الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ مَا جَاءَ فِي حِمَايِةِ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم جَنَابَ التَّوْحِيدِ
وَسَدهِ كُلَّ طَرِيقٍ يُوصِلُ إِلَى الشركِ
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
•---------------------------------•
مقصود الترجمة: إبراز حماية النبي صلى الله عليه وسلم لمقام التوحيد من كل ما ينقضه أو ينقصه، وسد الذرائع المؤدية إلى الشرك بالله تعالى (1).
وأما مناسبة الباب للأبواب قبله فهي في غاية الوضوح والظهور؛ إذ إن الأبواب السابقة عُقِدَت لبيان الأسباب المؤدية إلى الشرك، وهذا الباب عُقِدَ أيضًا لهذا الغرض، ولكن الأبواب السابقة كانت خاصةً، ً بجزئيةٍ معينةٍ في موضوع ذرائع الشرك، وأما هذا الباب فهو عام في حماية جناب التوحيد بكل ما تحمله هذه العبارة من معنى؛ ولذلك فصنيع المؤلف هنا هو من باب التعميم بعد التخصيص، وهذا أسلوبٌ عربيٌّ بلاغيٌّ قرآنيٌ، ومنه قوله تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ} (2) الآية [النبأ: 38](3).
{لَقَدْ جَاءَكُمْ} : الخطاب للعرب، أي جاءكم أيها القوم، رسول الله إليكم، {مِّنْ أَنفُسِكُمْ}: أي هو بشر مثلكم، تعرفونه، وهو عربي كما أنكم من العرب، وأنتم تعرفونه، وقد وقفتم على مذهبه، فهو أوكد لإقامة الحجة عليكم؛ لأنكم تفهمون عمن هو مثلكم ولم يكن من غيركم؛ فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم.
(1) ينظر: تيسير العزيز الحميد ص (292)، وإعانة المستفيد (1/ 309).
(2)
هذا على القول بأن الروح هو جبريل عليه السلام.
(3)
ينظر: تيسير العزيز الحميد ص (292)، وإعانة المستفيد (1/ 309).
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} : أي: يعز عليه عنتكم، وهو دخولكم في المشقة، وحصول المكروه والأذى لكم (1).
{حَرِيصٌ عَلَيْكُم} : أي: شديد الحرص على هدايتكم، وحريص على دخولكم الجنة، وحريص عليكم أن تؤمنوا، وحريص على توبتكم ورجوعكم إلى الله (2).
{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} : تقديم المؤمنين بالذكر يفيد التخصيص، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والاختصاص، أي أن الرأفة والرحمة خاصة بالمؤمنين دون الكافرين، وأما الرحمة العامة فهو عليه الصلاة والسلام رحيم بالمسلم والكافر، ومن رحمته بالكفار حرصه على دعوتهم وهدايتهم؛ ولذلك أمثلة كثيرة في السنة.
والرؤوف: معناه المبالغ في الشفقة، والمعنى: شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين، فهو أرحم بهم من والديهم؛ فيرأف بالمطيعين ويرحم المذنبين (3).
(1) ينظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/ 477)، وتفسير الطبري (12/ 96).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (12/ 96)، وتفسير القرطبي (8/ 302).
(3)
ينظر: المحرر الوجيز لابن عطية (3/ 100)، وتفسير البغوي (4/ 116).
(4)
قرة عيون الموحدين ص (118).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله? : «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
•---------------------------------•
«عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ» الحديث رواه أبو داود وغيره (1)، وفي سنده عبد الله بن نافع وفي حفظه لين، وللحديث شواهد تقويه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «ومثل هذا يخاف أن يغلط أحيانًا، فإذا كان لحديثه شواهد عُلِمَ أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة» (2).
«لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا» : أي لا تجعلوا بيوتكم كالقبور الخالية عن ذكر الله تعالى وعبادته؛ لأن القبور غير صالحة لذلك؛ فتتركوا الصلاة فيها، وذكر الله عز وجل، ودعاءه، وضرب المثال بالقبور؛ لأنها معروفة ومعهودة بهذه الصفة حسًّا وشرعًا.
(1) أخرجه أحمد في مسنده (14/ 403) رقم (8804)، من طريق سريج،
وأبو داود في سننه (2/ 218) رقم (2042)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 52، 53) رقم (3865)، وفي كتاب حياة الأنبياء في قبورهم ص (95) رقم (14) من طريق أحمد بن صالح،
والطبراني في الأوسط (8/ 81، 82) رقم (8030)، من طريق مسلم بن عمرو الحذاء المديني،
ثلاثتهم (سريج، وأحمد بن صالح، ومسلم بن عمرو) عن عبد الله بن نافع، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال الحافظ ابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص (308): «هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد كثيرة يرتقى بها إلى درجة الصحة» .
وقد صحح الحديث: النووي في رياض الصالحين ص (396)، وابن حجر في الفتح (6/ 448)، وعبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد ص (258)، وشعيب الأرناؤوط ومجموعته في تحقيق سنن أبي داود (3/ 385)، وحَسَّنه شيخ الإسلام في الاقتضاء (2/ 170)، وابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 191)، والسخاوي في المقاصد الحسنة ص (423).
(2)
الرد على الإخنائي ص (105).
وفي ذلك أمرٌ بأداء العبادة من صلاةٍ وغيرها في البيوت، ونهيٌ وتحذيرٌ عن فعلها في القبور، وهذا ما يفعله أهل الشرك من النصارى، ومن تشبه بهم من القبوريين (1).
«وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا» : «العيد: اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائد: إما بعود السنة، أو بعود الأسبوع، أو الشهر، أو نحو ذلك» (2).
ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض؛ لاحتوائه أفضل مقبور، وقد نهى عن اتخاذه عيدًا. فقبر غيره أولى بالنهي كائنًا من كان (4).
قال ابن القيم رحمه الله: «نهيه لهم أن يتخذوا قبره عيدًا: نهي لهم أن يجعلوه مجمعًا كالأعياد التي يقصد الناس الاجتماع إليها للصلاة، بل يُزار قبره صلوات الله وسلامه عليه كما كان يزوره الصحابة رضوان الله عليهم، على الوجه الذي يرضيه ويحبه، صلوات الله وسلامه عليه» (5).
(1) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 172)، وشرح المشكاة للطيبي (3/ 1043).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 496).
(3)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد ص (276)، وينظر: شرح المشكاة للطيبي (3/ 1043).
(4)
اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 172).
(5)
حاشية على سنن أبي داود (6/ 23).
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسينِ رضي الله عنه أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إِلى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيَدْعُو، فَنَهَاهُ وَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ» . رَوَاهُ فِي المُخْتَارَةِ.
•---------------------------------•
«فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ» : أي متى ما صليتم عليَّ فإن هذه الصلاة تبلغني حيثما كنتم في برٍّ أو بحرٍ أو جوٍّ، قريبين كنتم أو بعيدين؛ فلذلك لا ينبغي أن تتكلفوا المعاودة إلي فإن الصلاة عَلَيَّ تغنيكم عن ذلك (1).
وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم، وإلى غيره من القبور والمشاهد؛ لأن ذلك من اتخاذها أعيادًا، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى» (2).
«وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسينِ رضي الله عنه أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا» رواه الضياء المقدسي في المستخرج من الأحاديث المختارة، وابن أبي شيبة وغيرهما. وقد ذكر شيخ الإسلام (3) أنه حديثٌ ثابتٌ وله شواهد (4).
(1) ينظر: تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 307)، وشرح المشكاة للطيبي (3/ 1043)، وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين (5/ 478)، وتطريز رياض الصالحين ص (767).
(2)
أخرجه البخاري (2/ 60) رقم (1189)، ومسلم (2/ 1014) رقم (1397).
(3)
في الرد على الإخنائي ص (346).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2/ 150) رقم (7542)، وأبو يعلى في مسنده (1/ 361) رقم (469)، والضياء المقدسي في المختارة (2/ 49) رقم (428)، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب، عن جعفر بن إبراهيم، من ولد ذي الجناحين، عن علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده.
«رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إِلى فُرْجَةٍ» : (الفُرْجَة): -بضم الفاء وفتحها لغتان، وكسر الراء- مفرد (فُرَج)، وهي الخلل والشق بين الشيئين، أي: هي الفتحة والكُوَّة في الجدار ونحوه (1).
«لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا» : هذه الجمل سبق شرحها في الحديث السالف، فأغنى ذلك عن الإعادة.
وفي معنى الجملة الثانية عدة أحاديث أخرى:
ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» (2).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» (3).
وأخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ص (35، 36) رقم (20) بإسنادٍ أعلى من هذا، فقال:(حدثنا جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عمن أخبره من أهل بلده، عن علي بن حسين بن علي) فذكر بقية الإسناد والمتن، ولكن نلاحظ أنه أبهم راويًا، وأسقط الآخر من الإسناد.
والحديث (فيه حفص بن إبراهيم الجعفري، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحًا، وبقية رجاله ثقات) ينظر: مجمع الزوائد (4/ 3)، وقد حسَّن الحديث السَّخَاوي في المقاصد الحسنة ص (423)، والعجلوني في كشف الخفاء (2/ 28)، وجَوَّد إسناده سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد ص (299).
(1)
ينظر: ينظر: البارع في اللغة لأبي علي القالي ص (669)، ومجمل اللغة لابن فارس ص (719).
(2)
صحيح البخاري (1/ 166) رقم (422)، وصحيح مسلم (1/ 538) رقم (777).
(3)
صحيح مسلم (1/ 539) رقم (780).
قوله: «وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ» : «المراد: صلوا عليَّ في أي مكان كنتم، ولا حاجة إلى أن تأتوا إلى القبر وتسلموا عليَّ وتصلوا عليَّ عنده» (1).
ومناسبة هذا الحديث والذي قبله للباب وللتوحيد: هو أن هذين الحديثين قد دَلَّا على تحريم اعتياد قبر النبي عليه الصلاة والسلام لأجل الدعاء، وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم حِمَاية لحِمَى التوحيد، وسدًّا للطريق الموصلة إلى الشرك بالله ونهى عن اتخاذ قبره عليه السلام عيدًا ومسجدًا خشية الشرك بالله، فما بالك بقبور غيره من الأنبياء والصالحين، فهذه أولى ثم أولى (2).
(1) القول المفيد (1/ 451).
(2)
ينظر: التمهيد لشرح كتاب التوحيد ص (277)، والملخص في شرح كتاب التوحيد ص (187)، والجديد في شرح كتاب التوحيد ص (205).