة في سياق الشرط، فتعم كل نِدٍّ.
«دَخَلَ النَّارَ» هذا جواب الشرط، وإذا قلنا: إنها موصولة، فالجملة خبر المبتدأ، والمعنى: دخل النار خالدًا فيها؛ لأن الشرك يخلد صاحبه في النار.
(1) صحيح البخاري (6/ 23) رقم (4497)، وصحيح مسلم (1/ 94) رقم (92).
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشركُ بِهِ شيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشركُ بِهِ شيئًا دَخَلَ النَّارَ» .
•---------------------------------•
«وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
…
» الحديث. أخرجه مسلم في صحيحه (1) كما ذكر المصنف.
«مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشركُ بِهِ شيئًا» أي: من لم يتخذ معه شريكًا في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة، ومن المعلوم من الشرع المُجْمَع عليه عند أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ من مات على ذلك، فلا بُدَّ له من دخول الجنة، وإن جَرَت عليه قبل ذلك أنواعٌ من العذاب والمحنة، وإن مات على الشرك لا يدخل الجنة، ولا يناله من الله تعالى رحمة، ويخلدُ في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آباد، وهذا معلوم ضروري من الدين، مجمع عليه بين المسلمين (2).
وقوله في الحديث: «شيئًا» نكرة في سياق الشرط؛ فتفيد العموم، والمراد لا يشرك مع الله غيره لا في الربوبية ولا في الألوهية ولا في الأسماء والصفات.
ومناسبة الحديثين للترجمة: أنَّ الشرك تترتب عليه عواقب وخيمة إذا مات الإنسان قبل أن يتوب منه، ومن هذه العواقب خلوده في النار، وهذا أكبر مُخَوِّف عن الشرك.
هل المشرك يخلد في النار؟
- مسألة: هل المشرك يُخَلَّد في النار؟
الجواب: أنَّ هذا بحسب الشرك، إن كان الشرك أصغر، فإنه لا يلزم من ذلك الخلود في النار، وإن كان أكبر؛ فإنه يلزم منه الخلود في النار، وهذا هو مقتضى الآيات الواردة في كتاب الله عن الشرك.
(1) صحيح مسلم (1/ 94) رقم (93).
(2)
المفهم (1/ 290).